تحقيق مسبار
من بين الألفاظ التي تتعدد جموعها في اللغة العربية، رغم ندرة استعمالها، جمع دلو. وقد اشتهرت هذه الكلمة في قصة يوسف عليه السلام باعتبارها كانت سبباً في إنقاذ الطفل الذي سيبعث نبياً، ويعود إلى والده بعد سنوات من الفراق بسبب مكيدة إخوته. وإذا كان الدّلو الذي تعلّق به يوسف وهو يخرج من البئر واحداً، فإن هذه المفردة تجسّد لوحدها ذلك التنوع الذي يميّز اللغة العربية في الانتقال من صيغة الإفراد إلى صيغة الجمع. تعرّفك هذه المقالة على معاني وأصول كلمة دلو. كما تُطلعك على الجموع التي يمكن أن تتحول إليها وقواعد اشتقاقها.
معنى وأصل كلمة دلو
الدلو اسم جامد لما يُستقى به، يذكّر ويؤنّث غالبُا، يقال أدلى بدلوه في البئر، إذا أنزله ليسقي الماء. ويقال كنايةً أدلى بدلوه في الموضوع، إذا ساهم برأيه وشارك في الأمر. وورد في معاني دلو : علامة للجمال. كما يَدلّ اللفظ على معنى الدّاهية والمصيبة. وإلى جانب الاسم الجامد، يرد دلو بمعنى المصدر من فعل دَلَا. وتتقاطع مادة الدال واللام مع الواو أو الألف في المعجم مع العديد من المعاني التي تبدأ بالإدلاء ويقصد بها المشاركة والإسهام بالرأي، والتدلّي التي تعني النزول إلى قعر البئر.
ما هو جمع دلو؟
يتخذ جمع دلو صيغًا مختلفةً. وأشهر هذه الصِيَغ جمع دلو على "دِلاء"، والتي تُعدّ من جموع الكثرة على وزن فِعال. وينقل المعجميون وعلماء الصرف جموعًا أخرى لكلمة دلو، إذ يمكن أن يكون جمع دلو على: أدْلٍ ودُلِيُّ ودِلِيُّ ودَلَى. وأورد بعض هذه الجموع ابن يعيش في "شرح المفصل" وهو يتحدث عن جمع لفظة دم على دماء ودمِيّ. وقال "تجمعه في الكثرة على "دِماءٍ"، و"دُمِيّ" على حد "ظَبْي"، و"ظِباءٍ" و"ظُبِىٍّ" و"دَلْوٍ" و"دِلاءٍ"، و"دُلِيٍّ".
وشرح محمود صافي في "كتاب الجدول في إعراب القرآن" صيغ هذا الجمع وشكلها وهو يقول "دلو: اسم جامد لما يُستقى به، يذكّر ويؤنّث غالبًا، جمعه دلاء بكسر الدال وأدل بتنوين اللام وحذف الواو من آخره، ودُليّ بضمّ الدال وكسرها وتشديد الياء، ودلى بفتح الدال مع ألف مقصورة بعد اللام، ووزن دلو فعل بفتح فسكون". وفي لسان العرب ميّز ابن منظور بين جمع القلة والكثرة وهو يشرح لفظة دلو وأورد في سياق ذلك: "الْجَمْعُ أَدْلٍ فِي أَقل الْعَدَدِ، وَهُوَ أَفْعُلٌ، قُلِبَتِ الْوَاوُ يَاءً لِوُقُوعِهَا طَرَفًا بَعْدَ ضَمَّةٍ، وَالْكَثِيرُ دِلاءٌ ودُلِيٌّ، عَلَى فُعولٍ، وَهِيَ الدَّلاةُ والدَّلا بِالْفَتْحِ وَالْقَصْرِ، الْوَاحِدَةُ دَلاةٌ". ويلاحظ أن واو "دلو" تحذف في بعض الجموع كدلاء، أو تقلب ياء في جموع أخرى مثل "دُلِيٌّ"، الشبيهة بجمع لفظة عصا على عصيّ.
قاعدة قلب الواو ياءً
شرح الدكتور عبده الراجحي في كتابه الشهير "التطبيق الصرفي" قاعدة جمع دلو على دِلِي، وعصا على عِصِي، بتحويل الواو ياء. وسرد حالات قلب الواو ياء في اللغة العربية حتى أحصى تسع حالات. وورد مثال جمع الدلو الذي تقلب واوه ياءً في نطاق الحالة التاسعة والأخيرة. وتقلب هذه الواو إذا وقعت لامًا لجمع تكسير على وزن (فعول)، وذلك مثل :عصا ودلو جمعهما: عصوو ودلوو. فتقلب الواو الأخيرة ياء لتصير: عصوى ودلوى. ثم تقلب الواو الأولى ياء تبعًا للقاعدة السابقة وتدغم فى الياء الثانية لتصير عصيّ ودلي، ثم تقلب الضمة إلى كسرة لصعوبة الانتقال من ضم إلى كسر فتصير: عِصيّ ودِليّ.
جمع دلو في الشعر العربي
ورد جمع الدّلاء باعتباره أكثر الصِيَغ شيوعاً عند جمع دلو في الكثير من الشواهد الشعرية العربية القديمة. وكان أشهر هذه الشواهد:
بيت شاعر الرسول حسان بن ثابت:
لساني صارم لا عيب فيه وبحري لا تُكدّره الدّلاء
كما ورد هذا الجمع في شعر الفرزدق وهو يقول:
فَدُونَكَ دَلْوِي إنّهَا حِينَ تَستَقي بفَرْغٍ شَديِدٍ للدّلاءِ اقْتِحامُهَا
كما قال الفرزدق في بيت آخر:
وَجَدْنا لَكُمْ دَلْواً شَديداً رِشاؤها تَضِيمُ دِلاءَ المُسْتَقينَ ذَنُوبُها
واستخدمه الشاعر الجاهلي النابغة الذبياني وهو يقول:
إذا انسحَّتْ دلاءُ الماء منهُ أمدته بسافكها الدلاء
ولم يغب لفظ الدلاء عن قصائد الحب والغزل، كما ورد في شعر قيس بن الملوح:
وَقالوا لَو تَشاءُ سَلَوتَ عَنها فَقُلتَ لَهُم فَإِنّي لا أَشاءُ
وَكَيفَ وَحُبُّها عَلِقٌ بِقَلبي كَما عَلِقَت بِأَرشِيَةٍ دِلاءُ
وفي السياق ذاته استعمل مهيار الديلمي هذا اللفظ قائلا في بيت رقيق:
آهاً لوحشةِ ما بيني وبينَكُمُ إذا خَلتْ من دِلاءِ الجيرةِ القُلُبُ