تحقيق مسبار
يعتبر النطق مهارة تطورت مع تطور الإنسان ولم تكن موجودة منذ البداية، وذلك تزامنًا مع هجرة أسلافنا من إفريقيا إلى بقية أنحاء العالم حاملين معهم جين الكلام.
سيقدم هذا المقال معلومات عن لغة الإنسان القديم وكيف عاش سابقًا وما هي عاداتهم وأدواتهم، وكيف تطورت الحضارة حتى وصلت إلى شكلها الحالي.
كيف عاش الإنسان القديم؟
تدل الأحفوريات المكتشفة أن البشر الأوائل قد نشأوا في الوادي المتصدع العظيم في إفريقيا، وهي منطقة من الأراضي المنخفضة ناتجة عن الزلازل، وتشمل حاليًا مناطق من أثيوبيا وكينيا وتنزانيا. وتدل الأدلة المكتشفة في كهف بلومبوس الواقع على ساحل جنوب إفريقيا شرق رأس الرجاء الصالح على وجود البشر فيه منذ حوالي 95000 إلى 55000 عامًا، وأعطتنا المواد الموجودة فيه وحوله فكرة هامة عن حياة الإنسان القديم آنذاك.
كما تدل الدراسات أن الإنسان القديم قد هاجر من أفريقيا إلى كل بقاع الأرض خلال آخر 60000 ألف إلى 100000 عام، ومن هنا خلق التنوع الحضاري الذي نشهده حاليًا.
وفي هذه المواقع توصل العلماء إلى أن البشر القدماء تأقلموا مع بيئاتهم، وتعلموا صنع الأدوات للصيد والمنزل والزينة وإلصاق القطع ببعضها باستخدام الراتنج (مادة لاصقة تشبه الصمغ)، واكتشفوا النار وسخروها لخدمتهم، كما اصطادوا المحار والكائنات البحرية بشكل أساسي. وتم اكتشاف قطع من الأحجار عليها رموز، ربما تكون شكلًا مبكرًا من التفكير الرمزي الذي مهد لتطور لغة الإنسان القديم، بالإضافة لصنع الملابس من الجلود والفراء.
عمر الإنسان القديم
ظهر البشر الأوائل في أفريقيا منذ حوالي مليوني عام، قبل وقت طويل من ظهور الإنسان الحديث المعروف باسم الإنسان العاقل في نفس القارة وهجرته إلى باقي أنحاء الأرض.
بالإضافة إلى البشر المعروفين في أفريقيا، تم اكتشاف دلائل على وجود مجموعات من البشر التي هاجرت من أفريقيا وتزاوجت مع السلاسل البشرية الأخرى، والتي أصبحت منقرضة الآن مثل إنسان النياندرتال والدينيسوفان أيضًا قبل حوالي مليوني عام، وذلك وفقًا لورقة بحثية نُشرت في Science Advances في فبراير 2020، حيث تشير الدراسات إلى حدوث تمازج بين هذه الأنواع، والدليل الحالي أن 1-3% من جينومات البشر مشابهة لجينومات إنسان النياندرتال والدينيسوفان في آسيا وأوروبا. وقد كان يُعتقد أن الأفارقة لا يملكون هذه الجينات لأنهم لم يخرجوا من قارتهم ولم يحدث تواصل مع الأنواع البشرية الأخرى، إلا أن الهجرة العائدة إلى أفريقيا من أوروبا حملت معها هذه الجينات في آخر 20 ألف عام.
ولا يزال من الصعب تحديد بداية الجنس البشري بدقة أو لغة الانسان القديم، إلا أن أقدم دليل على وجود البشر تم اكتشافه هو ما يعرف بالإنسان الماهر (Handy man)، والذي يقدر عمره بحوالي 1.4 إلى 2.4 مليون سنة في شرق وجنوب أفريقيا.
ماذا كان يعبد الإنسان القديم؟
لا يزال أصل الدين موضعًا للجدل، وقد كان يُعتقد أن أولى مظاهر الدين والعبادة في العالم كانت قبل حوالي 40000 عامًا في أوروبا، إلا أن الاكتشافات الحديثة تدل على أن أقدم ممارسة لطقوس العبادة كانت في أفريقيا قبل 70000 عام، وذلك لعبادة الثعبان python في كهف صغير في بوتسوانا، وهذا دليل إضافي على أن أفريقيا كانت مهد البشرية والإنسان العاقل، ولم يستخدم البشر هذا الكهف كمسكن، وإنما كان مكانًا لأداء الطقوس فقط لا غير.
ويوجد نظريتين لتفسير السلوك البشري تجاه العبادة وشرح الفكر الديني عبر التاريخ وهما:
- نظرية الآلهة العظيمة Big Gods: مع ازدياد نمو المجتمعات ظهرت الحاجة لتوحيدها والسيطرة عليها، وتطورت مشاعر الذنب والانتقام بين البشر، وقد تم التوصل إلى أن الشعور بالذنب سيدفع الشخص للبقاء أما الانتقام سيودي به للقتال والموت، ومن هنا انطلقت فكرة الآلهة العظيمة، التي تفرض العقاب وبالتالي السيطرة على السلوكيات المتطرفة بدافع الخوف.
- نظرية الوكالة الزائفة False Agency: تنص هذه النظرية على أن البشر فسروا بعض الظواهر الطبيعة على أنها قوى خارقة للطبيعة نابعة من وجود روح شريرة تؤثر عليهم، وهو ما يعرف بالخطأ الإدراكي، لذلك كان لا بدّ من إرضائها وعبادتها.
الجنس عند الإنسان القديم
الأسرة هي أساس التنظيم الاجتماعي وأولى بوادر الحضارة الحديثة القائمة على الوعي واستخدام ملكات الإنسان العاقلة، أما بالنسبة لتوجهات الإنسان القديم نحو الزواج البشري المبكر فهي غير معروفة جيدًا نظرًا لعدم وجود أدلة أثرية قاطعة، لكن تدل الدراسات أن الزيجات المرتبة تعود إلى أولى هجرات البشر خارج أفريقيا، أما الدراسات الأقدم فتشير أن الزيجات في المجتمعات البشرية المبكرة قامت على تعدد الزوجات وتبادل الشركاء.
وفي دراسة قام بها علماء من جامعة كوليدج في لندن، قدموا أدلة على أن الرجال والنساء الأوائل قد عاشوا في مساواة نسبيًا، وتقول الروايات أن البشر قد عاشوا دائمًا في أسر، حيث يخرج الرجال للصيد والعمل وتبقى النساء في المنزل لرعاية الأطفال. وحسب نظرية تشارلز داروين في الانتقاء الجنسي والتي تنص على أن الأنثى أكثر ترددًا في المشاركة بالنشاط الجنسي بشكل ملحوظ بسبب حاجتها إلى حمل ورعاية الأطفال، مما يخلق تضاربًا في الرغبات الجنسية بين الجنسين، كما أن النساء يحتجن لرجال لديهم جينات جيدة وقادرين على تأمين احتياجات الحياة لها ولأطفالها من مسكن ولحوم وحماية، وفي المقابل لن يقدم الرجال هذا الدعم ما لم يتأكدون أن الأطفال يحملون جيناتهم، وهذا العقد الجنسي كان نواة بدء الحياة الأسرية والإخلاص لشريك واحد.
كيف يتزوج الإنسان القديم؟
للبحث في لغة الإنسان القديم لا بد من معرفة بعض المعلومات عن سلوكيات الإنسان القديم مثل الزواج، إذ إن أصل الأسرة لم يكن بهذه البساطة، فقد تم بناء عدة فرضيات في أواخر القرن التاسع عشر لتخيل الحياة الجنسية والأسرية في العصر القديم، ففي كتابه "المجتمع القديم" قدم لويس مورغان نتائج دراسته على قبائل الإيروكوا الذين كانوا يعيشون في وحدات عائلية كبيرة تقوم على علاقات متعددة الشركاء، حيث يعيش الرجال والنساء في مساواة تامة.
ثم ذكر فريدريك إنجلز في كتابه "أصل الأسرة والملكية الخاصة والدولة" معتمدًا على ما قدمه مورغان، أن مجتمعات ما قبل التاريخ شاع فيها ما يسمى بالشيوعية البدائية، وهي المساواة تمامًا بين الرجل والمرأة والحق بتعدد الشركاء لكليهما، وفي هذه المجتمعات كان المجتمع هو كل شيء، حيث نجا الناس من خلال دعم عشيرتهم، وبالتالي فإن المشاركة والعمل داخل عشيرتهم كان أمرًا ضروريًا، وهذا الأمر يتم عبر الجنس أيضًا.
وكانت تربية الأطفال مسؤولية الجميع، كما أن العلاقات الجنسية المتشابكة والمتقاطعة عززت الشبكات الاجتماعية وتماسك المجموعة، وفي الآونة الأخيرة ظهرت دراسات جديدة تدعم هذه الفرضيات، بل يبدو أن هذه الظاهرة كانت شائعة أكثر مما كان يعتقد سابقًا.
وإذا كان الأمر بالفعل كذلك، يبقى السؤال الأهم لماذا اتجه البشر للزواج الأحادي في العصر الحالي؟ يقول العلماء أن الزواج الأحادي حديث العهد منذ 1000 عام فقط وقد تم بناء عدة فرضيات لأسبابه:
- الخوف من الأمراض المنقولة بالجنس عند تعدد الشركاء والتي قد تصل إلى العقم.
- الرغبة في الحفاظ على الثروات من خلال الزواج.
- الأبوة وتحديد النسل، حيث يميل الآباء لرعاية الأطفال بشكل أكبر عند التأكد من أنهم يحملون جيناتهم.
كيف عاش الإنسان القديم في العصور الحجرية؟
كانت لغة الإنسان القديم أو طريقة التواصل لدى الإنسان القديم في العصور الحجرية قبل اختراع الكتابة بواسطة الأصوات أو الإيماءات أو الإشارات والرقص والتمثيل (لغة الجسد) واستخدام الرموز، وباستخدام أشياء مساعدة كالنار والدخان والطبول. لكن كانت هذه الطرق كانت تعاني من مشكلتين، الأولى أن الإشارة آنية ولا يمكن الرجوع إليها، والثانية أن التواصل بحاجة لأن يكون الطرفين في نفس المكان أو قريبين من بعضهم البعض.
وأدت الحاجة لترك رسائل للتواصل لمدة أطول إلى الاستعانة بالرسومات واللوحات، والتي كانت موجودة منذ العصور القديمة على جدران الكهوف والأودية لتروي قصص الثقافات والمعارك والصيد، ولكن الكاتب كان بحاجة لوقت وتفكير طويل حتى يرسم الرسالة التي يريد إرسالها والتأكد من وصولها بالشكل الصحيح.
ومع تقدم العصور وازدياد احتياجات المقايضة وتبادل البضائع، تم اختراع الكتابة والتي يقال أنها أعظم اختراع في تاريخ البشرية لتوثيق الأحداث وإرسال الرسائل وذلك قبل حوالي 5000 عام، وأقدم الكتابات التي تم الحصول عليها حتى يومنا هذا تعود إلى 3100 قبل الميلاد، وهي عبارة عن ألواح طينية كتبت من قبل السومريين الذين عاشوا في بلاد ما بين النهرين بين نهري دجلة والفرات. وبعدها بحوالي قرن إلى قرنين برزت الكتابة بين المصريين القدماء، الذين استخدموا الرموز كشكل من أشكال الكتابة، أما بالنسبة لهوية الأفراد أو الجماعات الذين شرعوا بفكرة الكتابة، فهي غير معروفة وبقيت ضائعة للأبد بين طيات التاريخ.
أدوات الإنسان في العصر الحجري القديم
تعبر أدوات العصر الحجري عن براعة الإنسان القديم ومهاراته العقلية الآخذة في التطور لتطوير لغة الإنسان القديم، وأقدم أدوات حجرية تم اكتشافها حتى الآن هي الأدوات المستخرجة من شواطئ توركانا في كينيا ويعود تاريخها إلى 3.3 مليون سنة، والتي تعد أقدم من أقدم دليل على وجود الجنس البشري، والذي يقدر بحوالي مليوني عام، وذلك لأن الأدوات أقل عرضة للتدمير من العظام، وقد تم جمع 149 أداة أكبرها يزن 15 كيلوغرامًا، ولا يعرف العلماء من صنع هذه الأدوات حتى الآن، لكن من المرجح أنه أحد أشباه البشر والذي يدعى كينيانثروبوس بلاتوبس، والذي تم العثور عليه قريبًا من مكان التنقيب عن هذه الأدوات. كما يوجد نوع آخر من أشباه البشر يدعى أسترالوبيثكس أفارينسيس في منطقة شرق إفريقيا عاش في نفس الفترة الزمنية وهو مرشح آخر.
وكانت الأدوات في البداية بسيطة وعبارة عن أحجار بأطراف حادة و أحجار تشبه المطرقة والفأس اليدوي الأشولي، ثم تطورت فيما بعد إلى أحجار حادة أكثر بشكل منتظم وتم ضمها إلى أعمدة، وتشكلت الرماح والمخرزات الحجرية التي كانت تستخدم لتثقيب الجلود والكاشطات، تلى ذلك في العصر الحجري اللاحق ازدياد مستوى الحرفية والابتكارات واستعمال مواد خام أخرى غير الأحجار كالعاج والعظام وقرون الوعل.
لغة الإنسان في العصر الحجري
دراسة تاريخ لغة الإنسان القديم أمر بالغ الصعوبة، فلا نستطيع معرفة أكثر من الشكل العام للجسم وحجم أدمغة البشر آنذاك دون معرفة ما يمكن لهذه الأدمغة فعله، والدليل الوحيد الذي نملكه هو شكل المسالك الصوتية والتي لم تكن تسمح بالكلام قبل 100000 عام، حيث تشير الأبحاث أن الأصوات الأولى التي تم نطقها من قبل الإنسان القديم كانت قبل حوالي 70000 عام، وهذه الأبحاث مبنية على اجتماع علم تطور الإنسان وعلم الآثار وعلم التشريح وعلم الوراثة، لكن هذا لا يعني بالضرورة أنه لا يوجد أشكال أخرى للغة لا نعلمها كانت موجودة للتواصل قبل تلك المدة.
ويعتقد أن أول الأصوات العاقلة التي صدرت عن الإنسان هي أصوات النقر Click، والتي لا تزال تستعمل حتى الآن في بعض اللغات الأفريقية، ولم تكن أصوات عشوائية وإنما كانت أصوات إرادية ناتجة عن الترابط بين أجزاء معينة من الدماغ مع السبيل الصوتي، كما يعتقد أن العوامل البيئية والنظام الغذائي له دور في تطور لغة الانسان القديم.
أما أصوات الكلام الأخرى تطورت فيما بعد لتصبح مقاطع صوتية ساكنة ومتحركة، ثم تم دمجها لتصبح كلمات، ثم تم دمج الكلمات لخلق لغة نحوية مفهومة والتي تميز اللغات الحديثة التي يبلغ عددها حاليًا حوالي 6000 لغة، وهذه العملية استغرقت آلاف السنين. ويفترض البعض أن هذا قد يكون تطورًا ثقافيًا بحتًا، أما البعض الآخر يعتقد أنه يتطلب تغييرات جينية في أدمغة المتحدثين.
وتشير الدراسات أن اللغة البشرية كما نعرفها حاليًا كانت اكتسابًا متأخرًا للإنسان وتبلورت بشكلها المفهوم قبل حوالي 20000 عام، ومن المحتمل أن جميع لغات العالم مشتقة من لغة أم واحدة هي لغة الإنسان القديم، كما يعتقد أن اللغة الخويسانية هي أول لغة نحوية في التاريخ، لكن لا يوجد حتى الآن أي طريقة للتأكد من هذه الفرضيات أو فيما إذا كان اختراع اللغة أقدم من ذلك بكثير.
حياة الإنسان القديم والحديث
طرأ على الجنس البشري العديد من التطورات والتبدلات حتى وصل إلى وضعه الحالي، استجابةً لتبدلات أنماط الحياة والمناخ والجينات. فقد أصبح الإنسان الحديث أصغر حجمًا وأقصر وأخف وزنًا وبدماغ أصغر مقارنةً بالإنسان القديم منذ 100000 عام، بالإضافة إلى عظام فك وأسنان أصغر، والأسباب التي أدت إلى هذا التبدل معقدة ومبنية على تفاعلات بين الجينات والبيئة ونمط الحياة مثل النظام الغذائي.
كما يعكس البشر حاليًا مظاهر شكلية ولونية متنوعة جدًا على خلاف البشر القدماء الذين كانوا متشابهين إلى حدٍ ما، ويبرر العلماء هذا التنوع الحالي بسبب هجرة البشر من أفريقيا إلى مختلف بقاع العالم وتأثرهم بالبيئات المختلفة، وبالتالي تغير الحموض النووية الخاصة بهم وتنوعها، بالإضافة للتهجين بين هذه السلالات واستحداث سلالات جديدة.
ومن أسباب التنوع البشري الحالي أيضًا هو التزاوج بين السلالة البشرية الحالية وسلالات منقرضة أخرى من البشر غير الجنس البشري، مثل سلالات النياندرتال ودينيسوفان والتي تملك جينومات مختلفة عن الجنس البشري الحالي، إلا أن 1-3% من جينومات البشر في أوروبا وآسيا تشابه جينوم النياندرتال وبالتالي المزيد من التنوع البشري.
اقرأ/ي أيضًا:
هل يرجع تاريخ المقابر الفرعونية إلى العصر الحجري؟
هل علم دراسة الإنسان يُعنى بالسلوكيات والحضارات؟