` `

انتبه! تم اختراقك.. كيف حدث هذا؟

حارث الطوس حارث الطوس
تكنولوجيا
3 مارس 2020
انتبه! تم اختراقك.. كيف حدث هذا؟

هل ظهر لك إعلان من قبل وانت تتصفح شيئاً كنت تتحدث لتوك عنه؟ كأن تتحدث مع صديقك عمّا ستتناولان على الغداء، فتبدأ اعلانات المطاعم القريبة بالظهور! هذا ما يبدأ به الفيلم تحديداً، مقابلة مع د. الإعلام الرقمي في جامعة كولومبيا ديفيد كارول موضحاً هذه الفكرة، هي الخوارزميات تتوقع تصرفاتنا بدقّة، فتظهر الإعلانات بصورة دقيقة، ما يوحي بأنهم يتنصتون علينا.

وهذا ما يؤسس لضخامة صناعة الإنترنت في يومنا هذا، فبعد أن بدأ الأمر بأناس يحلمون بعالم متصل مترابط، مساحة يتشارك فيها الجميع، سرعان ما أصبح محوراً أساسياً في حياتنا، يتقابل الناس فيه، يتحقق من صحة المعلومات، ويقوم بدور مدرّبك الشخصي عبر تطبيقاته، ويحتفظ بذكرياتك، وبهذا فإن نشاطاتنا على الإنترنت لا تختفي أو تتبخّر، وعندما تبحث أكثر تدرك أنها تترك آثاراً رقمية، وهذه الآثار تُجمع وتحفظ، لتتحوّل إلى قطاع صناعيّ ضخم يدرّ تريليون دولار سنوياً، بالفعل، لقد أصبحنا الآن أشبه بسلعة.

هذه الفكرة يقوم عليها فيلم "الاختراق العظيم" وثائقي على شبكة نيتفليكس انتاج 2019، عبر تتبّع فضيحة كامبريدج أنالتيكا الشهيرة في أميركا، التي رُوّج لها كجزء من تلاعب ممنهج في الانتخابات الأميركية التي فاز بها دونالد ترامب عام 2016، ففي هذا الوثائقي تعيد نيتفليكس رواية التحقيق الذي جرى من خلال الشخصيات الأولية فيه.

فيلم الاختراق العظيم يوثق في مسارات متوازية قصة ثلاث شخصيات محورية، في سعيها نحو كشف ما فعلته كامبريدج أنالتيكا، وطبيعة أدواتها المستخدمة في التأثير.

البداية من ألامو

"ألامو" أو القسم الرقمي في حملة ترامب الانتخابية، عندما وصل ذروته كان يصرف مليون دولار يومياً على إعلانات موقع فيسبوك ومواقع التواصل الاجتماعي، وبطبيعة الحال ضم مجموعة متخصصين، من بينهم شركة بريطانية تدعى كامبريدج أنالتيكا التي كانت بمثابة (العقل ومركز البيانات)، فتشير على ألامو أين يستهدفون بإعلاناتهم ومن يستهدفون، كيف عرفوا ذلك؟ تلك وصفتهم السحرية.

لكي يتم استهداف أناس بعينهم، لابد من جمع بيانات كافية عنهم لتحديدهم وتحديد الرسالة التي تستهدفهم، وهو ما ادعته كامبريدج أنالتيكا، إنها تمتلك 5000 نقطة بيانات لكل ناخب أميركي يحللون بها شخصيته، لكن كيف يمكنك إظهار ما يخفيه الناس.. بل كل الناس؟

"الحق في البيانات، هو من حقوق الانسان"

من بين 157 مليون شخص شاركوا في انتخابات الرئاسة الأميركية، شخص واحد فقط طرح سؤالاً بسيطاً ومفصلياً، هل يمكنني الحصول على معلوماتي منكم؟ كان اسمه ديفيد كارول، ليخوض رحلة قانونية طويلة في المحاكم البريطانية طالباً أن تسلّمه هذه خمسة آلاف نقطة عن نفسه، ليتقاطع في رحلته مع كارول كادوالدر، صحفية استقصائية بريطانية تبنّت قضية تأثير كامبريدج أنالتيكا في انتخابات خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وهناك أيضاً بريتا نيكايزر، موظفة كامبريدج أنالتيكا ومبرمة صفقاتهم التي قرّرت الخروج وكشف ما لديها.

كانت كامبريدج أنالتيكا قد عملت على مدار 14 شهراً مع تيد كروز المرشح المنافس لترامب عن الحزب الجمهوري، واستطاعت عبر استطلاعات رأي واستبانات لمئات الآلاف من المواطنين أن تجمع بيانات مهولة عنهم، وتنتج أبحاثاً نفسيةً عنهم، وتقدمّها لفريق حملة ترامب الانتخابي.

الشخصية تؤثر على السلوك والتصرفات، وهذه التصرفات هي ما تؤثر على قرار التصويت، بمعنى آخر، عبر تحديد شخصيات الجمهور المستهدف بدقة كان بإمكان حملة ترامب توجيه رسائل سياسية معينة لهم، عن فساد هيلاري كلينتون، مقاطع لترامب ينتقد الفساد.. وهكذا دواليك إلى أن فاز ترامب حقاً.

"القابلين للإقناع" هم من استهدفتهم كامبريدج أنالتيكا على "فيسبوك"، في ما يسمّى بالولايات المتأرجحة التي لا تصنف على أنها ديمقراطية أو جمهورية، وتم تصميم محتوى مخصّص لهم (قد يتضمن أخباراً زائفة مثلاً) في كلّ المنصات المتاحة، يمكن قلب المزاج الانتخابي من ديموقراطي لجمهوري، ببساطة عبر أدوات (sponsored / recommended) وغيرها أصبح بإمكان أي جهة أن تريهم العالم الذي ترغب به هي.

في نهاية الفيلم يدرك المُشاهد أن شركة كامبريدج أنالتيكا رفضت تزويد ديفيد كارول ببياناته، كما أن ابنته بعمر الثامنة عشر، سيكون هناك 70 ألف نقطة بيانات عنها، ولن تستطيع استرجاعها أو الحصول عليها.

كيف تؤثر على حياتنا؟

"حلم بناء عالم متصل قد مزقنا.. وباتت اليوم سلاحاً، وما عاد من الممكن أن نعرف حقيقة الأمور"

في ترينداد كان هناك حزبين يتنافسان، عملت كامبريدج أنالتيكا مع الحزب الممثل للهنود، وقدمّت فكرة تتمحور حول العزوف عن الانتخابات، سيستهدفون بها الشباب السود المنافسين، وبطبيعة الحال فلن يكون الاستهداف سياسياً، بل أسموه تفاعلياً، كأن تنخرط في فرقة مثلاً أو مجموعة رقص، وأسموا الحملة "افعلها"، وكان معناها الضمني لن أصوّت، وتحولت لحركة منظمة كبيرة عازفة عن التصويت، حركة احتجاجية ليس في وجه الحكومة، إنما في وجه السياسة والتصويت.

كانت أبحاثهم تقول أن السود لن يصوتوا لأنهم "سيفعلونها" ويتماشون مع الحملة، أما الشباب الهنود فإنهم سيفعلون ما يمليه عليهم آباؤهم وسيذهبون للتصويت. في النهاية كسب الحزب الوطني المتحد الانتخابات بستة مقاعد لصالحه، وبلغ الفرق في نسبة التصويت بين الشريحتين 18 و 35 عام ما يقارب 40% في المحصّلة، بفارق 6% وهو كل ما يلزم للفوز بانتخابات شديدة التنافس والتقارب.

ومثلها حملات تقودها كامبريدج أنالتيكا سنوياً في 10 بلدان مختلفة، في ماليزيا وليتوانيا ورومانيا وكينيا وغانا ونيجيريا، ففي انتخابات 2016 في الولايات المتحدة، حسمت الانتخابات بفارق 70 ألف صوت فقط في 3 ولايات، هنا ندرك أن هذا العلم وهذا التأثير أصبح عابراً للحدود وتأثيره لا يستهان به.

الوثائقي تجاوز هذا إلى محاولة اثبات أن منصة موقع فيسبوك تم توظيفها في مجازر إبادة جماعية، لصالح عرق معيّن كـ ميانمار مثلاً، ليس فقط التأثير على سير حملات وانتخابات، بل أن يُستخدم من قبل جهات رسمية واستخبارية بطبيعة الحال.

"في حالات تعاطي الأولمبيين للمنشطات، لا يخرج نقاش حول مدى تأثير أو كمية المنشطات هذه على الرياضيين، ما يحدث هو أنه إذا ثبت التعاطي فإنه يُعتبر غشاً وتسحب الميدالية الأولمبية تلقائياً"  بحسب كريستوفر وايلي موظف سابق في كامبريدج أنالتيكا أثناء شهادته في لجنة الثقافة البريطانية.

في قضايا التأثير الاجتماعي كهذه أنت لا تقيس مدى تأثير سوق البيانات هذا على الناخبين، أو على نتيجة التصويت، ما يحدث هنا هو تهديد فجّ لأدبيات هذه الديموقراطيات وقيمها، وتجاوزٌ إلى خلق بيئة خصبة لخطاب معادٍ، وتمويل مباشر للأخبار الزائفة، فيترك الفيلم أسئلة معلّقة، حول ضرورة وجود حراك مطلبي يسعى إلى قوننة الحقوق الرقمية في العالم، وتساؤل أخلاقي حول تأثيرات الذكاء الاصطناعي وعلم البيانات على الأنماط الاجتماعية، وليس ختاماً حول الديموقراطية كأداة لا زالت تصلح موضوعياً لإظهار إرادة الشعوب وتمثيلهم وآراءهم؟

هل تم اختراقنا؟

قد لا تبدو الاجابة ببساطة السؤال، فلكي تكون مخترقاً بالمفهوم الذي يتناوله الوثائقي لا يعني أن يحصل أحدهم على بريدك الإلكتروني وكلمة السر، الأمر هنا متعلق بجمع أكبر قدر من المعلومات عنك عبر تحليل "أثرك الرقمي". وتكمن الأهمية في المحتوى الذي يُقدّم للتأثير بقناعات الأفراد وتوجهاتهم، ومدى أخلاقية هذا الفعل، مستغلين معرفتهم بالسمات النفسية، وعدم الوعي الكافي بخصائص الأمان، فتنتهي لأن تباع بيانات الناس الشخصية.

ما فعلته كامبريدج أنالتيكا هو أنهم طوروا أداةً على "فيسبوك" على غرار "اختبر شخصيتك"، وعند تسجيلك باختبار الشخصية هذه، وموافقتك على الشروط والأحكام، فإنك تلقائياً تتيح لهم الاطلاع على كل بياناتك الشخصية المنشورة على موقع فيسبوك، كذلك بيانات أصدقائك ودائرتك الشخصية على الموقع ذاته، أي أنهم بحاجة لبضعة آلاف من الراغبين بإجراء هذا الاختبار ليتمكنوا من الوصول لجميع الناخبين الأميركيين.

معلومات عما يثير إعجابك سواء كنت ذكراً أم أنثى ربما تبدو هذه الاهتمامات عادية بالنسبة لنا، إلّا أن لها قيمة مادية في حقيقة الأمر، بالتالي فإن استهداف كامبريدج أنالتيكا لم يكن للفرد لكونه ناخباً، وإنما لشخصيته وقناعاته بذاتها، ليس فقط تلاعب بأمة قائمة، وانما استهدافها في عمق ديموقراطيتها الأصيلة، بحسب أحد الموظفين السابقين للشركة.

ما قاله المدير التنفيذي لكامبريدج أنالتيكا أليكس اندرنيكس بنفسه في الفيلم يدل على ملامح المستقبل واستمرار الاختراق العظيم للشعوب ليس عامة بل فرداً فرداً، إذ قال "إن كان هناك ما يمكن تعلّمه من هذا العلم، فهو أن التكنولوجيات هذه تستطيع إحداث فرقٍ لا يستهان به، وستستمر لسنوات عديدة قادمة، مستدلّا بشركته نفسها، التي أصبحت قيمتها بعد نجاح سياستها في الانتخابات تناهز مليار دولار".

الأكثر قراءة