` `

ذاكرة السينما عند المواطن العربي، وتأثيرها على وعيه بالقضايا

غسان صبري أبو العدوس غسان صبري أبو العدوس
ثقافة وفن
31 مارس 2021
ذاكرة السينما عند المواطن العربي، وتأثيرها على وعيه بالقضايا
السينما أوهمت المواطن بكثير من المواقف لم تكن ضرورية في الواقع (facebook)

الصورة التي تقدمها السينما دائمًا ما تنطبع في ذهن المُشاهد، وبالتالي تُساهم في رسمه للصورة الذهنية تجاه القضايا المُختلفة؛ وهذا من شأنه أن يؤثر على سلوكياته، فضلًا عن أنّ المُشاهد يضع نفسه لا شعوريًا موضع الفنانين ويتقبل الطريقة التي يتصرفون بها والحلول التي تُعرض لمشاكلهم. وهنا يتضح دور السينما في تشكيل الوعي العام للجماهير. السينما في ظلّ العولمة وحرية المعلومات لم تعد مُقتصرة على عرض القضايا وتشكيل الوعي للأفراد بل تُوضح مساوئ الأنظمة الحاكمة، وبهذا يزداد دور الفن بشكلٍ عام والسينما بشكلٍ خاص في تكوين صورة القضايا لدى الأفراد.

تعتبر السينما من أكثر الوسائل الاتصالية تأثيرًا في جميع الفئات المختلفة في المجتمع، إذ إنها تحولت من أداة تمثيل إلى أداة تعليم ومحاكاة الواقع، وإحداث تغيير في مسار المجتمع، 

كما أنها تؤكد التناقض بين الإرث المعرفي والفكري المعتمد على التأني والتحليل وبين الخطاب الإعلامي الذي يفضل السرعة ونقل المعلومة المبنية على سياقات مفكر بها مسبقاً، كما تعتمد على الانتقائية لوجهات نظر محددة لكن بمشاهد مؤثرة وكلمات رنانة قد تؤدي بالمتلقي إلى تبني حالة إنفعالية بعيدة كلياً عن الحالة التي قد يختارها لو فكر متأنياً، وهذا التناقض بين الفكري والإعلامي تحدث به الفرنسي بيير بورديو في كتابه الشهير "التلفزيون وآليات التلاعب بالعقول".[1]

وربما تكون أميركا الرائد اللآن في صناعة السينما والتلفزيون أيضًا بابداع اصدارات مختلفة من الأفلام والمسلسلات وبرامج الواقع وعن وعي وفهم كامل لأهمية توحيد العالم على لحظة فرح جماعي أو غضب جماعي أو دمعة جماعية، كأن العالم أصبح مشاهداً واحداً، فتبتكر إصدارات مختلفة ليس فقط للتسلية وإِشباع الفضول.

أما عربيًا فقد استمرت مصر ولعقود رائدة في السينما قبل أن تسيطر عليها شركات الانتاج متعددة الجنسيات، ولو درسنا كل حقبة سينمائية سنرى مدى ارتباطها بالوضع السياسي حينها وتأثير خطابها على الجمهور وتبينهم لرؤية القائد السياسي حينها، مثل الحقبة الناصرية أو مرحلة السادات، ثم فترة المخلوع محمد حسني مبارك.

الحقبة الناصرية

 وهنا سنطرح نموذج من الحقبة الناصرية، فقد ظهر جليًا في كتابات وروايات الكثير من الكُتَّاب المعاصرين لهذه الحقبة، الذين تناولوا انتهاكات حقوق الإنسان للمواطن المصري في كتاباتهم الروائية والقصصية، سواء أكان ذلك تلميحًا أو تصريحًا.

من هؤلاء الُكتَّاب، الكاتب جلال الدين الحمامصي في كتابه "حوار خلف الأسوار" الذي نتج عنه الفيلم السينمائي "إحنا بتوع الأتوبيس" عام 1979م. وسيتم تسليط الضوء عليه هنا من خلال عرض الممارسات التي كانت تمارس على المواطن المصري في ظل حقبة كانت تعمل على تزييف الواقع، بالاعتقالات العشوائية والإخفاء القسري، تحت ذريعة هشة كانت تُساق للمجتمع في حينه، بأنَّ هؤلاء هم أعداء الوطن والذين يسعون للانقلاب على ثورة 56، بهدف التآمر على الدولة المصرية لتحقيق أهدافهم الشخصية، وما ساعد في الترويج لهذه الممارسات هو انعدام وسائل التواصل وقتها، مع التوجيه التام لأدوات النظام -الإعلام- لتبرير هذه الممارسات، إذ كان تجهيل عقل المواطن المصري هو السلاح الذي يمتلكه النظام، وخاصةً الناس البسطاء الذين تأثروا بكاريزما الرئيس الخالد!.

وتدور أحداث الفيلم في عام 1966م، في إحدى سيارات النقل العام؛ حيث تحدث مشاجرة بين اثنين من الركاب "جابر محمود عبد ربه" (عادل إمام) وجاره "مرزوق" (عبد المنعم مدبولي) من جهة وبين مُحصّل الأتوبيس من جهة أخرى.

تنتهي هذه المشاجرة بتوجه الأوتوبيس إلى القسم حيث يتم حجز جابر ومرزوق. ومن سوء الحظ، أن تكون مجموعة من المعارضين السياسيين في القسم في ذلك اليوم رهن الاعتقال وعلى وشك الترحيل. وفعلًا، يتم ترحيل جميع المعتقلين إلى أحد المعتقلات ومعهم جابر ومرزوق.

في السجن الحربي، يكون “رمزي" (سعيد عيد الغني) مدير السجن في استقبال جابر ومرزوق وغيرهما من “أعداء الوطن"، وطبعًا، يتّهم مدير السجن الحربي جابر ومرزوق بانضمامهما إلى تنظيم سريّ مناهض للحكم وأنهما يقومان بتوزيع منشورات تدعو إلى قلب نظام الحكم، ويطلب منهما التوقيع على اعترافٍ بذلك، ولكنهما يرفضان التوقيع ويرددان: "إحنا بتوع الأتوبيس".

يقول رمزي لمرزوق: فيه ناس مجانين كثيرة جاؤوا هنا، وقالوا “إحنا بتوع الأتوبيس، وبتوع الطيارات، وبتوع الكارو، بس إحنا عقّلناهم”.

وطبعًا، التعقيل الذي يقصده عبارة عن حفلاتٍ للتعذيب والسحل والإهانة، 

يُجَر مرزوق بحبلٍ من رقبته مثل الكلب، ويأمره رمزي بأن ينبح كالكلاب، ويُهان جابر، ويفعلان ما يؤمران به على الأرض مثل تمثيل “عجين الفلاحة" وغيرها.

كما يُثير الفيلم القضايا الثلاث التقليدية في مجال العلاقة بين الأجهزة الأمنية والمواطنين في أحوال الضبط والقبض والاحتجاز والتحقيق والمعاملة أثناء هذه الإجراءات، وهي قضايا "الاختفاء القسرى" و"التعذيب" و"الاعتراف تحت ظروف الإكراه".

والحقيقة أنَّ السعي وراء الحصول على هذه الاعترافات، حتى ولو بالتزوير، يأتي استنادًا إلى ظاهرة تستشري فى نظم الحكم الشمولية حين تسعى أجهزة الأمن المختلفة إلى إيهام الحاكم بتعرضه لخطرٍ من أعداء -حقيقيين أو وهميين- وأنَّ هذه الأجهزة الأمنية هي الوحيدة القادرة على حمايته من ذلك الخطر وإنقاذ نظام حكمه منه. ومن العجيب أنه مع تعدد أجهزة الأمن في الدولة، يقوم نوع من التنافس بينها في إيهام الحاكم بالخطر وإيهامه بحمايته منه، وكان التنافس في مصر، خاصة في عقد الستينييات، قائمًا بين جهازَي "المخابرات العامة" ذي السطوة القوية، و"المباحث العامة/ البوليس السياسي" ذي السطوة الأقل قوة وإنْ كان ليس أقل عنفًا في العادة. وفى كل الحالات تنتهي هذه الممارسات المشبوهة برفع درجة سطوة هذه الأجهزة الأمنية، ومنح قيادتها الامتياز.

أفلام مشابهة

وهذا الفيلم نجده في كل فترة سياسية وفي كل بلد، الفيلم الذي يظهر الواقع بتعقيداته السياسية وتأثيرها على حياة العامة العادية، ليمثل  النقد السياسي والاجتماعي في السينما، وأحدثها عالميًا فيلم “الموريتاني” 2021 والذي يتحدث عن الفترة التي أعقبت أحداث 11 سبتمبر في أميركا والاعتقال الذي حدث لمجموعة من المسلمين وتعذيبهم وإلقائهم في سجن غوانتنامو دون التأكد من حقيقة التهم المنسوبة إليهم بل إجبارهم على الاعتراف بها.

وإذا ما كانت مثل هذه الأفلام تفضح حقب معينة، فلا ننسى الأفلام التي صنعتها السياسة للدفاع عن منظومتها الأمنية فممثل كعادل الإمام تحول من ناقد فيلم “إحنا بتوع الأوتوبيس” إلى تابع لما تريد أن توصله الدولة في عدة أفلام مثل “الإرهاب والكباب”، والإرهابي"، “طيور الظلام”، ليغدو هو والدولة يسيران في درب واحد. 

تقول الكاتبة نهوند عيسى عن هذا التفتيت للبنى النقدية الثقافية الحقيقية إلى ثقافة بصرية مسطحة تعتمد على الآني أنها "أيدلوجيا ناعمة لا تعتمد الطاقة الملوثة، ولا ضحايا لجرائمها، ولا أعداء، بل عدوها الوحيد الفتور وعدم الاتصال".[2]

وتتكثف عملية تقديم ذاكرة بديلة للمتلقي العربي في مواسم محددة كشهر رمضان إذ يزيد الانتاج الدرامي أضعاف بقية شهور السنة، ويتناول قضايا بعينها تريدها الأنظمة العربية، مثل داعش “تنظيم الدولة” فقد كان حبكة مسلسلات ذات انتاج ضخم في عدة مواسم رمضانية سابقة، وهناك الثورات العربية والانقلاب على تاريخها الحديث بعدة مسلسلات سورية ومصرية، وترك انطباع سلبي عنها، والأمر ذاته ينطبق ليس فقط على السياسة بل أغلب القضايا الحقوقية الأخرى كمعاملة النساء، والمواقف الاجتماعية، كالحب والخيانة، فقد أصبح المواطن العربي يمشي وهو يحمل “ستريو تايب” عن كل شيء حوله أخذه مسبقاً من السينما وأثر على وعيه، وجعله مقلدًا لذات ردود الأفعال نفسها، دون أن يعرف معنى أن يتلقى التجربة بوعيه الفردي دون تأثير السينما والتفزيون عليه.
المصادر

[1] بورديو، بيير، 2004، التلفزيون وآليات التلاعب بالعقول، دار كنعان للدراسات والنشر والخدمات الإعلامية، ط1، دمشق، سوريا، ص67.

[2] عيسى، نهوند، 2008، ظاهرة تلفزيون الواقع وامتداداتها في التلفزيونات العربية، اتحاد اذاعات العربية، تونس، ص15.

 

 

اقرأ أيضاً

الأكثر قراءة