` `

مصطلح "ما بعد الحقيقة"، ولماذا أصبح الأكثر رواجاً؟

هو ما تحدثت عنه عالمة الأعصاب سوزان غرين فيلد، حين وصفت أنَّ عقولنا تتأقلم بشكل حسِّي، ويعاد ترتيب خلاياها بشكلٍ جديدٍ، فيضمر بعضها، ويتطور آخر، بحسب ما تحتاجه الوسائط من حواس وقدرات لدى الإنسان.
أسماء الغول أسماء الغول
تكنولوجيا
21 يناير 2020
مصطلح "ما بعد الحقيقة"، ولماذا أصبح الأكثر رواجاً؟

أصبح مصطلح "ما بعد الحقيقة Post-Truth" رائج الاستخدام في السنوات الأخيرة، بعد ازدياد شهرة وسائل التواصل الاجتماعي، إذ أصبحت مركز التواصل الأول بين عامة الناس، ومصدرهم للمعلومات والأخبار، بعد أن كان المذياع والتلفاز يقومان بذلك، لكن لكل مرحلة ما يناسبها من وسائل التواصل.

وهو ما تحدثت عنه عالمة الأعصاب سوزان غرين فيلد، حين وصفت أنَّ عقولنا تتأقلم بشكل حسِّي، ويعاد ترتيب خلاياها بشكلٍ جديدٍ، فيضمر بعضها، ويتطور آخر، بحسب ما تحتاجه الوسائط من حواس وقدرات لدى الإنسان.

إنَّ المُتلقِّي حين كان يعتمد على التواصل الشفوي كوسيط، كان مختلفاً تماماً بصفاته العقلية عن اليوم، كذلك بيئته وطريقة تكيُّفه؛ فالوسائط القديمة يختلف حال جماهيرها عن الآن، وغالباً ما كان التجانس بينها حِسِّياً، عكس عصر ما بعد التكنولوجيا الحديثة، إذ يحدث التجانس افتراضياً، ما يترك المتلقي في الواقع بحالة عزلة وحيرة إذا كان ما يجربه صادقاً أم أنه يعيش في الأوهام، وإذا كان ما يقرأه صحيحاً أم أنه يعطي الثقة لجهة تقدم له معلومة مضللة.

ومن هنا ظهر مفهوم "ما بعد الحقيقة" والمقصود به؛ السياقات التي تكون خلالها الحقائق أقلَّ تأثيراً في توجهات الجمهور من الادعاءات غير الدقيقة التي تركز على المعتقدات والانحيازات الشخصية. بمعنى آخر، تصبح العاطفة ومشاعر الأفراد الفيصل في الحكم على المعلومات، وليس مجريات الواقع فعلياً.

وبدأ انتشار مفهوم Post-Truth بعد أن قام قاموس أوكسفورد عام 2016، باختيار المصطلح ككلمة العام، وهو تقليد سنوي يختار فيه القاموس الكلمة الأكثر تأثيراً والأكثر رواجًا في التداول العام.

كما نشر أوكسفورد دلالة المصطلح بالقول إنها "الظروف التي تكون فيها الحقائق الموضوعية أقل تأثيراً في صياغة الرأي العام مقارنة بالاحتكام إلى العواطف والقناعات الشخصية".

ويرجع في الأساس المصطلح إلى كتاب رالف كيس الصادر عام 2004 بعنوان "عصر ما بعد الحقيقة: التضليل والخداع في الحياة الراهنة"، قاصداً تماهي الحدود الفاصلة بين الحقيقة والكذب والخيال، وهيمنة النسبية والغموض على التفاعلات السياسية.

واكتسب مفهوم "ما بعد الحقيقة" زخماً متصاعداً عقب انتخاب الرئيس الأميركي دونالد ترامب في عام 2016، وتصويت البريطانيين لمصلحة الانفصال عن الاتحاد الأوروبي، إذ تصاعد استخدام هذا المصطلح بنسبة كبيرة؛ كما وُجهت إلى "فيسبوك" اتهامات واسعة بأنَّ الأخبار الكاذبة والمزيفة التي انتشرت من خلال الموقع الاجتماعي لعبت دوراً كبيراً في التأثير على الرأي العام الأميركي بشكل كبير، ما أدى إلى فوز ترامب.

وفي إدراك صريح من شركة فيسبوك لصحة تلك الاتهامات، أعلنت عن حملة جديدة للتصدي للأخبار الكاذبة والحسابات الوهمية، لا سيما حين أخذت تلك الاتهامات منحى أكثر جدية، بعد بدء التحقيق الذي يجريه مكتب التحقيقات الفيدرالية في قضية التدخل الروسي في الانتخابات الرئاسية الأميركية، وقيام روسيا باستخدام مواقع التواصل الاجتماعي لأجل ضمان ذلك الفوز.

وكان المحرر الرئيسي لمعجم أكسفورد Caspr Grathwohle  قال حين اختار المصطلح ككلمة العام إنَّ المفهوم اكتسب أهمية بعد تنامي الاعتماد على مواقع التواصل الاجتماعي كمصدر للأخبار وغياب الثقة بالأخبار المقدّمة من المصادر الرسمية، فقد أخذت عمليات التضليل الإعلامي والدعاية منحى جديدا، بعد ظهور مواقع التواصل الاجتماعي، ما حفز النخب السياسية على دعم أساليب جديدة في "البروباغندا"، تعتمد في بعضها على نشر الأخبار الكاذبة والمزيفة.

أما الكاتب والباحث الفلسطيني السوري ياسر أبو شقرا، فلا يرى أنَّ سبب رواج المصطلح سياسياً، قائلاً لـ"مسبار" : "لا أعتقد أنَّ سبب الرواج سياسيٌّ بحت، إنما أتصور المصطلح كتعريف عريض للفترة لا ينحصر بمعنى أو تمثيل في مجال معين من المجالات الإنسانية، كما كانت فترة الحداثة سابقاً، والتي تلتها فترة ما بعد الحداثة، اليوم نحن نعيش في فترة ما بعد الحقيقة، وهذا يأخذني مباشرة إلى السؤال الأخير، ما إذا كانت الحقيقة موجودة فعلاً أو لا.. من يدري؟ هناك الكثير من النظريات التي تؤكد وتنفي هذا السؤال، لكن ما يحاول المصطلح التركيز عليه، هو ضياع الحقيقة في عصر التشويش الناجم عن غزارة المعلومات".

وأضاف في حديث خاص لـ "مسبار": "أما وجود الحقيقة نفسها أعتقد أنه أمرٌ مسلَّمٌ به من وجهة نظري. بشار الأسد يقصف سوريا بالطائرات، هذه حقيقة لمسناها بأيدينا، إنما ضخ المعلومة على وسائل التواصل الاجتماعي بغزارة، وكثرة التحليلات، وإتاحة المجال لأي شخص بإبداء رأيه سيؤدي بالضرورة إلى كمية مهولة من المعلومات التي لا يمكن التأكد من صحتها وكذبها، ما يجعل التشويش هو المسيطر على المعلومات، وبالتالي ضياع الحقيقة الذي يسبقه ضياع الشغف بالبحث العلمي الدقيق أساساً".

وأوضح أنه من الصعب اعتبار مصلح ما بعينه على أنه تعبير حقيقي عما يحدث في العالم، خصوصاً إذا كان المصطلح راهناً، ويأخذ الكثير من المعاني في محاولة لاختزال كل التغييرات التي يخضع لها العالم على جميع الأصعدة.

المصادر

لقاء مع الباحث ياسر أبو شقرا

إضاءات

الأوان

الجديد

الأكثر قراءة