` `

دور الإبلاغ الدائري في صناعة أخبار لا يمكن التحقق منها

نور حطيط نور حطيط
سياسة
14 مارس 2021
دور الإبلاغ الدائري في صناعة أخبار لا يمكن التحقق منها

يُعرف مفهوم الاستدلال الدائري بـ Circular Reasoning أو Circular Logic، ويعود أصله إلى العبارة اللاتينيّة Circulus in probando. ولكنَّ الاستدلال الذي تكون نتيجته المبتغاة مُسلمٌ بها بشكلٍ مُضمرٍ في المقدمات، فلا يأتي بأي جديد، يكون شأنه شأن من يفسر الماء بالماء.

مثلًا، نقول إنَّ الديمقراطية تحترم التعددية الثقافية، ودولة مثل تايلاند ليست متعددة ثقافيًّا، إذًا فتايلاند ليست دولة ديمقراطية، أو إذا سألنا على سبيل المثال أيضًا لماذا القطط تأكل الفئران؟ وكان الجواب: لأنّ الفئران غذاء القطط. يمكننا اعتبار المثالين السابقين مدخلًا جيدًا لفهم المغالطات المنطقية التي تعد من أهم الوسائل المساعِدة في كشف زيف وتضليل الخطابات سريعة الانتشار على مواقع التواصل الاجتماعي، ما يجعل دراستها ضرورة لتتبع كل أشكال الخدع الممارَسة في الفضاءات الرقمية وغير الرقمية.

فعندما يقدّم المغالِط ادعاءاته على أنها مُسلَّمات، يقع المتلقّي ضحية أفكار ومعلومات خاطئة ومضللة، وقد لاحظ كلّ مِن أرسطو الفيلسوف اليوناني، وغوستاف لوبون المؤرخ الفرنسي بعد دراسته المعمقة للثورة الفرنسية، أنّ كثيرًا من القادة والسياسيين يميلون للابتعاد عن المنطق في خطاباتهم الجماهرية، ويلجؤون لإبراز قدراتهم في لغة الجسد والنبرات التصاعدية التي تلهب حماس الجماهير وتجيّش مشاعرهم.

في موسم العودة إلى ترامب

في عام 2017، نشرت صحيفة CNN اقتباسًا للرئيس الأميركي السابق، دونالد ترامب، من مؤتمر صحفي له، قال فيه "الأخبار مزيفة، لأنّ هنالك الكثير من الأخبار مزيّفة".

عمد ترامب طوال فترة رئاسته على ضخ الأخبار الزائفة والمضللة في وعي الجمهور، غير آبهٍ لتبعاتها، وقد شهدت مسيرته الرئاسية حروبًا طاحنةً خاضها ضد الصحف والوكالات الإخبارية، مستغلًّا حالة الانسياق والانجرار لدى المتابع تجاه كل ما يتداول في وسائل الإعلام؛ للقول بأنّ الإعلام ذاته يساهم في نشر الأخبار الزائفة، مستخدمًا هذه الوسائل كأدلة على زيف المعلومات وممارساتها التضليلية.

للسياسيّ معجم بلاغيّ خاصّ يعتمد عليه في خطاباته المؤثّرة، والتي قد تبدو للوهلة الأولى رنّانةً خاطفةً، وخاليةً من التزييف، لكن إذا ما أخضعنا الخطاب للتشريح والقياس العلمي، نكتشف حجم التضليل الذي يتخلّله، وحقيقة كوننا ضحايا لهذا العصف من المعلومات المضللة، عبر استخدامٍ دقيقٍ للاستدلال الدائري.

ولأنّ السياسيين أمثال ترامب امتازوا بالقدرة على المخاتلة والتدوير في عرض أفكارهم، كان من السهل عليهم إدخال الأفكار والصور والتمثيلات المضللة إلى عقول التابعين وتحويلهم إلى أدوات جاهزة لخدمة مخططاتهم السياسية وحروبهم الدعائية بواسطة الاستدلال أو التفكير الدائري.

الإبلاغ الدائري للأخبار

في الغرفة المُسمّاة بغرفة الصدى (Echo Chamber) يتعزز لدى الفرد ما يُعرف بالتحيزّ التأكيدي، فيتم تضخيم الأفكار الذاتية والمعتقدات، داخل حلقة مغلقة ومعزولة، تكرس وجهة نظر المتلّقي في وعيه المنحاز تجاه القضية التي تروق له، دون الحاجة للذهاب إلى عرض وجهات نظر مختلفة ومتعارضة.

تنبثق القبلية الثقافية من هذا التجانس التي تبعثه ترددات البشر الصوتية داخل الجسم الاجتماعي لوسائل التواصل الاجتماعي، وما ثقافة الجاهز والمعلّب المتحلِّلة في قلب المجموع للفضاء الإلكتروني إلا شكلًا من أشكال القبلية التي يترتب على إثرها تصديقًا كبيرًا للمعلومات المضللة والمفبركة، وتغييبًا للعقل النقدي الذي يعدّ حاجة ملحّة لمواجهة الأخبار الزائفة وما يدور حولها.

ماذا لو سقطنا في حفرة الإبلاغ الدائري للأخبار؟

لا بدّ من تعريفٍ سريع للاستدلال الدائري للأخبار وحقيقة تورّط مواقع إلكترونية ضخمة بوصفها خزانات معرفية ومراجع علمية للكثيرين في الفخ الدائري للاستدلال، خصوصًا وأن الأفراد يرغبون دائمًا بالحصول على إجابات سريعة، دون عناء التحقق من صحتها.

وقد يبدو الأمر بالنسبة لكل من الصحف والوكالات وحتى الأفراد، أن المعلومة تأتي من عدة مصادر، لكنّها في الحقيقة تأتي من مصدرٍ واحدٍ لا غير، وغالبًا ما تكون هذه هي إحدى وسائل نشر الأخبار المضللة في شكلٍ دائري، يصعب كشفه أو التحقق منه.

عندما - وفي هذا مثالًا على واحدية وقطبيّة المصدر- يقوم أحد محرّري الصحيفة (أ) بنشر أخبار زائفة، تعيد الصحيفة (ب) طباعتها، ثمّ تذكر الأخيرة الصحيفة (أ) مصدرًا للمعلومات الأصليّة. ويعود أحد محرّري الصحيفة (ب) بنشر معلوماتٍ ملفقةٍ حول موضوع ما، ثم ينشر أحد محرّري الصحيفة (أ) تلك المعلومات مع ذكر أنّ الصحيفة (ب) مصدرها، ثم تتداول باقي الصحف المعلومات على اعتبار أن المصدر أساسي لها صحيفتي (أ) و(ب)، التي لم يُعرف من أين أتت بمعلوماتها أساسًا.

ويكيبيديا: وعاء المعرفة السريعة

قد تكون موسوعة ويكيبديا ملاذًا رائعًا لمستخدمي الإنترنت في جميع أنحاء العالم، لكن مرتاديها ليسوا على دراية بالكيفية التي صُنّعت وسُوّقت بها معلوماتها، فإنّ أية قراءة جادّة تتطلب دقّةً ومراجعةً وتمحيصًا علميًّا لتجنّب الخداع والتلفيق المُحكم الذي يُنتِج أخبارًا مضللة وزائفة.

دكتور جيمس هايلمان طبيب طوارئ كندي الجنسية، وويكيبيديّ -أي مساهم في صناعة محتوى ويكيبيديا- اكتشف بعد بحث معمقٍّ أنَّ "DrugBank" وهي قاعدة بيانات لمعلومات الأدوية على الإنترنت تنسخ مباشرةً من موسوعة ويكيبيديا، وبدورها، تقوم "ويكيبيديا" بنسخ نصوصٍ من DrugBank.

ووجد جيمس هايلمان أكثر من خمس مقالات في "ويكيبيديا" ذات مراجع دائرية مماثلة. وفي هذا إشارة خطيرة تنذر بمشكلة كبيرة في التحقق من صحة الأخبار وصعوبة إيجاد المصادر الأولية لها. فمن أين جاءت المادة الأصلية؟ وكيف يمكن التحقق من صحتها للوثوق بها خصوصًا وأنها تتعلق في مواضيع علمية حساسة كالصحة والطب؟

وإذا أردنا الإشارة لشيء في هذا السياق، فيجدر بنا الإشارة إلى فرن صناعة المحتوى الذي يُحرَّر ويُعدَّل ذاتيًّا من قبل مستخدمي "ويكيبيديا"، وفي كونه واسعًا ومشاعًا لدرجة تسمح لهذا الكم من المعلومات مفتوحة المصدر للانتشار عبر سياسة الإبلاغ الدائري.

محاربة التضليل الدائري:

صاغ عالم الحاسوب الأميركي، راندال مونرو، مصطلح Citogenesis لوصف ظاهرة تُعرف بـ"التولّد غير المعدود" والتي تحدث حين تشير جميع المصادر إلى بعضها البعض. ولتجنّب الوقوع في هذا النوع من التضليل، على الصحافيّ بالدرجة الأولى أن ينأى في اعتماده على المصدر الواحد على الرجوع لويكيبيديا كمصدر مستقل للمعلومة، وعلى المستهلكين بالدرجة الثانية والثالثة أن يفعّلوا الدور النقدي لعقولهم غير الأداتية لمواجهة الأخبار الزائفة.

فما بات يحتاجه الصحافيّون ومنتجو المحتوى ومستخدمو مواقع التواصل الاجتماعي هو الوعي النقدي والثقافة الإعلامية التي لم تُعدّ حبيسة هامشها الضيق المحصور في مرسل ومستقبل، بل امتدت إلى فضاء أوسع، يتشارك فيه الجميع في صناعة الحدث وتداول المعلومة؛ للوقوف في وجه عاصفة الزيف وسياسة الإعماء الحاصلة في غرف الصدى.

المصادر

The Internet’s Dizzying Citogenesis Problem

Circular Repoting

Circular Reasoning Fallacy Examples

?Do digital echo chambers exist

المغالطات المنطقية

الأكثر قراءة