` `

التضليل الصوري في عصر وسائل التواصل والذكاء الاصطناعي

نور حطيط نور حطيط
علوم
28 فبراير 2021
التضليل الصوري في عصر وسائل التواصل والذكاء الاصطناعي

باولو فرير: تضليل عقول البشر أداة قهر

لا يمكن تخيّل الحياة المعاصرة دون صورة، وذلك نظرًا لتداخلها في كل جانبٍ حياتي، من الطرقات، إلى البيوت، إلى الدعاية والتلفزيون ووسائل الإعلام، وصولًا إلى الكوكب الضخم الذي بات يعرف بوسائل التواصل الاجتماعي.

قديمًا، لم يكن الناس قادرين على تصنيف الصورة، وكانت معظم تصوراتهم عنها، منذ انبثاقها، إمّا إمبريقية أو بلاغية أو جمالية. وتعتبر الصورة فكرٌ بصريّ، تترجِمُ أفكار ومعانٍ مستمدة من الثقافة المجتمعية التي يتحرّك فيها الخطاب البصري. كان الفيلسوف الفرنسي جان بودريار قد حذر من الآثار النفسية التي تحملها الصورة، لمعرفته بصعوبة مقاومة سطوتها، فالصورة لها قدرة فائقة على ترويض العيون التي تتغذى عليها بالدرجة الأولى، وبالتالي القدرة على تضليل العقول، وفي عصرنا تُستخدم الصورة لتضليل الناس وخدمة أهدافٍ تتعلق إمّا بسلطة شركات وسائل التواصل الاجتماعي العملاقة، أو بالسلطات الأخرى الذائبة داخل الجسم الاجتماعي. والصورة الإعلامية تشكّل خزانًا استراتيجيًّا قادرًا على التأثير، وعلى التضليل والتزييف معًا.

ومنذ زمن طويل، اعتُبرِت الصورة أنها تدعم الحقيقة في ذاتها، لكنّ ما يمكن تسميته بـالتفكير البصري، أدى بطريقةٍ أو بأخرى إلى انتشارٍ واسعٍ لها خصوصًا وأنها أصبحت في هذا العصر، تخاطب غرائزنا قبل عقولنا، عبر وسائل التواصل الاجتماعي والتلفزيون وغيرها من الأدوات. فكيف تلعب الصورة دورًا في تضليل الحقائق؟ وكيف يمكن فصل القمح عن القشّ في ظل العولمة الإعلامية؟

نحنُ نعيش في عصر الصورة، والصورة ليست بألف كلمة كما يقول المثل الصيني، بل بملايين الكلمات

يذكر العالم الروماني بيلني الأكبر، في الكتاب الخامس والثلاثين للتاريخ الطبيعيّ، حكايةً شهيرةً عن زوكسيس، ومن المعروف أن هذا الرسام اليونانيّ الذي عاش في القرن الرابع قبل الميلاد، رسم مجموعةً من عناقيد العنب بمهارة عالية، لدرجة أنَّ الطيور كانت دائمًا تحطّ لنقرها، ولعل هذه الحكاية تخطو في أولى محطات "التزييف في الصورة" عبر الفن، فماذا إذا أصبحت الصورة أحد مرتكزات التعبير عن الأفكار مع الكلمات، في عصر يمارس فيه الذكاء الاصطناعيّ قوته السحرية والإغوائية في يومياتنا المعاشة لإحكام سطوته على المحتوى المستَهلك والمنتَج.

عقب مقتل جورج فلويد لدى اعتقاله من قبل الشرطة في الولايات المتحدة في 25 مايو/أيار الفائت، انتشرت مقاطع فيديو وصورًا قديمةً مضللةً، تظهر اقتياد الشرطة الأميركية لأفارقة شبان على أنهم جورج فلويد، مما أدى إلى توسع الاحتجاجات على مقتله بشكلٍ كبير. وفي ظلّ انتشار هذه البصريات المضللة، حاز مقطع فيديو لمراهق تم القبض عليه بعنف من قبل ضابط شرطة أميركي، ما يقرب من 10 ملايين مشاهدة. وهذا ما شاهدناه أيضًا في صراع إقليم تيغراي حديثًا، إذ كان للصور المضللة الحصة الأكبر من الانتشار والتأثير في عقلية المتابع للصراع الأثيوبي القائم، الأمر الذي أدى إلى مقتل وتشريد الآلاف من الأثيوبيين، فإذا كان اللوغوس الكلامي بحدّ ذاته قوّة لها تمظهراتها القووية، فإنّ للصورة لغةٌ أيضًا وعناصر سيميائية كالإشارات والرموز تذهل العقول وتحمله على القبول بها.

المواطن الصحافي والوعيّ المعلّب

طغت الصورة على الزمان، وأصبح المتلقي مستهلكًا لثقافة العرض (Show) ومنتجًا في الوقت ذاته، من خلال ما يعرف بالمدونات المكتوبة Blog)) والمصورة (Flog(، ومع امتلاك أغلب الناس للهواتف والأجهزة الذكية، برز ما يُعرف بصحافة المواطن (Citizen Journalism)، التي أتاحت للشخص العادي فرصة المشاركة في صناعة الخبر ونشر الصور ومقاطع الفيديو، ومَدَّته بالقدرة على التأثير في الرأي العام.

وكان لصحافة المواطن دورًا هامًا عام 2011 في اندلاع انتفاضة شعبية في ولاية سيدي بوزيد التونسية، ودورًا كبيرًا في حادثة الهجوم الإرهابي على متحف باردو في تونس عام 2015 وغيرها من الحوادث الأخرى، واعتُبرت سلطةً خامسةً لا يمكن غض النظر عنها بالرغم من عدم خضوعها لقواعد وقوانين الصحافة وأخلاقيات المهنة الصحفية التي تخضع لها وسائل الإعلام التقليدية، ومن هنا تحديدًا برزت إشكالية صحافة المواطن، حيثُ تبين أنّها تساعد في الكثير من الأحيان على الترويج لمحتوىً بصريّ مضلل، من شأنه إشاعة الحقد والكراهية بين الناس أو تحقيق أجنداتِ تتبع لجهات خفية.

وتتّسم صحافة المواطن بسرعة انتشار المعلومات والصور ومقاطع الفيديو، فالمواطن الصحافي له الحقّ في المشاركة بعملية إنتاج الخطاب البصري، وقد يعززها بالصوت الذي يساعد في إيضاح التفاصيل أكثر من الكلمة المكتوبة. ولأنّ الصورة تأثر في وعي الإنسان ومخياله وسلوكه الثقافي، نجد أنها ما تنفك تضعه في حالة ثقة عمياء إزاء ما يتم تداوله على صفحات التواصل الإجتماعي.

ومما لا شك فيه، أنّ ظهور هذا الشكل الجديد من الصحافة أدى إلى قلب دور الصورة وتأثيرها، إذ انتقلنا به من مركزية الكلمة التي ترافقها الصورة للتأكيد على حقيقة الحدث، إلى مركزية الصورة التي ترافقها الكلمة لتمرير المعلومة، والمساهمة في صنع وعي معلّبٍ وجاهز.

وقد يكون الحكم الديمقراطيّ في العالم ساعد على ظهور السلطة الخامسة وتعزيز دورها في أن تكون "النموذج الاتصالي الأمثل "والأكثر تأثيرًا، لكنّ صعود تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي وتفوقها يشكلّ تهديدًا مباشرًا على هذه السلطة، خاصةً وأن صناعة الصور المضللة أصبحت أسهل وأسرع في الانتشار.

العولمة الإعلامية 

يقول مارشال ماكلوهان، عالم الاتصال الكندي، إنَّ الاتصال المصوّر قفزَ خلال العقود الأخيرة ليصبح النموذج الاتصالي الأمثل، لأنه قادر على إثراء الكلمة وجذب المتلقين بسهولة دون بذل أي جهد. وعمليًّا، أصبح العالم اليوم يفكر بأسلوب بصري جديد، إذ باتت الصورة نصًّا يُستثمر به للتأثير، وذلك يعود إلى كونها منتمية في جزء منها للبعد التواصلي السوسيو-ثقافي.

وبشكل أساسي، أدى التطور التكنولوجي وإنتاج واستهلاك المادة الإعلامية المكتوبة أو المرئية على نطاق عالمي واسع، إلى عولمة الإعلام، وبالتالي صارت المعلومة والصورة سلعةً تخضع لقوانين العرض والطلب وغيرها من قوانين السوق التي تقودها الدول والشركات الإعلامية الضخمة.

وكان للعولمة الليبرالية أثرًا على المؤسسات الإعلامية، أصبحت معه الصورة أداةً خطيرةً وسلاحًا يستهدف البنيات الفكرية والسيكولوجية، وإن كان هناك واجبٌ على المتلقي أن يضطلع به فهو التشكيك والتمحيص في محتوى العرض البصري وفي سياقاته، أي أن يكون على درايةٍ كافيةٍ بالثقافة المُنتجة للصورة أو المحمولة عليها، وهذا هو الحد الأدنى من المعرفة لنقول إن لديه وعيٌ بصريّ.

الذكاء الاصطناعي وتقنية التزييف العميق

معلومٌ أن تطور تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي ساهم في تعزيز عملية الخداع والتضليل في الصور، وقبل ما يقارب عقدين من الزمن، برزت أولى معالم تقنية التزييف العميق من خلال برنامج فيديو ريرايت (Video Rewrite)، الذي يقوم بتحويل مقطع فيديو لشخص يتحدث في موضوع معين إلى مقطعٍ لنفس الشخص متحدثًا في موضوع آخر، بكلمات جديدة لم يقلها في الفيديو الأصلي. وباستخدام هذه التقنية وبواسطة الذكاء الاصطناعي، يمكن دمج صور ومقاطع فيديو شخصية لإنتاج مقطع فيديو جديد، يبدو حقيقيًّا، لكنه في واقع الأمر مزيف.

وقد قامت جامعة نيويورك حديثًا، بنشر تقرير أدرجت فيه هذه التقنية ضمن أعلى ثمانية تهديدات مضللة لحملة انتخابات 2020 الأميركية، ومع ذلك، يرى متخصصون وباحثون أن التقنية جاءت لتبقى، وأنه من الصعب حماية الجمهور من التضليل، في ظل تزايد قوة الذكاء الاصطناعي، ما يعني أن الذي نعيشه اليوم من تضليل بصري زخم، قد يكون أفضل مما سنعيشه مستقبلًا!

المصادر

BBC

كتاب عصر الصورة الناقد المصري شاكر عبد الحميد

كتاب المتلاعبون بالعقول

الجزيرة

صحافة المواطن – الدكتورة خديجة الرحية

الأكثر قراءة