تحقيق مسبار
العالَم الذي نعيش فيه مكوِّن فسيح فضاءً ودلالةً في الوقت نفسه. وتطرح لفظة عالَم الذي لا نعرفه إلا واحدًا في منظور تصورنا المادي، حالة من الحالات المعجمية والصرفية الخاصة، والنادرة، من حيث خصائصُها على مستوى صيغها في الجنس أو العدد. وتبعث هذه الخصوصية نوعًا من الفضول المعرفي للبحث عن مدى قابلية جمع عالَم في اللغة العربية.
تجيب هذه المقالة عن سؤال إمكانية جمع عالَم، وتحدد مختلف الخصائص الصرفية والمعجمية لهذه الكلمة، وتميز بين سياقات وصيغ جمعها.
التحديد المعجمي لكلمة عالَم
العالَم اسم يدل على الخلق كله، وقيل، كل ما حَواه بطنُ الفلك. وفي المعجم المعاصر يُعرّف العالم بأنه كل صِنف من أَصَناف الخلْق، كعالم الحيوان، وعالم النبات. ونقل الزبيدي في "تاج العروس" "قالَ بَعْضُ المُفَسِّرين: العَالَمُ مَا يُعْلَمُ بِهِ، غَلَب على مَا يُعْلَمُ بِهِ الخالِقُ، ثُمَّ على العُقَلاءِ من الثّقَلَيْنِ، أوالثَّقَلَيْنِ، أَو المَلَكِ والإنْسِ. واخْتارَ السَّيِّدُ الشَّرِيفُ أنَّه يُطْلَقُ على كُلِّ جِنْسٍ، فَهُوَ للقَدْرِ المُشْتَرَكِ بَيْنَ الأجْناسِ، فيُطْلَقُ على كُلِّ جِنْسٍ". ويفيد لفظ "عالَم" في التراكيب العربية العصرية معاني عديدة فيأتي بمعنى مجال، إذ نقول مثلًا عالَم السياسة أي مجال السياسة. والعالَم الجديد يقصد به أمريكا، والعالَم القديم يقصد به أُورُوبَّا وَآسِيَا وَإِفْرِيقِيَا. والعالَمُ الحِسِّيُّ: مجموعة الأشياء التي يمكن أن تُدرَكَ بالحواسّ، والعالَم السُّفليّ: جانب المجتمع المنخرط في الرذيلة والأعمال الإجراميَّة، والعالَم العقليّ: ما يتّصل بالذِّهن والتفكير من ماهيّات، وعالَم الغيب: في عُرْف المفسرين ما لا يعرفه البشر إلاّ بواسطة الأنبياء فلا يقع تحت الحواسّ ولا يدركه العقل مباشرة، ونقيضه عالَم الشهادة.
التحديد الصرفي لكلمة عالَم
"عالَم" بفتح اللام اسم جمعٍ على وزن فاعَل، لا مفرد له من لفظه، ويطلق على المجموعة المتمايزة من المخلوقات، سواء عقلاءَ كانوا أم غيرَ عقلاءَ، فيقال عالَم الإنسان وعالَم النبات وعالَم الحيوان ونحو ذلك، ولا تتحقق فيه شروط جمع المذكر السالم، لخلوِّه من الوصفية المشتقة، ولعدم دلالته على مفرد، ولعدم مؤنثٍ له مختومٍ بالتاء.
ما هو اسم الجمع؟
رأينا أن "عالَم" لفظ ينتمي إلى اسم الجمع وهو ما دل على معنى الجمع -أي دل على أكثر من اثنين أو اثنتين- ولكنه ليس له مفرد من لفظه، بل يكون له مفرد من لفظ آخر. ومن ذلك مثلا :كلمة (نساء) فهي اسم جمع ، لأن مفردها: امرأة. وكلمة (قوم) فهي اسم جمع، لأن مفردها: رجل. وكلمة (إبل) فهي اسم جمع، لأن مفردها المذكر: جمل، ومفردها المؤنث: ناقة. وهذا يعني أن لفظ "عالَم" يدل بذاته على معنى الجمع وهذا مبني على تعريف بعض المفسرين والعلماء لمعنى "عالَم" بأنه يجمع الثّقَلين: الإنس والجن. وهناك من ألحق بهما باقي المخلوقات الأخرى بما في ذلك الملائكة. ولأن اسم الجمع لفظه لفظ المفرد، ومعناه معنى الجمع، فإنه يجوز أيضًا جمعه، ومعاملته معاملة المفرد، فيُجمع من جديد على صيغة من صيغ الجموع: فنقول مثلًا في لفظة "قوم": أقوام، وفي لفظة "غنم": أغنام.
هل يمكن جمع عالَم في اللغة العربية؟
إذا كان اسم الجمع قابلًا لأن يُعامَل معاملة المفرد ثم يُجمع من جديد بصيغة من صيغ الجموع، فإن هذا الأمر ينطبق بالضرورة على جمع عالَم التي يمكن جمعها على صيغتين:
- صيغة منتهى الجموع: وهي نوع من أنواع جموع الكثرة، وهو كل جمع كان بعد ألف تكسيره حرفان أو ثلاثة أحرف وسطها ساكن. وفي هذه الصيغة يمكن جمع عالَم على وزن "فواعل"، فنقول "عوالِمُ". وتُطبّق هذه الصيغة على كل اسم من أربعة أحرف ثانيه ألف زائدة، مثل: خاتم وخواتم، طابع وطوابع، وقالب وقوالب.
- صيغة جمع المذكر السالم: ويُقصد به كل جمع ينتهي بألف ونون، أو ياء ونون، حسب إعرابه. فنقول في جمع عالَم: عالَمُون وعالَمِين. لكن جمع عالَم جمعَ مذكرٍ سالمًا هو على الإلحاق لا على الأصل والقياس، تغليبًا للعاقل مع غير العاقل. فإذا قيل العالَمونَ بالرفع والعالَمينَ بالنصب والجر، فهو للدلالة على جميع المخلوقات والكائنات، ومن ضمنها العُقلاء، لأن جمع المذكر السالم لا يصلح في أصله إلا لجمع العقلاء.
جمع عالم في القرآن
تبيّن مما سبق أنّه يمكن جمع عالَم على على صيغتين. لكن المقارنة بينهما تُظهر أن صيغة "عوالم" على وزن فواعل، تكون جمعًا لغير العاقل الذي ورد بصيغة "فاعَل". أما صيغة عالَمون فهي للدلالة على جميع المخلوقات والكائنات ومن بينهم العقلاء. وهذا ما يفسر أن القرآن الكريم لم يتضمن بتاتاً صيغة "عوالم"، واستعمل صيغة "العالمين" بكثرة. وقد وردت هذه الصيغة في العشرات من الآيات من قبيل:
إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ- البقرة 131
إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ- آل عمران 33
وَإِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ- آل عمران 42
فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ- آل عمران 97
ويتضح من تأمل السياقات القرآنية التي ورد فيها جمع عالَم أنه يغلب عليها مقصود المكلّفين العقلاء من الجن والإنس. وقد قدّم أهل التفسير بعض الاستدلالات على ذلك من خلال استنباط معاني بعض الآيات. فقال "قال الفراء وأبو عبيدة: العالم عبارة عما يعقل وهم الإنس والجن والملائكة والشياطين ولا يقال للبهائم: عالم". وقالَ الأزْهَرِيُّ: " والدَّليلُ على صِحَّةِ قَوْلِ ابنِ عبَّاسٍ قولُه عَزَّ وجَلّ: {ليَكُون للْعَالمين نذيرا} ، ولَيْسَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ نَذِيرًا لِلْبَهائِمِ وَلَا للمَلائِكَةِ، وهم كُلُّهم خَلْقُ اللهِ، وإنَّمَا بُعِثَ نَذيرًا لِلْجِنِّ والإنْسِ".