تحقيق مسبار
تتعامل اللغات الطبيعية مع كثير من المسميات انطلاقاً من قاعدة المحاكاة الصوتية المباشرة، كصوت الأشجار مثلاً. وينتج عن هذا النوع من التعامل اللغوي مفردات كثيرة قريبة من الأصوات المحكية، وتشمل بالخصوص أصوات الحيوانات وحركات مكونات الطبيعة من حولنا. فيوصف صوت الماء بالخرير وصوت الريح بالصرير وغيرها. ومن بين هذه الألفاظ الدالة على الأصوات لفظ الحفيف المرتبط بصوت الأشجار. فما علاقة هذا اللفظ بحركة الأشجار؟
تبين لك هذه المقالة ظاهرة الاشتقاق الصوتي، وأمثلتها في اللغة العربية، وتجيبك عن تساؤل هل الحفيف هو صوت الأشجار.
ما هو الاشتقاق الصوتي؟
يقوم هذا النوع من الاشتقاق على صياغة اسم أو فعل من حكاية صوت، من أجل التعبير عن صدور هذا الصوت أو ترديده. إنه نوع من المحاكاة لكل ما يحيط بنا في الطبيعة بشكل يقارب بين اللفظ/الدّالّ والمسمّى/المدلول. فتصبح بذلك العلاقة بين الاسم ومسماه علاقة صوتية منطقية وواضحة، على عكس العلاقة التي تربط بين جل المسميات وأسمائها، والتي تظل علاقة اعتباطية غير منطقية أو غير مبررة. فتسمية الماء مثلا بالخرير، راجع إلى أن صوت حركة الماء، ينشئ هذين المقطعين الصوتيين "خر خر"، أما علاقة لفظ مثل "حائط" بالشيء الذي يمثله فتظل غير مبررة، إلا بالتواضع والاتفاق الاجتماعي.
ويسمي علماء فقه اللغة الاشتقاق الصوتي بنظرية المحاكاة، وخلاصتها أن الإنسان يسمي الأشياء بأسماء مقتبسة من أصواتها، كنباح الكلب، ونعيق الغراب وصهيل الفرس ودوي الريح وغيرها. إلا أن هذه النظرية التي اعتبرها البعض هي منشأ اللغات، تعرضت لانتقاد واسع لأنها حسب منتقديها تحصر اللغة في حظائر الحيوانات، بينما تعد اللغة في الحقيقة مجالاً واسعاً لا حصر له من الألفاظ والمفردات.
ما هي ألفاظ المحاكاة في العربية؟
تشمل هذه النوعية من الاشتقاقات الصوتية الكثير من الأصوات البشرية والحيوانية والطبيعية، بل حتى أصوات الجمادات وهي ترتطم ببعضها البعض. وتشمل هذه الألفاظ كل المشتقات مثل الأفعال والأسماء والمصادر وغيرها. من الأمثلة التي تشتهر بها اللغة العربية في هذا المجال:
- أحَّ: حكاية تنحنح، أو توجع، وأحّ الرجل: ردد التنحنح في حلقه.
- الأَزِيزُ: صوت غليان القدر، والأَزِيزُ صوت الرعد من بعيد. أَزَّت السحابةُ تَئِزُّ أَزًّا وأَزِيزًا.
- أف: الأفُّ والأَفَفُ: من التّأفيف. تقول: قد أفّفتُ فلانًا، إذا قلت له: أفٍّ.
- آه: وقد شق الإنسان من حكاية صوت التوجع (آه) فعلاً، فقال: آه يأوه أوهًا، أي شكا وتوجع. وهكذا: تأوه تأوهاً
- الثعثعة: حكاية صوت القالس، وقد تثعثع بقيئه وثعثعه.
- الجهجهة: صياح الأبطال في الحرب، وقد جَهْجَه وتجهجه، وجَهْ: حكاية صوتهم.
- حَأْحَأَ: بالتَّيْسِ وبالكبش دعَاه، قال له حَأْحَأْ زَجْرًا.
- الصَّئِيُّ: على فعيلٍ صَوْتُ الفَرْخ، صَأَى الطَّائرُ والفَرْخُ والفأْرُ والخِنْزيرُ والسِّنَّوْرُ والكلبُ والفِيلُ -بوزن صَعَى- يَصْأَى صَئيًّا وتَصاءَى، أَي: صاحَ.
الاشتقاق الصوتي من أصوات الحيوانات
من أشهر الأصوات التي اشتقت صوتياً عن طريق المحاكاة، تلك التي تصف أصوات الحيوانات. ومن أشهر هذه الألفاظ الدالة على هذه الظاهرة:
- زئير الأسد.
- فحيح الأفعى.
- خوار البقرة.
- عواء الذئب.
- أزيز الذبابة.
- صهيل الحصان.
- نهيق الحمار.
معنى لفظ الحفيف
تشمل هذه الأصوات الداخلة في إطار الاشتقاق الصوتي، أصوات الاحتكاك التي تحدث بين النباتات ومحيطها الطبيعي بفعل عوامل كالريح أو الماء أو الإنسان. ومن بينها صوت الحفيف، الذي ينسبه البعض إلى صوت الأشجار. ويشرح معجم المعاني الجامع الحفيف بأنه اسم ومصدر من الفعل حَفَّ يَحِفُّ. وينسب الحَفِيفُ إلى صوت الأشْجَارِ ويعرّف بأنه الصَّوْتُ الصَّادِرُ عَنْ تَحَرُّكِ أَوْرَاقِ الشَّجَرِ. كما ينسب إلى جَنَاحَيِ الطَّائِرِ على أنه صَوْتُ جَناحَيْهِ. كما يرد في المعاجم أيضا مرتبطاً بالحَيَّةِ على أساس أنه صَوْتُ جِلْدِها.
ويشرح ابن منظور في قاموسه الشهير "لسان العرب" معاني صوت الحَفيفُ بقوله إنه "صَوْتُ الشَّيْءِ تسْمَعُه كالرَّنَّةِ أَو طيَرانِ الطَّائِرِ أَو الرَّمْيةِ أَو الْتِهَابِ النَّارِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، حَفَّ يَحِفُّ حَفِيفاً. وحَفْحَفَ وحَفَّ الجُعَلُ يَحِفُّ: طَارَ، والحَفِيفُ صَوْتُ جناحَيْه، والأُنثى مِنَ الأَساود تَحِفُّ حَفِيفاً، وَهُوَ صَوْتُ جِلْدِهَا إِذَا دَلَكَتْ بعضَه بِبَعْضٍ". ويلخص كل هذه المعاني بقوله إن "حَفِيفُ الرِّيح: صَوْتُهَا فِي كُلِّ مَا مرَّت بِهِ". ويعتبر هذا المعنى أكثرها إيجازاً وإفادة في معنى الحفيف، نظراً لربطه لهذا الصوت بحركة الريح مهما كان ما يحتك بها.
الحفيف في الشعر العربي
نظراً لارتباط صوت الحفيف بالطبيعة والريح ونسائمها وحركاتها الهادئة والرومانسية، فقد كان لفظ الحفيف موضوعاً للتوظيف الشعري، بما يمتلكه هذا اللفظ من رنة شعرية وإيقاعية ظاهرة. فورد في الشعر الجاهلي في قول عمرو بن مالك وهو يصف كثافة النبال المتساقطة على الرؤوس:
كَأَنَّ حَفِيفَ النَّبْلِ مِنْ فوقِ عَجْسِها عَوَازِبُ نَحل أخطأَ الغارَ مُطْنِفُ
لكن أشهر نص وظف هذا اللفظ توظيفاً شعرياً بالغاً هو قصيدة الشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش، التي عنونها باللفظ نفسه. يقول محمود درويش في هذه القصيدة التي وصف فيها صوت الأشجار وصفاً تصويرياً بديعاً:
حفيف
كَمُصْغٍ إلى وَحْيٍ خفيّ، أُرهف السمع
إلى صوت أوراق الشجر الصيفيّ ... صوتٍ
خَفِرٍ مُخَدَّر مُتَحدِّرٍ من أَقاصي النوم...
صوتٍ شاحب ذي رائحة حنطية قادم
من عزلة ريفيّة.. صوتٍ متقطعٍ مُوَزِّع
بتقاسيمَ مرتجلةٍ على أوتار نسيم مُتَمَهِّل.
لا يسترسل ولا يطيل الفواصل. لصوت
أوراق الشجر في الصيف تَقَشُّف الهمس
وتعفُّف النداء. كأنَّ الصوت هذا لي
وحدي، يخطفني من ثقل المادة إلى خفّة
الإشراق: هناك وراء التلال، وما
بعد الخيال، حيث يتساوى الظاهر والباطن.
هل الحفيف هو صوت الأشجار؟
يتبين من خلال ما سبق أن الحفيف هو اللفظ الذي يصف صوت الأشجار وخصوصاً صوت حركة أوراق الشجر وهي تتحرك بفعل الريح. ورغم أن هذا اللفظ قد يدل على أصوات عديدة تصف احتكاك الريح بأجسام مختلفة، إلا أن الاستعمال اللغوي المعاصر والشائع يربط أساساً بين هذا الحفيف وصوت الأشجار.
استمع إلى صوت الأشجار: