` `

المُحتوى الزائف كمادّة تجارية

يارا نصّار يارا نصّار
أخبار
17 يونيو 2020
المُحتوى الزائف كمادّة تجارية
حينما تُشارك شخصية معروفة خبراً زائفاً ذلك يُضفي مصداقية على المصدر (Getty)

لم يكتفِ بعض مُروجّي الأخبار الزائفة من مُجرّد نشرها لأهدافٍ تتعلّق بلفتِ الانتباه أو إذاعة الشائعات أو مُحاولة التأثير في مُتلقّي هذه الأخبار، بل عمد بعضهم إلى نشر الأخبار الزائفة بقصدِ الربح التجاري، إذ انتشرت كثير من الأخبار الزائفة على مواقع التواصل الاجتماعي لتجني عائدات إعلانية كبيرة بمُجرّد النقر على المواقع الأصلية لها. وتتنوّع المنصّات الّتي تُروّج الأخبار الزائفة التجارية، فبينما يختار عرّابو الأخبار الزائفة أسماء هذه المنصّات، كالمواقع الإلكترونية، لتُشبه أسماء المؤسّسات الإخبارية الحقيقية، تحتوي مواقع زائفة أُخرى على مزيجٍ من الأخبار الحقيقية والزائفة، لتُضفي صبغة موثوقة على ما يُروَّج. نذكر أدناه بعض الأمثلة على صناعة المُحتوى الزائف من أجل تحصيل الربح.

ليس بالضرورة أن تُمثّل مواقع الأخبار الزائفة الميول الأيديولوجية أو السياسية أو غيرها لصُنّاعها. تُعتبر بلدة فيليس في مقدونيا رائدة في التسويق الرقمي، إذ يهتمّ الكثير من سُكّانها بكيفيةِ جذب المزيد من الأشخاص إلى مواقعهم وصفحاتهم لتحقيقِ مكاسب كبيرة عبر الإنترنت، حتّى أصبح هُناك ما أُطلِق عليه "النمط المقدوني" إشارةً إلى خلقِ الأخبار الوهمية. عادةً ما يكون العنوان في هذا النمط على شكل جاذب للجمهور (ClickBait)، والّذي يُحيل إلى المنصّات الّتي تنشر الأخبار الزائفة. ويعتمد هؤلاء المُروّجين بشكلٍ رئيسي على مجموعاتِ موقع فيسبوك، ويستهدفون المجموعات الأكثر نفوذاً وتأثيراً، فينضمّون لها باستخدامِ حساب زائف، ويبحثون عن قصّة شائعة ومُنتشرة ليُعيدوا كتابتها وجعلها أكثر إثارةً، ثُمّ ينشرونها على هذه المجموعات ويحصدون الأرباح. وقد نجحت هذه الطريقة نجاحاً كبيراً مع الأخبار الّتي روّجت لدعمِ ترامب أثناء الانتخابات، إذ كان المُتصفّحون الداعمون لترامب يُصدّقون تلك الأخبار ويتفاعلون معها. إنّ المراهقين المقدونيين، الّذين استغلوا موسم الانتخابات الأمريكية لنشرِ أخبار زائفة حول المُرشّحين، كانوا يجنون حوالي خمسة آلاف دولار شهريًّا.

أمّا في كوسوفو على سبيل المثال، وبحسب مقابلة مع شاب يُدعى بوريم، وهو تاجر أخبار وهمية مُحترف يملكُ عدداً كبيراً من العقارات الرقمية، فإنّ الخطوة الأولى هي الحصول على جمهورٍ واسع من خِلال صفحات يُمكن أن يصل عدد مُتابعيها إلى قرابةِ المليون. ولا يكترث أمثال بوريم كثيراً لمُحتوى الصفحات، فكُلّ ما يهم هو حركة المُرور وتدفُّق المُحتوى عبر هذه الصفحات. وبينما لا ينشُر بوريم أخباراً زائفة عن قصد، إلّا أنّه لا يُمانع بنشرها فيما لو كانت تُحقِّق له عدداً أكبر من النقر على الروابط والزيارات، فبالنقرِ على أيٍّ من قصصِ بوريم، يُكسبه ذلك المال على الفور. ويمتلك بوريم حوالي عشرة مواقع ويب خارج "فيسبوك" تتغيّر باستمرارٍ لتتفادى اكتشافها، حيث تميلُ كثيرٌ من المنصّات الّتي تُقدّم أخباراً زائفة إلى أن تكون قصيرة الأجل، وتبدو كلّ واحدة منها كأنّها نسخة أوليّة من صحيفةٍ على الإنترنت، إذ تُنشر الأخبار والقصص الكاملة تحت أقسام تُسمى "المنزل" و"الصحة" و"الحيوانات" و"فن الطعام" وغيرها. لقد حصّلَ بوريم مبالغ تبدأ من 400 إلى بضعةِ آلاف يورو في اليوم، وإن كانت تُعتبر أموالاً مجزية في أيِّ مكان في العالم، فإنّها ثروة في كوسوفو.

لقد أظهر مشروع بوريم أنّ عائدات الإعلانات عبر الإنترنت ليس لها علاقة تُذكر ببناءِ سُمعة عبر المدى الطويل أو بالاستماعِ إلى تفضيلات القُرّاء أو بناء الثقة معهم. في هذا الاقتصاد الجديد عبر الإنترنت، فإنّ عدد النقرات والزيارات كنز. ويكمن تحقيق الثروة في هذا المجال بمهارة واحدة فقط، ألا وهي تقديم أي شيء ترغب فيه أعداد كبيرة من الأشخاص على مواقعِ الويب، وبأيِّ وسيلة ضرورية كانت. إنّ بوريم - بكونه خارج الصحافة المهنية - في موقف قوّة وليس ضعف، فهو غير مُقيَّد بقواعد الصحافة ومعاييرها، ولا مُقيّد بنشرِ الحقيقة حصراً. لقد أصبحت المعايير المهنية غائبة بشكلٍ مُتزايد، ولم تعُد اللّوائح تعمل، واختفت الأخلاقيات في اقتصاد النقرات المجانية للجميع.

وفي سلوفاكيا، اتّجه تيبور إليوت روستاس عام 2012 نحو إنشاء متجر للتصميمِ الغرافيكي معروف باسم Sofian، ويُعتبر اليوم أحد أبرز المساهمين في سوق المعلومات الزائفة السلوفاكية، ويُدير موقع Zemavek.sk الّذي يُنتِج ويُعيد تدوير المعلومات الزائفة حول عدد كبير من الموضوعات الّتي تتراوح من الصحّة إلى العلوم إلى السياسة. بالنسبةِ لروستاس، الّذي يعيش الآن في مدينة براتيسلافا السلوفاكية مع زوجةٍ وطفلين، بدأ هذا المشروع بمثابةِ هواية، أي كمنصّةٍ على الإنترنت مُصمّمة لمُشاركةِ أفكاره الغريبة. ولكن على مدارِ خمس سنوات، تحوّل مشروع الموقع إلى مصدرٍ مالي أكثر ممّا يُمكن أن تحلم به عائلة سلوفاكية، فبين عامي 2012 و2017، ضاعفت Sofian إيراداتها السنوية أربع مرّات حتى وصلت إلى قرابةِ 405 ألف يورو. أمّا في عام 2014، فقد كان إنجازاً حقيقيًّا تحقيق الموقع ما يُقارب النصف مليون يورو من الربح، بزيادةِ 500٪ مُقارنة بالعامِ السابق.

ذكر تقرير جديد أنّ المواقع الزائفة الرائدة في أوروبا، بما في ذلك تلك الأخبار المُنتشرة حول فايروس كورونا المُستجّد، تُواصِل الاستفادة من الإعلاناتِ الّتي تُقدِّمها شركة غوغل، فقد ذكر مؤشّر التضليل العالمي، وهي وكالة تُقيِّم موثوقية 70 ألف موقع إخباري، أنّ المواقع الإخبارية الزائفة الأوروبية تكسبُ حوالي 75 مليون دولار من الإعلانات سنويًّا، مُعظمها إعلانات من موقع غوغل نفسه. ونشر "غوغل" أحد إعلانات مُنظّمة العفو الدولية على موقع NewsFront الإسباني المُضلّل بجوارِ مقال يدّعي أنّ الولايات المُتّحدة تلوم "روسيا الشريرة" على تفشّي كوفيد-19.

وقد تضمّن تقرير تحليلي في صحيفة ذا واشنطن بوست موضوع تجارة الأخبار الزائفة، وكيف يُمكن أن تعود بربحٍ ماديٍّ كبير للعاملين فيها، وكيف تلعب مواقع التواصُل الاجتماعي، وبالأخص فيسبوك، دوراً كبيراً في تحفيز ذلك، حيث تأتي أرباح هذه التجارة بشكلٍ كبير من الإعلانات التي توفِّرها خدمات شركتي غوغل وفيسبوك الذاتية، مثل Google AdSense، وحينما تُشارك شخصية معروفة خبراً زائفاً، فإنّ ذلك يُضفي مصداقية على المصدر، ورُبّما يزيد من أرباحِ مُروّج الخبر سعيد الحظ بضعة آلافٍ من الدولارات. إنّ الانتشار الرهيب للأخبار الزائفة دفع الكثيرين إلى اتّهام شركتي فيسبوك وغوغل بالمُساهمة في انتشارِ الأخبار الزائفة. وبينما رفض مارك زوكربيرج كثيراً الاعتراف بأنّ فيسبوك شركة إعلامية، إلّا أنّ تزايُد الاتّهامات دفعت "فيسبوك" إلى إعلان نيّتها تضييق الخناق على مُستغلي خدماتها الإعلانية، ممّا يؤدّي إلى خساراتٍ كبيرة في حالة إغلاق العديد من المواقع الزائفة. أمّا شركة غوغل، فقد وقّعت جنباً إلى جنب مع شركاتٍ تكنولوجية أُخرى، على بنود سلوك طوعية للاتّحاد الأوروبي في 2018، تتطلّب منها "تحسين التدقيق في وضعِ الإعلانات لتقليلِ عائدات مُقدّمي المعلومات المُضلّلة"، إلّا أنّ شركة غوغل كانت مُتردِّدة في اتّخاذ إجراءات ضدّ المواقع الإخبارية الّتي ترعاها الدول، وقالت إنّه "ليس من السهل علينا وعلى المنصّات الأخرى اتّخاذ هذه القرارات بأنفسنا"، فإذا أوقفوا موقعاً واحداً ترعاه دولة ما، فإنّ ذلك قد يؤدّي إلى اتّهامها بالتحيُّز السياسي.

من يُموِّل الأخبار الزائفة؟

بحسبِ مشروع تجارة المعلومات الزائفة، الّذي صُمِّم لرصدِ المعلومات الزائفة في ست دول في وسط وشرق أوروبا (البوسنة والهرسك والمجر ومولدوفا ورومانيا وصربيا وسلوفاكيا). وُجِدَ أنّ وسائل الإعلام الرئيسية في المجر دخلت مجال تجارة المعلومات الزائفة، ممّا أدّى إلى تعطُّل العديد من مواقعِ المعلومات الزائفة المُستقلّة. تنتشر المعلومات الزائفة في جميع هذه الدول، لكن القنوات المُستخدمة لتوزيعِ مثل هذا المحتوى تختلف إلى حدٍّ ما. على سبيلِ المثال، تُسيطر وسائل الإعلام الرئيسية على المشهدِ المُضلّل في صربيا، ولا يُمكن لمواقعِ المعلومات الزائفة الصغيرة أن تتنافس ببساطة مع "عمالقة المعلومات الزائفة" مثل صحيفة Blic. في البوسنة والهرسك، فإنّ وسائل الإعلام الرئيسية هي أيضاً المصادر الرئيسية للمعلوماتِ الزائفة. ومن بين المصادر البديلة للمعلوماتِ الزائفة، فإنّ الأكثر شيوعاً هي مواقع الويب المجهولة والربحية التي لا تُقدِّم قيمة صحافية حقيقية.

يبدو أنّ الإعلانات هي إحدى مصادر الدخل الرئيسية لمُعظمِ مواقع المعلومات الزائفة. وفي جميع الدول باستثناءِ صربيا، تعتمد مواقع المعلومات الزائفة بشكلٍ كبير على منصّةِ مبيعات الإعلانات في موقع غوغل. تُعدُّ الإعلانات مصدر نقد رئيسي لمواقعِ المعلومات الزائفة، إذ يصعب التنقُّل في بعضِ هذه المواقع في رومانيا والمجر بسببِ كثرة الإعلانات. في المجر، ينشأ المُحتوى بمثابته وسيلة لعرضِ الإعلانات فقط. وفي سلوفاكيا، تُعرَض الإعلانات في 27 موقع من أصل 49 موقع دُرِس.

وعادةً ما تستخدم مواقع المعلومات الزائفة في سلوفاكيا أشكالاً أُخرى لجمعِ الأموال، بما في ذلك التجارة الإلكترونية والتمويل الجماعي والتعيينات الضريبية. موقع Slobodnyvysielac.sk على سبيل المثال، وهو أكثر مواقع الويب نجاحاً في تحقيقِ الإيرادات، فقد حقّق مبيعات بلغت حوالي 100 ألف يورو في عام 2018. وقُدِّرت عائدات الإعلانات السنوية الناتجة عن مواقعِ المعلومات الزائفة التشيكية والسلوفاكية مُجتمعةً ما بين 930 ألف يورو و1.27 مليون يورو. في رومانيا، أعلن مالك شركة Active News، وهي شركة تُدير مثل هذه المواقع الزائفة، عن صافي ربح قدره 31 ألف يورو في عام 2018. وفي صربيا، أعلنت شركة Pink International عن أرباحِ تشغيل بلغت 10.2 مليون يورو في عام 2018. ومع ذلك، فإنّ الشركة لا تمتلك موقع المعلومات الزائفة Pink.rs فحسب، بل تمتلك أيضاً قناة تلفزيونية وطنية و60 قناة كابل وقناتين فضائيتين. وهكذا، أصبحت صناعة الأخبار الزائفة، الّتي هي نِتاج مساحات وسائل التواصُل الاجتماعي، وسيلةً لكسبِ العيش.

تُكافح المؤسسات السيادية لتطبيقِ القانون على الإنترنت وللسيطرةِ على عمالقة التكنولوجيا. وسواء كان الإعلان مُستهدفاً أو اختراقاً مُسيّساً، فقد انتقلت الحملات السياسية إلى حدٍّ كبير خارج القواعد أيضاً، فقد أصبح عمالقة التكنولوجيا أكثر قوّة بسببِ الثورة الرقمية. وعليه، نحنُ بحاجةٍ ماسّة إلى تحديث النسيج الكامل للقواعد والمعايير والقوانين عبر الإنترنت، ولكنّ الصعوبة الحقيقية هي معرفة كيفية القيام بذلك بسُرعةٍ كافية، حيث تتغيّر طريقة عمل هذه الأدوات بالسُرعةِ الّتي تتغيّر بها التكنولوجيا الّتي تتدفّق عبرها. ويُعدُّ ضمان تحرُّك القواعد والقوانين والمعايير بالسُرعةِ نفسها أحد التحدّيات الرئيسية لجيلنا.

المصادر:

NBER

Youtube

Financial Times

SasaPost

UnHerd

CMDC

CMDC

الأكثر قراءة