` `

غزو العراق وأوكرانيا: الحروب العسكرية في عصر ما بعد الحقيقة

نور حطيط نور حطيط
سياسة
22 مايو 2023
غزو العراق وأوكرانيا: الحروب العسكرية في عصر ما بعد الحقيقة
تبيّن أنّ امتلاك العراق أسلحة نووية هو مجرّد ادعاء مضلل (Getty)

يروي باري شتراوس، أستاذ الدراسات الإنسانية في جامعة كورنيل، أنَّ استخدام المعلومات المُضللة خلال الحروب العسكرية، قديم قدم الحرب نفسها. ويعود شتراوس بالقارئ إلى الإمبراطورية الرومانية وتحديدًا إلى حرب Actium، عام 31 قبل الميلاد في كتابه الذي حمل عنوان "الحرب التي صنعت الإمبراطورية الرومانية: أنتوني وكليوباترا وأوكتافيان في أكتيوم".

صورة متعلقة توضيحية

دارت المعركة قبالة الساحل الغربي لليونان، وكان المتبارزان على العرش الروماني هما الأخوان أوكتافيان الذي حكم روما والنصف الغربي للإمبراطورية، ومارك أنتوني الذي حكم النصف الشرقي من عاصمتها الإسكندرية، موطن كليوبترا، التي كانت عشيقته وداعمته. 
اعتمد أوكتافيان لشنّ الهجوم العسكري على بثّ المعلومات المُضللة، لئلا تظهر الحرب وكأنها حربٌ أهلية، خصوصًا وأنَّ الشعب لم يكن يؤيد أي حروب داخلية قد تشتعل في الإمبراطورية. وبدلًا من إعلان الحرب على أخيه مارك أنتوني، شنَّ الهجوم على كليوباترا، وزعمَ أنها ساحرة أجنبية لا تليق بمارك ونَسبه، وادعى أنَّه وجد وصية لمارك يتنازل فيها عن الإمبراطورية لصالح عشيقته كليوباترا.

وشنّت كلّ من كليوباترا ومارك، حربًا من المعلومات المُضللة إلى جانب حربهم العسكرية على عدوهم أوكتافيان. وعلى الرغم من أنَّ الدعايتين لم تحسما الحرب التي وقعت، لكنها سمحت لكلا الطرفين بحشد قواته على حدّ تعبير شترواس. ولسوء حظّ كليوباترا ومارك، انتصر الأخ أوكتافيان بسبب المزايا العسكرية التي يمتلكها جيشه. 
انطلاقًا من هذه الحكاية، يمكن التطرق للحديث عن الحروب المعاصرة، ودور المعلومات المُضللة فيها.

الحروب في عصر "ما بعد الحقيقة"

ما استجدّ في القرن الواحد والعشرين، هو ظهور البنى التحتية الإلكترونية الرّقمية، التي ساهمت في توسيع دور المعلومات في تشكيل الرأي العام، وفي إعادة بناء الاستراتيجيات العسكرية الحديثة. وما اختلف عن الماضي، في العمليات الإعلامية وانتشار المعلومات المضللة، هو في كيفية إنشائها، ونطاق نشرها واستهلاكها ومدى تردد صداها في العالم المُعولم، الذي يصعب التمييز فيه بين الحقيقة وانتشار الأكاذيب.

لذلك سمي هذا العصر بـ" ما بعد الحقيقة"، وعرفّها قاموس أوكسفورد بكونها "صفة تُعرَّف على أنها "تتعلق أو تدل على الظروف التي تكون فيها الحقائق الموضوعية أقل تأثيرًا في تشكيل الرأي العام من نداءات العاطفة والمعتقدات الشخصية".

صورة متعلقة توضيحية

فما هو إذًا دور المعلومات المُضللة في الحروب المعاصرة؟ وماذا عن الطرق والوسائل التي يتمّ استخدامها لتأجيج الصراعات، والنزاعات والحروب؟

نموذج الغزو الأميركي للعراق عام 2003

بعد نحو 18 شهرًا من هجمات 11 سبتمبر 2001، شنّت الولايات المتحدة وحلفاؤها حربًا على العراق، تحت حجة "إزالة أسلحة الدمار الشامل التي تمتلكها العراق". ليتبين لاحقًا أنها فرضية مزيفة اعتمدتها واشنطن في سرديتها لتأطير الصراع.
سهّلت الروايات السائدة التي روجتها الولايات المتحدة قبل بدء حربها على العراق، تبريرها للغزو أمام شعبها في حرب استباقية على الإرهاب، واتبعت إدارة بوش آنذاك أربعة محاور رئيسة: أولها، أنَّ صدام حسين الرئيس العراقيّ السابق كان معتديًا، وثانيًا، أنَّ صدام تعاونَ مع الخلايا الإرهابية التابعة للقاعدة، وكانَ متورطًا بحسب زعمهم بهجمات 11 سبتمبر، وثالثًا، سعي الرئيس العراقي لامتلاك أسحلة نووية، وآخرها حيازة الأخير على أسلحة دمار شامل تهدّد أمن أميركا ومصالحها. 
ليظهر فيما بعد، أنها ادعاءات مضللة وكاذبة، فلم يكن هناك من دلائل على وجود روابط بين الرئيس العراقيّ وتنظيم القاعدة، ولمْ تعثر السلطات الأميركية على أسلحة الدمار الشامل التي زعمت أنَّ العراق حازتها، وذلك بحسب تقرير Duelfer Report (وكالة الاستخبارات المركزية) الذي أُعدّ سنة 2005، إضافة لتقرير لجنة مجلس الشيوخ المختارة للاستخبارات والذي صدر عام 2006.

صورة متعلقة توضيحية
صورة متعلقة توضيحية

دور وسائل الإعلام الأميركية في غزو العراق

في الفترة التي سبقت الهجوم على العراق، استُعملت الوسائط الإعلامية، كوسيلة لنقل مزاعم الرئيس الأميركي جورج بوش بامتلاك العراق لأسلحة خطيرة تسبب زعزعة أمن أميركا. 
وكشفَت Fran Hassencahl أستاذة التاريخ والتواصل وزميلها Hart. W. B، في كتابهما الذي يحمل عنوان Culture as Persuasion: Metaphor as Weapon Bring ‘Em On: Media and Politics in the Iraq War، عبر تحليل لما يقارب من 2500 رسمًا كاريكاتوريًا، بأنَّ 95% من تلك الرسومات عبّرت عن رأي السلطة، وقد لجأ راسموها لنزع الصفة الإنسانية من الرئيس العراقيّ السابق صدام حسين، وتصويره كحيوان وبأشكال بغيضة. وكان الهدف من وراء تلك الرسومات هو تعبئة الرأي العامّ للحرب.
 وتُظهر كل من الدكتورة Al Ramiah وزميلها الطبيب النفسي هيوستن أنَّ مثل هذه الرسومات تعزّز الكراهية لدى الأفراد مما يؤدي لتجنب اتصالهم مع الجماعات الخارجية التي قد تكون لديها معطيات مختلفة، والنتيجة هي "زيادة احتمالات العنف والصراعات والنزاعات والحروب".

وعملًا برواية بوش الرئيس الأمريكي السابق، سعت الوسائل الإعلامية لإظهار الهجوم على العراق كأنه سعي لتحقيق العدالة، وليسَ حربًا. ومن منظور آخر، فإنَّ التعبئة التي حصلت عقب هجمات 11 أيلول، والتي استُخدمت فيها تعابير: الحرب العالمية على الإرهاب، وصراع الحضارة والهمجية، وتحقيق العدالة، قد ذهبت بالناس إلى تصديق رواية بوش القائلة بامتلاك العراق للأسلحة الكيماوية وعلاقة صدام حسين  بتنظيم القاعدة. 
وحدّدت بعض الأبحاث في مجال علم النفس، أنّه من السهل بمكان، تصديق الجمهور لأية معلومة حال توافقها مع المعلومات الأخرى المحفورة في الذاكرة. وعلاوة على ذلك، فإنَّ المعلومات التي تتكرر يصعب محوها من وعي الرأي العام حتى لو تبين لاحقًا أنها خاطئة.
كما أنَّ تكرار المعلومات يؤدي إلى الجهل التعددي Pluralistic Ignorance، ويشير المصطلح بأنَّ الأقلية التي كانت معارضة للغزو الأميركي للعراق، وخوفًا من عدم تناغمها مع الأغلبية، فضلت التزام الصمت أو تأييد وتبني المعلومات والبيانات الخاطئة.

ارتبط انتشار المعلومات المُضللة في الولايات المتحدة بدعم الحرب العراقية قبل وبعد بدء الهجوم العسكري على العراق. وباستخدامه للمسح التمثيلي، أظهر ستيفن كول مدير برامج مواقف السياسة الدولية PIPA أنَّ "دعم الحرب كانَ دالة مباشرة لمدى تصورات الناس الخاطئة عن أسلحة الدمار الشامل ومختلف الحقائق الأخرى المُتعلقة بالحرب"، وكان الاعتقاد بالمعلومات المزيفة، أقوى مؤشر على دعم الغزو، قبل قيام الرئيس بوش بالتصويت.
واللافت أنّ ما بين 35% و40%، من الشعب الأميركي استمر بتصديق رواية أنَّ العراق تمتلك أسلحة الدمار الشامل، حتى عام 2008 أي بعد خمس سنوات من الغزو.

نموذج الحرب الروسية الأوكرانية 

تميزت الحرب الروسية الأوكرانية بانتقالها إلى العالم الافتراضيّ بشكل واسع، ولعبت وسائل التواصل الاجتماعيّ دورًا مهمًا في تأجيج الصراع، وفي خلق مساحة لانتشار خطاب الكراهية ونشر المعلومات المزيفة، وتزييف الصور ومقاطع الفيديو، وصار من الصعب في هذه الحرب التي بدأتها روسيا منذ فبراير/شباط 2022، والممتدة إلى اليوم، تحديد ما هو صحيح وما هو زائف ومضلل. وبدا أنَّ المعلومات المزيفة وثيقة الصلة بالسياسة وبالاستراتيجيات العسكرية، الروسية والأوكرانية.

ويعكس انتشار المعلومات المُضللة حول الحرب الروسية الأوكرانية، تحديات كبيرة، ذلك أنَّ الخوارزميات والنظام الأساسيّ لمواقع التواصل الاجتماعيّ يعملان جنبًا إلى جنب على تضخيم الانتشار وتوزيع المعلومات المضللة، فالخوارزميات تسهّل عملية إنشاء غرف الصدى والتحيزات على أنواعها، خاصة وأنَّ المستخدمين يميلون إلى نشر الأكاذيب التي تكون "أبعد وأسرع وأعمق وأوسع من الحقيقة"، وبشكل خاص تلك المتعلقة بالأخبار السياسية الكاذبة. ووجدت دراسة أنَّ التغريدات التي تتضمن معلومات مزيفة تزيد من احتمالية تداولها وتناقلها على منصة تويتر بنسبة 70% مقارنة بالتغريدات الصحيحة. وكذلك الأمر في دراسة أخرى التي وجدت بدورها، أنَّ المنشورات المحتوية على معلومات خاطئة على منصة فيسبوك، يشاركها الأفراد أكثر بستّ مرات من تلك المتضمّنة لمعلومات صحيحة. كما يمكن أن تؤدي "حلقات التغذية" العائدة بين منصات التواصل، والوسائط التقليدية إلى زيادة انتشار المعلومات المُضللة، وفق الدراسة ذاتها.

وفي هذا الصدد، تناقش ساندرين تيلر، المستشارة الاستراتيجية في منظمة أطباء بلا حدود، وبيريك ديفيدال، مستشار السياسات باللجنة الدولية للصليب الأحمر، ودلفين فان سولينج، مستشار المخاطر الرقمية باللجنة الدولية للصليب الأحمر، كيف يمكن للمعلومات المضللة أن تزيد من مخاطر عملهم، ومن الأشخاص الواقعين في ساحة النزاع المسلّح.

حرب المعلومات بين روسيا وأوكرانيا

أُطلق على حرب المعلومات المُعاصرة، اسم "عمليات التأثير"، وتتضمن جمع المعلومات عن الخصم، وتحليلها ثم إعادة نشرها عبر الوسائط الإعلامية التقليدية، أو منصات التواصل الاجتماعيّ بطريقة تهدف إلى التضليل، عبر التأثير على ذهنية الخصم، وحشد رأي عام داخليّ وخارجي ومعادٍ بشدة للخصم.
واستخدمت عمليات التأثير هذه، في الحرب الروسية الأوكرانية، التي كثُرت فيها العمليات السبرانية والمعلومات المضللة، عدا عن الصور ومواد الفيديو التي هدف مروّجوها –من طرفيّ الصراع- عبر فبركتها، أو التلاعب بها إلى إحداث اختراق في الرأي العامّ، بما يخدم مصالحهم وسياساتهم العسكرية. 
وأظهرت الحرب الروسية الأوكرانية، حرب المعلومات بطريقة معقدة ومتعددة المستويات والأدوات والوسائل والمجالات، فقد انتشرت حرب العمليات النفسية والحروب الإلكترونية على أشكالها وحرب المعلومات الاقتصادية وقرصنة المعلومات.

وبحسب "منديانت" (Mandiant) الذي يُعنى باستخبارات التهديدات، استخدمت روسيا، قبل غزوها أوكرانيا، جميع الوسائط التلقيدية والحديثة، لشنّ حملات التأثير على الجماهير الروسية وغيرها، واستعملت روايات حقيقية وروايات مزيفة وملفقة، وشملت عمليات المعلومات الروسية والبيلاروسية، التهديدات السيبرانية وعمليات التمكين الإلكترونيّ (Cyber-Enabled Operations)، واستخدمت بالتزامن مع الغزو، الأصول الثابتة (Established Asset)، وعمليات الاختراق والتسريبات (hack-and-leak operations) ومجموعة من النواقل (Vectors) التي استعانت بها الجهات المتحالفة مع روسيا.

واعتمادًا على تحليل شركة منديانت، استخدمت روسيا المتصيدين و"بوابات الأخبار المزيفة المرتبطة بجهاز المخابرات الروسية"، والنواقل مثل "الكاتب الشبح" (Ghost writer)، ويشير المصطلح الذي يعود إلى القرن الخامس عشر قبل الميلاد إلى الكاتب الذي يكتب نيابة عن شخص آخر. وفي السياق الروسيّ، فقد جنّدت روسيا بعض الكُتّاب لإنشاء محتويات داعمة وموالية لها، تهدف إلى نشر الإثارة والتضليل بغرض تقويض ثقة الرأي العامّ الأوكرانيّ بالحكومة البولندية، وهذا ما كشفته شركة (Mandiant)، في مجموعة التجسس البيلاروسية UNC1151 والتي كانت مسؤولة جزئيًا عن كتّاب الظلّ وقامت بحملات مماثلة في البلدان الأوروبية.

واستخدمت أوكرانيا أدوات ووسائل مختلفة لدعايتها التضليلية، إذ أصبحت منصة "تيلغرام"، ساحة للحرب الإلكترونية بين الأوكرانيين والروس. وما غذّى تصاعد حرب المعلومات هذه، هي إجراءات منصات التواصل الأخرى كفيسبوك وتويتر ويوتيوب التي اختارت مساندة الجانب الأوكرانيّ في الصراع، فحظرت المحتويات الروسية وأوقفت بثّ الوسائل الإعلام الروسية الرسمية كروسيا اليوم وسبوتنيك. ويُذكر أنَّ زيلنسكي الرئيس الأوكرانيّ الحالي، يمتلك قناة خاصة به على تيلغرام يتوجه فيها إلى الشعب الروسيّ باللغة الروسية.

وتمتلك أوكرانيا مجموعة من القراصنة أسسها مستشار الأمن السيبراني السابق يوجين دوكوكين، والتي تعرف بالجيش السيبراني الأوكرانيّ Ukrainian Cyber Troops/Army، وتُعنى بمراقبة حسابات الانفصاليين وحسابات المواليين لروسيا والقوات الروسية، وتعمل على إغلاق الحسابات التابعة لمسؤولين موالين. للقوات الروسية على منصات التواصل الاجتماعي، مع مهمات أخرى موكلة لها.

يقول مؤلف كتاب "ما بعد الحقيقة"، لي مكنتاير "إنّ ما بعد الحقيقة هي التشكيك، ليس في فكرة معرفة الواقع، بل في وجود الواقع نفسه. فعندما يكون الشخص مُضلَّلًا أو مُخطئًا فمن المُحتمل أن يدفع الثمن. لكن عندما ينكر القادة أو أغلبية المجتمع الحقائق الأساسية، فإنَّ العواقب يمكن أن تكون كارثية وتدميرية للعالم كلّه".

المصادر:

Washington Post

Anguages

Iasj

Research Gate

Congress

Gov info

Academic

France24

OECD

France24

France24

Rasanah

Research Gate

Alhurra

Independent Arabia

Vice

Academic

اقرأ/ي أيضًا

كيف روّجت الولايات المتحدة لمعلومات كاذبة قبل احتلال العراق؟

ادعاءات من الوطن العربي استُخدمت على أنّها من الحرب الروسية على أوكرانيا

الأكثر قراءة