تحقيق مسبار
تعد قوانين حمورابي من أقدم التشريعات المكتوبة في التاريخ، وربما أشهرها على مستوى العالم، والمؤكد أنها جعلت من صاحبها اسمًا معروفًا بين القادة والملوك على مر الزمان.
يستعرض هذا المقال قوانين حمورابي من حيث أهميتها وتاريخها وعددها، وسيرة حياة واضعها، وبعضًا من أهم موادها.
من هو حمورابي؟
حمورابي هو الملك السادس والأكثر شهرة من ملوك السلالة البابلية (العمورية) الأولى، والذي حكم من عام 1792 وحتى 1750 قبل الميلاد، وقد اشتهر بالتشريعات التي سنها، والتي حملت اسم قوانين حمورابي. وتنحدر عائلته من العموريين الذين جاؤوا من غرب سوريا، وقد حكمت الجزء الأوسط من العراق بين العامين 1894 وحتى 1595 ق.م. ويعكس اسمه اختلاط الثقافات هذا، حيث أن الجزء الأول من اسمه "حمو" يعني العائلة باللغة العمورية لغة أجداده، والجزء الثاني "رابي" يعني العظيم بالأكادية، لغة الحياة اليومية في بابل حينذاك.
وفي السنة الثلاثين من حكمه بدأ حمورابي بتوسيع مملكته على طول نهري دجلة والفرات، ملحقًا الهزائم بممالك آشوريا ولارسا وماري وإشنونا، حتى خضعت كامل بلاد الرافدين لحكمه. ولم تقتصر إنجازاته على الجانب السياسي والعسكري فقط، بل امتدت لتشمل العمران، وتحسين حياة رعاياه، والتشريعات التي تمثلها قوانين حمورابي المشهورة.
عندما استلم حمورابي العرش أصدر إعلانًا بالعفو عن ديون الناس، وخلال السنين الخمس الأولى من حكمه زاد من شعبيته أكثر، وذلك بترميمه لهياكل الآلهة، ولاسيما مردوك الإله الحامي لمدينة بابل، كما اهتم باستكمال مشاريع أبيه العمرانية، وزاد ارتفاع جدران مدينة بابل، وعمل على تحسين ري الحقول، وعلى صيانة البنية التحتية للمدن التي يحكمها.
وتتميز أعماله العسكرية بالتخطيط الجيد والناجح، حيث أنه عندما غزا العيلاميون من الشرق الأراضي الوسطى لبلاد الرافدين، تحالف مع مملكة "لارسا" لطردهم، وعندما تم له ذلك، حلّ تحالفه، واستولى على مدن "أوروك" و"إيسين" التابعتين لمملكة "لارسا"، وذلك من خلال تحالفه مع ممالك أخرى، مثل "نيبور" و"لَكَش".
وقد عاد وحلّ تحالفه مع هاتين المملكتين أيضًا، واستولى عليهما، ليقوم في النهاية بالاستيلاء على مدينة "لارسا" نفسها، فأحكم بذلك سيطرته على جنوب بلاد الرافدين.
وتوجه حمورابي بعد ذلك شمالًا وغربًا، حيث سيطر على مملكة "ماري" العمورية، والتي كانت حليفته لفترة طويلة سابقًا، وقُتل ملكها "زيميري-ليم" خلال ذلك. وبعد "ماري" استولى حمورابي على مدينة "آشور"، وسيطر على منطقة "آشوريا". وأخيرًا استولى على مملكة "إشنونا" الصغيرة، وبذلك يكون في العام 1755 ق.م، قد أتم سيطرته على كامل بلاد الرافدين.
الدولة البابلية
ذُكرت مدينة "بابل" لأول مرة بعد سقوط امبراطورية سلالة "أور" الثالثة عقب كارثة زراعية. في تلك الفترة بدأت المدن تنشأ ممالكها الخاصة، كما بدأت حينها قبائل العموريين تستوطن بلاد الرافدين، وتستولي على مدنه بما فيها مدينة "بابل". ومن هذه القبائل ظهرت السلالة التي أنشأت مملكة بابل الأولى، والتي كان أشهر ملوكها هو "حمورابي"، والذي نجح بتوحيد بلاد الرافدين مجددًا، لينشأ الامبراطورية البابلية الأولى (القديمة).
ولم ينجح خلفاء "حمورابي" من بعده في الحفاظ على قوتها، فبدأت أراضي المملكة بالانكماش، حتى أسقطها الحثيون في النهاية، بعد ذلك تنازع في السيطرة على مدينة "بابل"، كلٌ من الكاشيين والآشوريين والعيلاميين، خلال هذا الوقت بدأت قبائل الآراميين بالتوغل في بلاد الرافدين، وبدأت ممالك المدن بالظهور مجددًا.
ومن هؤلاء الآراميين كان الكلدان، والذين برز بينهم "نَبوبولَصر"، والذي كان جنديًا لدى الآشوريين، ولكنه انقلب عليهم، وتمكن من هزيمتهم، ليقيم مملكته الخاصة في "بابل"، والتي عرفت فيما بعد بامبراطورية بابل الثانية أو الحديثة.
وتمكن "نَبوبولَصر" من توسيع رقعة مملكته، كما هاجم الآشوريين في عقر دارهم، فأسقط "نينوى" عاصمتهم السياسية، وحاصر "آشور" عاصمتهم الدينية، استمر حكمه حتى وفاته، ليخلفه ابنه "نبوخذنصر"، والذي يعد أشهر ملوك هذه الفترة، وعرف ببنائه لبرج بابل وللحدائق المعلقة الذائعة الصيت.
وفي عام 539 ق.م سيطر الفرس على مدينة "بابل"، وأسقطوا الامبراطورية البابلية الثانية، لتطوى بذلك صفحة مملكة مدينة، كان لها أثرٌ كبير في مجريات التاريخ في بلاد الرافدين وماحولها.
تاريخ قانون حمورابي
اشتهر حمورابي بحملاته العسكرية التي شغلت فترة معتبرة من حكمه، وعلى الرغم من ذلك فقد حرص على تقديم مافيه منفعة لرعاياه، حتى عرف في فترة حكمه بلقب "باني ماتِم"، أي باني الأرض، ومن ذلك حفر الأقنية وتوزيع الغذاء وترميم وبناء الصروح ووضع القوانين، وهذه الأخيرة تمثلت فيما عرف بقوانين حمورابي.
إن قوانين حمورابي ليست الأولى من نوعها في التاريخ، ولكنها الأشهر بين قريناتها، حيث أن قانون أور- نامو (2100-2050 ق.م) الذي ينسب إلى أور- نامو، وأحيانًا لابنه شولغي، يعتبر أقدم قانون معروف في العالم، ولكن قوانين حمورابي تتميز عن سابقاتها، وتعتبر أكثر اكتمالًا.
وكانت المجتمعات السومرية-الأكادية الأقدم ترى نفسها كأفراد مترابطين في عائلة كبيرة، وكانت لرابطة الدم بينهم دور كبير وواضح في وضع القوانين التي تحكم حياتهم، فاعتمدت هذه القوانين على مبدأ "التعويض العادل"، وذلك تجنبًا لعقيدة الثأر والانتقام بين أفراد المجتمع الواحد.
ولكن وبعد سيطرة العموريين على هذه المجتمعات، وحكمهم لمدنها، وتنوع الأعراق في المدينة الواحدة، أصبح الثأر بين أفرادها كطريقة لحل النزاعات خطرًا يهدد وحدة المملكة، وهو مااستوجب وضع قانون يحفظ لهذه المجتمعات أمنها ويصون وحدتها.
في ظل ذلك وُضعت قوانين حمورابي، فمنعت أفعال الانتقام والثأر، من خلال تبيان الجريمة والعقوبة المقابلة لها، وهو مايعرف بمبدأ "العدالة الجزائية"، وذلك مقابل مبدأ "التعويض العادل" الذي ساد سابقًا. حيث نجد في قوانين حمورابي أن كل عقوبة تقابل جريمة محددة، وهو مايعرف كذلك بمبدأ "العين بالعين، والسن بالسن".
كم عدد قوانين حمورابي؟
عدد قوانين حمورابي هو 282 مادة، تغطي مختلف شؤون الحياة في المجتمع البابلي القديم، تذكر في كلٍ منها الجناية وماتقابلها من عقوبة.
عدد قوانين حمورابي
تشمل قوانين حمورابي حوالي 300 مادة، وتحديدًا 282 تشريع، تغطي مواضيع اقتصادية (أسعار، تعرفة، تجارة، تبادل سلع)، وقوانين الأسرة (الزواج، الطلاق)، وقانون جنائي (السرقة، الاعتداء)، وقوانين الإدارة المدنية (العبودية، الديون...).
وتتنوع العقوبات في قانون حمورابي حسب حالة الجاني وظروف الجناية، حيث تندرج العقوبات في هذه القوانين ضمن ثلاث معايير تختلف باختلاف الطبقات الاجتماعية الثلاث المكونة للمجتمع البابلي: طبقة الملّاك وطبقة الأحرار وطبقة العبيد.
يبدأ نص قوانين حمورابي بمقدمة مطولة، يليها القوانين الخمس الأولى، وهي قوانين متعلقة بعمل القضاء، وهناك قوانين الملكية (6 قوانين)، وقوانين الري ( قانونان اثنان)، وقوانين التجارة (7 قوانين)، والأسرة (15 قانون)، وقوانين الاعتداء الجسدي (13 قانون)، ومايتعلق بالأخطاء الطبية (5 قوانين)، وقوانين البناء (قانونان اثنان)، وتشريعات العبودية والأجور (9 قوانين)، إضافة إلى غيرها من القوانين التي تغطي مواضيع أخرى.
مصادر قانون حمورابي
إن مصدر قوانين حمورابي الوحيد الواصل إلينا هو شاهدة حجرية سوداء نقشت عليها هذه القوانين، وهي تمثل لوحًا ضخمًا بوزن أربعة أطنان، وارتفاع حوالي عشرة أقدام، ومنحوتةً من حجر الديورايت، وهو يعتبر حجرًا صعب التشكيل والنحت.
في الجزء العلوي من اللوح نحت رسم لحمورابي واقفًا يتلقى القانون من " شَمَش" إله العدل البابلي، والذي صور جالسًا يعطي حمورابي شريطًا وعصا القياس، والذين يرمزان للقوانين. أما باقي اللوح فهو مغطى بأعمدة نصّ قوانين حمورابي مكتوبة بالخط المسماري.
واكتشف هذا اللوح الحجري من قبل المهندس الفرنسي "جاك دي مورغان"، وذلك عام 1901م، والذي كان يترأس حملة تنقيب أثرية في عاصمة العيلاميين التاريخية، مدينة "سوسة" الأثرية، والتي تبعد أكثر من 250 ميلًا عن بابل.
كان لوح قوانين حمورابي مكسورًا لثلاثة أجزاء، ومجلوبًا من بابل إلى سوسة كغنيمة حرب، من قبل ملك العيلاميين شُتروك-ناهانتي، وذلك في أواسط القرن الثاني عشر قبل الميلاد. وشحن اللوح بعد اكتشافه إلى متحف اللوفر في باريس، حيث ترجم هناك النصّ المسماري المنقوش عليه، ليذيع بعدها صيت قوانين حمورابي حول العالم كإحدى أقدم القوانين المكتوبة في التاريخ.
أهم قوانين حمورابي
من أهم قوانين حمورابي التي وصلت إلينا تلك المتعلقة بالأسرة، أو مايمكن تسميته بقوانين الأحوال الشخصية، بعضها مشابهٌ للقوانين في عصرنا الحالي، مثلًا: إذا أراد الرجل تطليق زوجته، والتي ليس له منها ولد، عليه أن يدفع لها ما يساوي مهرها.
ولكن نجد في قوانين حمورابي الأخرى مالم نعتد عليه في زماننا الحاضر، مثل القانون الذي ينصّ على أن المرأة التي تعيش في بيت زوجها، وتريد تركه، وأهملت زوجها وتعاملت معه باستصغار، فإن عليه أن يقاضيها، وله أن يطلقها دون أن يدفع لها شيئًا، أو أن يرفض تطليقها، ويتزوج غيرها، وتصبح حينها عبدة في بيته. ومنها كذلك القانون القائل بأنه إذا ضرب ابنٌ والده، تقطع يده.
ويظل أشهر قوانين حمورابي، قانونا العين بالعين، والسن بالسن، ولكن هذين القانونين يشملان الرجال من الطبقة نفسها، أما لو أن رجلًا أصاب عين رجلٍ من العامة أو كسر عظمه، فيُكتفى بدفع تعويض له، بمقدار مينا من الفضة، ولو كسر سنه فيدفع له ثلث مينا من الفضة، أما لو أصاب عين عبد فيدفع لمالكه نصف سعر هذا العبد.
كما تعدّ بعض قوانين حمورابي مجحفة بحق النساء كذلك، مثل القانون الذي ينصّ على أنه إذا ضرب رجلٌ امرأة حامل، وكانت حرّةً، وسبب إجهاض الطفل، وموت المرأة، فيجب أن تقتل ابنة الجاني.
ولكن قوانينًا أخرى تعتبر نموذجًا يُعمل بمثيله في عصرنا الحالي، كقانون الحد الأدنى للأجور، فنجد قوانين تحدّد أجر المزارع العامل في الأرض وأجر الراعي.
اقرأ/ي أيضًا:
