` `

سيكولوجية الأخبار الزائفة

أنس سمحان أنس سمحان
أخبار
24 أبريل 2020
سيكولوجية الأخبار الزائفة
نحن بحاجة إلى تعزيز معايير الأخبار (Getty)

لقد صارت الأخبار الزائفة في العامين الأخيرين موضوعاً مهمّاً وحرجاً في الإعلام، وقد تمثّل ذلك في حجم المقالات المكتوبة مثلاً عن دور مواقع التواصل الاجتماعي في نشر الأخبار الزائفة وكمية مقاطع الفيديو المُتلاعَب بها، ودور كل هذا على السيرورة السياسية والمشهد السياسي المحلي أو العالمي. ما يمكننا أن نقوله أيضاً نحن هنا، أنّ مكافحة مثل هذه الأخبار أو دراستها وتحليلها ليس «إخبارياً» أو «صحفياً» كما يتوقع البعض، وإنمّا علميٌّ بحت، ويقوم على التوعية العقلية ودراسة نوع الأخبار وانتشارها وأثرها على التعاطف، مثلاً، وقدرة البشر على التضامن، أو كيفية التعامل مع الجماهير، وغيرها من الأدوات التي دفعت عدداً كبيراً من المراكز البحثية العلمية (Applied Sciences) لدراسة وفحص الأخبار الزائفة من ناحية بحثية مُجرّدة، وقد خرجت بنتائج حاسمة تُفيد المهتمين بالمجال.

هذه النتائج أوجدت حقلاً أو فرعاً يمكن أن نسميه «علم الأخبار الزائفة»، وقد وجدت ورقة نُشرت في شهر مارس من عام 2018، العديد من الأمور التي لم نكن نعرفها عن هذا العالم، وعمل على هذه الورقة دافيد لايزر وماثيو باوم وأربعة عشر مؤلف مُشارك. عرّفت تلك الورقة الأخبار الزائفة باعتبارها «معلومات مُلفّقة تحاكي محتوى الأخبار الإعلامية في الشكل، ولكن لا تمرّ بنفس العملية التنظيمية، ولا تحمل النية الموجودة عند وسائل الإعلام الموثوقة»، وتستمر الورقة في مناقشة القضية على عدة مستويات: فردية ومؤسساتية ومُجتمعيّة. ما الذي نعرفه عن تعرّض الأفراد للأخبار الزائفة وكيف تؤثّر عليهم؟ كيف يمكن لمنصَّات الإنترنت أن تقيّد تفشّي الأخبار الزائفة؟ وكيف يمكننا أن ننجح على خلق وترويج ثقافة تُقدّر وترفع من قِيمة الحقيقة؟ السؤال الأخير هو الهدف الأساسي والأسمى لكل منصّات فحص الحقائق والتحقق من الأخبار الكاذبة، وهو خلق بيئة نقدية فعالة على مستوى محلي وعالمي، يدفع بالجميع نحو السؤال والنظر إلى ما وراء الأخبار، وما بعد الأخبار (Post-News)، لأن الأمر لا يتطلب أن تكون صحفيًّا لفعلهِ، وإنما أن تكون عاقِلاً ومنطقيًّا.

حاول الباحثون متعددو الخبرات في تلك الورقة المنشورة أن يستفيدوا من ذلك التعدد للوصول إلى نتائج دقيقة، فلايزر وباوم (المؤلفان الرئيسيان) لهما ارتباطات سابقة في علوم الشبكات والعلوم الاجتماعية الكُميّة والتواصل العالمي والسياسة العامة، أما الباحثون الآخرون، فهم من حقول متنوعة مثل القانون وعلم النفس والصحافة والبحث الصناعيّ، وغيرها.

تُجادل الورقة بقوة وإقناع أنّ حقل علم الأخبار الزائفة قد جاء في الوقت المناسب، وأنّ له أهمية عالية، إذ أشار أحد المصادر أنّ الناخِب الأميركي قبل انتخابات 2016 قد تعرّض إلى ما نسبته 1 إلى 3 مقالات أخبار من مواقع تشتهر بنشرها للأخبار زائفة. وعندما يتعلق الأمر بالمواضيع السياسية، فقد وجدت الورقة أنّ التغريدات ذات المحتوى الملفق/الكاذب تنتشر بسرعة عالية وعلى نطاق واسع على موقع تويتر مقارنة بالتغريدات ذات المحتوى الموثوق، وهذا مثير للقلق قطعاً.

من الأسئلة المُهمة التي يجب أن نسألها كيف تؤثر الأخبار الزائفة على سلوك وتصرفات النّاس؟ وهذا سؤال مهم لأهل العلوم الاجتماعية، وخصوصاً للمتخصصين في العلوم النفسية المعرفية. ولهذا، نُرفق هنا مقابلة مع أستاذ العلوم الإدراكية واللغوية والنفسية بجامعة بارون، د. ستيفن سلومان، وهو أحد المؤلفين المشاركين فِي كتابة الورقة البحثية. نشر ستيفن سلومان قبل ذلك كتاباً بعنوان: «وهم المعرفة: لماذا لا نفكر بمفردنا أبداً؟» كتب فيه عن مزايا وعيوب العقول الجمعية التعاونية.

تجمع ورقتك العلمية جمعاً غير عادي لمؤلفين وباحثين من تخصصات مختلفة (أكاديمية أو صناعية). ما الذي جمعكم على مائدة الأخبار الزائفة؟

الانتخابات الأميركية عام 2016 وتبعاتها المباشرة، حيث المشهد السياسي المُحيّر والمُربِك، وما جعلنا نخاف ونتحرك لفعل أمرٍ ما. كان استعداد البيت الأبيض لاختلاق الحقائق واتهام وسائل الإعلام الرئيسية بالأمر مثل نداء صَحوة لنا، وهذا النداء أيقظ فينا الرغبة لمحاربة هذا النوع من التلفيق إذا كنا نريد للرأي العام أن يبقى قائماً ومبنياً على الأدلة والحقائق. ولتوحيد الجهود في مقاومة عصر ما بعد الحقيقة، نظّم دايفد لايزر وماثيو باوم مؤتمراً في جامعة هارفرد بعنوان: «مواجهة الأخبار الزائفة: أجندة بحثية وعملية». في هذا المؤتمر، عمل الباحثان على دعوة علماء سياسة وخبراء قانونيين ومتخصصين في المعلومات الشبكية وعلماء نفسيين وفاحصي حقائق ومؤرخين ومدراء حملات انتخابية وصحفيين، وطلبوا منهم أن يشاركوا وجهات نظرهم، وبجهودهم، تحول ذلك المؤتمر لاحقاً إلى ورقة منشورة في مجلة Science.

مصطلحات مثل "المعلومات الخائطة" (Misinformation) أو "المعلومات المزيفة" (Disinformation) أو "الدعاية السياسية" (Political Propaganda) ليست جَديدة. هل يمكن اعتبار  الأخبار الزائفة جَديدة أم مشكلة زادت حدتها مؤخرًا؟ إذا كانت الإجابة نعم، فلماذا؟

طالما دفعت المصالح السياسية أصحابها باتجاه الكذب وتشويه الحقائق بهدف تحقيق الغايات المطلوبة، وهذا موجود منذ فجر الحضارة (وربما قبل ذلك). المشكلة في عصرنا هذا مضاعفة نتيجة ثلاثة عوامل. أولاً: بسبب التكنولوجيا، يمكن لأيّ شخص في العالم أن يكون مصدراً للأخبار. ولا يحتاج المرء أكثر من ذكائه ومهارته لكتابة أخبار مشوقة ومثيرة ليكون قادراً على جذب اهتمام الناس وليساعدوه على نشر رسالته على نطاق واسع. إحدى هذه الطرق مثلاً، أن تُسلم الرسالة المُراد نشرها إلى بوتات Bots وسائط التواصل الاجتماعي، وهي برامج حاسوبية مُصممة لخداع خوارزميات مواقع التواصل الاجتماعي بحيث لا تكون قادرة على التمييز بين الإنسان والآلة، وعندها تصير منشورات وتفاعلات ذلك البوت، مؤثرة وشبه حقيقية (رفع عدد الإعجابات في صفحات الفيسبوك). النجاح في الانتشار والوصول إلى عدد كبير من الناس لا علاقة له تقريباً بصحة أو حقيقة الرسالة التي يحاول إيصالها.

ثانياً، ومرة أخرى بسبب التكنولوجيا، لدينا كم كبير وهائل من المعلومات. باختصار، لا نملك الوقت الكافي للتفريق بين الحقيقي والزائف. حتى المتخصصون في تفحص الحقائق، لا يملكون الوقت لفحص كل المعلومات. يمكن للرسائل أو المنشورات أن تنتشر بشكل كبير قبل أن يلتقطها أيّ متتبّع. وهذا يؤدي إلى حلقة إيجابية من الرد والتفاعل. ما أحاول قوله، إذا نشر فريق ما معلومات غير مفحوصة ولم يتم التحقق منها، حينها سيشعر الفريق المعارض بالحاجة للرد على الفريق الأول بسرعة، وعليهِ، فلا يتحققون من المعلومات والحقائق لديهم أيضاً. هذه الحلقة الإيجابية للرد تتوسع من خلال عدم ميل الأفراد (القرَّاء) لقراءة المحتوى بعناية. ينشر الناس الرسائل والمنشورات دون قراءتها أصلًا، فما بالك بتقييم دقّتها؟

ثالثاً وأخيراً، التنوع الهائل لمنصات الأخبار في ثقافة العصر الحديث يعني أنّ لدى الناس الحرية في اختيار مصادر الأخبار التي تنقل لهم ما يريدون سماعه وقراءته، وكلّنا نحب أن نسمع أخباراٍ تتوافق ومعتقداتنا. على سبيل المثال، لم تعد بعض القنوات الإعلامية مؤخراً تشعر بالحرج من إعلان أنها مُنحازة لطيف دون الآخر، وصاروا يقدمون الأخبار مثل وجبات جاهزة ومعدة مسبقاً لجمهور بعينهِ. لم يعد لدينا ذلك النوع من الإعلام الذي يقدم للقرَّاء الحقائق كما هِي.

وهذا بالذات ما علّق عليهِ  يورغان هابرماس بقولهِ أنّ المنصات الإعلامية التي كانت يوماً بوابة للمجال العام والرأي العام، صارت الآن أبواقاً، وفقدت قيمتها كوسيط ومساحة للالتقاء بين الاختلاف، بل العكس، صارت هِي من تدعو إلى نبذ التنوع وغابت رسالتها التي كانت تنطلق من الناس.

ما الذي يمكن أن يساعدنا بهِ علم النفس لفهم الأخبار الزائفة؟

لدى طرق ومناهج علم النفس عدد من الأشياء التي تقدمها: هل تسمية الأخبار بـ"الزائفة" يقلل من أثرها على الرأي العام؟ ما أنواع الشخصيات الأكثر تصديقاً/تأثراً بالأخبار الزائفة؟ ما خصائص الأخبار الزائفة التي تجعل منها حقيقية؟ تناول العديد من علماء النفس هذه الأسئلة في أوراقهم، وإجاباتهم مَوجودة في ورقتنا المنشورة على موقع Science.

من وجهة نظري، فإنّ بحث غوردون بينيكوك وديفيد راند واحد من أفضل الأبحاث، إذ يوضحون أنّ الميل إلى التفكير التحليلي المُقاس بواسطة اختبار التفكير المعرفي (CRT) يتنبأ بمن يستطيع تمييز الأخبار الزائفة عن الأخبار الحقيقية. وهذا مهم لأنه يشير إلى المهارات المطلوبة لتمييز الأخبار الزائفة، مثل القدرة على التفكير قبل الرد بدلاً من الذهاب فوراً إلى الحدس (كما يفعل معظمنا غالباً).  وما يزيد الأمر أهمية، أنّه يشير إلى قدرة الأفراد على تمييز الأخبار الزائفة عن الحقيقية على الرغم من صعوبة ذلك، خاصة عندما تُلفَّق الأخبار الزائفة على يد محترف.

بعيدًا عن كل الأعمال المشابهة في علم النفس، هناك العيد من الأسئلة المفتوحة فيما يتعلق بالأخبار الزائفة، مثل سرعة انتشارها والآثار المترتبة عليها وإمكانية التخفيف من آثارها السلبية، ما هي الأسئلة التي تعتقد بوجوب التركيز عليها في أبحاث العلوم النفسية؟

أعتقد بوجود إشكالية عميقة لم تُتناول بالشكل الكافي بخصوص الأخبار الزائفة: هل تؤثّر فينا حقاً؟ الخوف الأكبر في مواجهة هذا النوع من الأخبار هو أن تقوِّض المجتمع المدني من خلال سرد أكاذيب تدعمها "حقائق بديلة" تفترض مسبقاً أنّ معتقدات الناس تتأثر بما يصدّقون أنه حقائق، ولكن تاريخ علم النفس يُخبرنا أنّ الأمر ليس بهذه البساطة. فنحن نعلم أنّ المحدد الأساسي لما إذا كان الناس يصدِّقون رسالة ما، هو اتفاقهم معها من عدمهِ.

فإذا لم يتفقوا معها، سيسعون إلى التحقق من مصداقيتها، وعلاوة على ذلك، يعتمد الرأي أكثر على معتقدات مُجتمعك أكثر مما يعتمد على الحقائق. الأفراد ليسوا بمعالجين واعين للمعلومات. لذا فإنّ الأخبار الزائفة تعتمد على مغالطة التلويح بالعلم (مغالطة منطقية تستند إلى شعارات عاطفية مثل الوطنية والقومية، والاستفادة من فكرة الجماعة أكثر من فكرة الأفراد، وتعمل على تغييب المنطق تماماً) لتعزيز الانتماءات الجماعية، بدلًا من الإقناع. هل تؤثر هذه الأخبار على معتقدات الناس؟ وعلامَ تؤثر أيضاً؟ مثلاً، هل تؤثر على شعور الناس بالغضب والاستياء أكثر مما تؤثر على مواقفهم؟ يجب أن يركز علماء النفس على هذه الأسئلة، ويجب على الحكومات المعنيّة أن تدفع لتمويل مثل هذه المشاريع البحثية.

"نحن بحاجة ماسّة إلى نظام حِماية للجديد"، تستمر أنت وزملاؤك بتكرار هذه الجملة في الورقة عند حديثكم عن مواجهة الأخبار الزائفة ونشرها عبر وسائل الإعلام الاجتماعية وغيرها من وسائل الإعلام. ما شكل الحماية التي يمكن للقارئ الفردي للأخبار (على عكس الحكومات أو المنتجين) تفعيلها؟ لأكون أكثر دقة، هل باستطاعة العلوم النفسية أن تقدم نصيحة لمستهلكي وسائل الإعلام الراغبين بتحجيم قابليتهم للتأثر بالأخبار الزائفة؟

الجواب التبسيطي: فكِّر أكثر. لا تصدق كل ما تقرأه، وافترض احتمالية زيفه. لكن هذا تبسيط مُجحف. مشكلة الأخبار الزائفة تتمثل في السرد الثقافي الذي تدعمه. أسوأ الأخبار الزائفة، هي تلك التي تجعل الناس يتناقشون حول آثار أمرٍ غير صحيح. وبالتالي، فإن الحل الصحيح لهذه المشكلة يجب أن يكون حلًّا ثقافيًّا.

نحن بحاجة إلى تعزيز معايير الأخبار وقراءتها ليصير من الطبيعي مُساءلة ما يقوله الآخرون دون أن تتحول المحادثة إلى تحريض مباشرة. اجتماعات غرف الأخبار الأكثر فاعلية يجب أن تكون كالآتي: إذا اختلف شخص ما مع المقدِّم، فيجب أن يعبّر عن ذلك (بأدب). بفعله ذلك، قد يوفّر على المقدم الإحراج على منصّة عامة. كلّما شجع المجتمع الأفراد على الإشارة إلى التصريحات الكاذبة (أو غير الواضحة أو الفارغة)، زاد هذا من إمكانية مساعدة الجميع على تمييز الحقيقة.

المراجع:

NPR

Open Flows

الأكثر قراءة