` `

الأيدولوجيا والإعلام الجديد.. شكل آخر من التضليل

نور حطيط نور حطيط
تكنولوجيا
8 نوفمبر 2021
الأيدولوجيا والإعلام الجديد.. شكل آخر من التضليل
يتتبع المقال تطور مفهوم الأيدولوجيا وارتباطها بالإعلام الجديد (Getty)

الأفكار الواردة في هذا المقال لا تُعبّر بالضرورة عن آراء “مسبار”

 

ماذا يعني أنْ يبدأ أشعيا برلين، الفيسلوف الرّوسي-البريطانيّ بكلامه عن نجاح الأيديولوجيا بأنّه لا يرجع إلى "كونها حقيقة صادقة، إنما إلى بساطتها وسذاجتها، التي تقوم مقام التفكير بالنسبة للجماهير غير الواعية؟". وماذا يعني أيضًا أن تؤكدّ حنّا أرندت الفيلسوفة الألمانية أنَّ "حكم الفكرة"، الذي تتميز به السلطة، خاضعة لمفعول فكرة واحدة كبيرة، تكون الأيديولوجيا فيها أداة دعاية ويكون المجتمع تحت السيطرة المطلقة للوسائل الإعلامية المؤدلجة؟ وماذا تعني الحَرَكيّة في الإعلام الجديد اليوم؟ وكيف استطاعت بعض الوسائل الإعلامية صناعة "الهابيتوس"، المصطلح الذي صاغه الفيلسوف الفرنسي بيير بورديو، والذّي يتجلى أساسًا في جعل الفرد ضحية وهم وتضليل، بعد أن يؤقلم أفكارًا، أو حدثًا، ليصير مقبولًا داخل الشبكة المجتمعية؟

وقبل الإجابة على هذا الطّرح، سيتطرق هذا المقال إلى مصطلحات مثل الأيديولوجيا، ومصطلحات تفيد القارئ والباحثين في المجال الرقمي، مثل الإعلام الجديد.

يقول الفيلسوف الألمانيّ مارتن هايدجر في هذا الحقل، بأنَّ الأيديولوجيا "تفكيرٌ جاهزٌ تمارسه الجماعة ويُعفي الفرد من عناء التحليل والتساؤل"، وتعود جذور المصطلح للكلمتين اليونانيتين idea وتعني فكرة أو تصور و logos تعني دراسة أو علمًا. ويرجع أولى استخداماته للفيسلوف الفرنسي Antoine destut de tracy في كتابه مشروع عناصر الأيديولوجيا.

والتعريف الأوضح للأيديولوجيا الذي مرّ بتطورات جمّة على مرّ التاريخ، يورده عالم الاجتماع المجري كارل منهايم بأنه "تمويهات واعية- بدرجات متفاوتة- تخفي الطبيعة الحقيقية لوضع لن يكون الاعتراف بحقيقته متفقًا مع الخصم. وبذلك تكون الأيديولوجيا أوهامًا مفارقة للواقع، وقناعًا لتحقيق مآرب فئوية، لأنها تُعبّر عن قيم وأفكار تعبوية، تحرّك الجمهور وتحرضه باتجاه الأهداف العامّة التي يسعى الطرف الآخر إلى تحقيقها". 

فللأيديولجيا، القدرة على بناء حالة من الوعي الزائف لدى الأفراد، وجعلهم في اغتراب أو استلاب لا يدركونه، وهنا مكمن الخطر، من حيث محاولة الأيديولوجيا المكونة من الأفكار، ومجموعة من القيم، توجيه المجتمع، والتأثير على عقله الواعي.

 والملاحظ أنَّ الأيديولوجيا يمكن أن تخدُم السياسة، والسلطة ورجالها وحتى الوسائل الإعلامية. فهناك أنواع مختلفة للأيديولوجيا الإعلامية والتي تستخدمها الأخيرة لجذب الأفراد المتابعين. لكن لا بدّ أولًا من القول بأنَّ الإعلام الجديد يختلف عن الإعلام التقليدي، كون الأول، يتيح لمستخدمي مواقع التّواصل الاجتماعي، المشاركة في صناعة محتوى الأخبار وبالتالي الاعتماد على أيديولوجيات كثيرة.

وبالعودة إلى أنواع الأيديولوجيا الإعلامية، فأيديولوجيا الوسيلة واللغة والنصّ والصورة، هي أحد أهم العناصر التي تعتمد عليها الوسائل الإعلامية المختلفة. ويقصد بالأولى أي الوسيلة، بحسب ما ورد في كتاب أيديولوجيا شبكات التواصل الاجتماعيّ وتشكيل الرأي العامّ للدكتور معتصم مصطفى بأنّها "ترتكز على منح تقنيات الاتصال سلطة معيارية تجعلها العامل الأول في تنظيم المجتمع وإعطائه معناه، والتسليم بخضوع التقدُّم في التواصل الإنساني والاجتماعي لتقدم التقنيات، ومن ثم الاعتراف لتلك التقنيات بالقدرة على تغيير المجتمع تغييرًا بنيويًّا؛ ذلك أن البُعد الأيديولوجي للتقانة قد لا يتراءى في جانب الاستعمال، لكن يظهر جليًّا في جانب التوظيف؛ أي توظيف المستجد التكنولوجي لأغراض لا يغدو عنصر الاستعمال في خضمها إلا تجليًّا من تجليات تلك الأغراض".

 وتعدّ اللغة، العنصر الأهم التي تستخدمها الوسائل الإعلامية لإيصال المعنى، أي معنى الحدث وجوهره بطريقتها المؤدلجة. ويمكن لهذه الوسيلة الإعلامية، أن تورد مجموعة من المصطلحات والجمل والعلامات لتُظهر دلالة معجمها اللغوي من جهة، وللتأثير على وعي المتلقي من جهة أخرى. فتنظيم الدولة الإسلامية الذي عُرف باسم داعش، لم يتوانَ عن استخدام جمل مثل: المرتدين والمخالفين لشرع الله..حماية ديار المسلمين، مقاتلة الصليبيين والقضاء عليهم، و"هم" الأعداء/ و"نحن"، للإشارة على الخير. فتبدو اللغة هنا ركيزة أساسية لداعش وذلك بهدف تجنيد الأفراد وجعلهم ضحايا هذه الأفكار. ولا يبدو عنصر النص منفصلًا عن اللغة، فالخطاب الإعلامي الداعشي على سبيل المثال، جعل من داعش حامية لديار المسلمين ضد المعتدين من المرتدين والغزاة، فشرّع التنظيم بنصّه القتل والإعدام. ويقول الأستاذ أحمد إسماعيلي في معرض حديثه عن عنصر النص بأنَّ "صناعة الأنباء تشكل سيرورة تفسيرية تشييدية إلى حد بعيد، وليست مجرد نقل للوقائع.. وفي بعض الحالات يمكن البرهنة على أنَّ المسلمات وضروب الخطاب التي ترتبط بها، أيديولوجية، والمعاني المسلّم بها ذات أهمية أيديولوجيا كبيرة."

 وإضافة إلى أيديولوجيا النص، تشكّل الصورة عنصرًا مهمًا للوسائل الإعلامية، وتكمن أهمية هذا العالم البصري في قدرته على التحول إلى أيديولوجية-أي التحول إلى فكرة- والفكرة تقود إلى مشروع وبالتالي يصبح هذا المشروع المستمد من الصورة التي تنتجها بعض الوسائل الإعلامية في سلوك البشر وعاداتهم. وعلى الرغم من القول بأنَّ كل ما يراه المرء حقيقيّ -بطريقة أخرى يجسد الحقيقة- فإنَّ الصورة اليوم، يمكن أن تخدع المشاهد بزيفها وتضليلها.

انتزاع الواقع وخلق وعي مزيّف

الكثير من الصّحف العالمية لم تكتب تقاريرًا واضحة حول أحداث حيّ الشيخ جراح الواقع في القدس، الذي يقطنه مواطنون فلسطنيون مهددون بالترحيل القسري، بل ذهبت بعضٌ منها للقول بأنّ عمليات ترحيل الفلسطينيين من منازلهم ما هي إلا "معركة قانونية طويلة الأمد"، وحولت هذه القضية المهمة إلى مجرد نزاع تجاري قائم بين الطرفين الإسرائيلي والفلسطيني. وإلى جانبٍ آخر سعتْ الوسائل الإعلامية الإسرائيلية، إلى استخدام مواقع التواصل الاجتماعيّ كوسيط لاجتياز الحقائق المتعلقة بقضية حي الشيخ جراح، ودفع تخوف إعلام الاحتلال من التضامن الدولي مع الفلسطينيين إلى الاستعانة بالخطابات الإعلامية واللغة والإعلانات وكذلك شركات التواصل الكبرى لإخفاء الحقائق، وحذف أو إيقاف حسابات المناصرين لقضية الشيخ جراح. وللحفاظ على الرواية الإسرائيلية وأيديولوجيا أرض الميعاد وحق إسرائيل في الأراضي الفلسطينية توجهت إلى تصوير الفلسطينيين المقاومين بأنهم جلادون ومعتدون على أمنها. 

هذا الواقع المصطنع الذي أصبح من أهم الأدوات التي تستخدمها بعض الوسائل الإعلامية، أكّده الفيلسوف الفرنسي جان بورديار، حين تحدث عن خطر الوسائل الإعلامية التي تنحو نحو صناعة واقع جديد بينها وبين المتلقّي، عبر إعادة توجيه وعيه وفقًا لأيديولوجيتها. ما حذا لاحقًا ببورديار إلى وصف هذه الحالة بأنها "واقعٌ فوق واقعي".

ولتحرير وعي المتلقي من هذا الزيف الذي تنشره بعض الوسائل الإعلامية، لا بدّ من وسيلة لحثّه على نقد الأحداث والأخبار بشكلٍ دائم، وعلى البحث والاضطلاع بمهمة التحري والاستقصاء في الأخبار كافة، بغية الوصول إلى الحقائق وتجنب الوقوع ضحية أيديولوجيا ما.

وعلى العموم لا يمكن اعتبار كلّ أيديولوجيا شر، فهذا يكفي لعقل مسطح كما يقول المفكر السوري سلامة كيلة، نحن إذًا نسلط الضوء على نوع محدد وعلى استخدام بعض الوسائل الإعلامية للأيديولوجيا لتحقيق مآربها، وبالتالي لئلّا نقع في أيديولوجيا يتكون جوهر فكرها "الهجوم على الأيديولوجيا بشكلٍ مطلق"، خصوصًا عندما ندرك بأنَّ هذا المصطلح مختلط الدلالة. 

ولا يمكن أيضًا الجزم بموت الأيديولوجيا مع أفولها في نهاية الحرب الباردة، لأنّ شكل الأيديولوجيا هذا تغيّر مع صعود الإعلام الرقمي وهيمنته وانتشار الشبكة العنكبوتية على مستوى العالم.

 

المصادر

الإعلام وتشكيل الرأي العام وصناعة القيم/ مركز دراسات الوحدة العربية

مجلة الدراسات الإعلامية_ المركز الديمقراطي العربي- برلين- ألمانيا- العدد الثامن.

أيديولوجيا شبكات التواصل الاجتماعي وتشكيل الرأي العام

المعهد المصري للدراسات

لماذا لا تموت الايديولوجيات أبدًا؟- مؤسسة مؤمنون بلا حدود

أبعاد أيديولوجيا الخطاب الإعلامي لتنظيم الدولة الإسلامية

الأكثر قراءة