` `

الجهل كإنتاج سلطويّ

نور حطيط نور حطيط
ثقافة وفن
26 نوفمبر 2020
الجهل كإنتاج سلطويّ
السلطة وصناعة الجهل في العصر الرقمي (Getty)

لم تكن الأخبار الزائفة وليدةَ عصرٍ نعيش فيه خلف الشاشة، فالتاريخُ يُعيد صياغة الأحداث بأشكالٍ مختلفة، فمن الإشاعة التي كان يبّثها إعلامُ هتلر والتي كانت تخاطب عواطف الأفراد والجماعات وتحفر في غرائزهم البدائية باعتماد الإثارة القومية والأصولية، إلى التسطيح واستخدام الصياغات اللغوية الضعيفة في الأدب التي امتدت بشكل كبير وأثّرت على تطور اللغة، وصولاً إلى العالم الرقمي وانتشار الأخبار العكسية والمضللة.
يقول سلافوي جيجك، فيلسوف سلوفينيّ، إنّ القرن الواحد والعشرين، مقترن بعلم النفس. وبناء عليه، يمكننا فهم ثقافة العقول القابعة خلف الشاشة، والتي تتعرض لكمٍ كبير من المعلومات يومياً ثم تختار أبسط قصة وتصدقها.
فكان مع صعود تجربة العزلة التي تسبب بها وباء كورونا، الأولى بنا استخدام الشكّ كأداة دفاع في وجه التدفق المعلوماتي الهائل عملاً بالشكّ الديكارتي الذي واجه الأرسطية المتأخرة التي ترى أنَّ أصل المعرفة هي الحواس، ولأنه المؤمن بالعقل وبالوصول إلى الحقيقة.
وَمع تطور المعرفة وارتباطها بنوع من السلطوية وخطابها، برز السؤال التالي:" هل يمكن للمعرفة أن تنتج الجهل؟"
في صلب الأزمات الحاضرة الناتجة عن العولمة الرقمية والذكاء الاصطناعي، أخذت السلطات على عاتقها مهمة حجب الواقع مما أحدث حالة من الاصطناع أو ما يمكن تسميتها بـ "الما فوق واقعية" وفق تعبير الفيلسوف الفرنسي" جان بورديار"، والتي بدورها دمرّت ثنائية الدال والمدلول وأدخلتنا بحالةٍ من "موت الواقع".
وقد سعت البرجوازية كطبقة مسيطرة عبر التاريخ، في خلق وتأسيس الدعاية الأيديولوجية التي تأثرت بها الطبقات الأدنى الأخرى بطريقة غير تقليدية في التعامل السلطوي. فلا زالت إلى اليوم تصدّر المشكلات الزائفة لتحقيق مصالحها العليا. إذ نخضع لهيمنتها الدعائية معتبرين أنها إحدى خياراتنا في التعبير عن حريتنا. زر لايك "LIKE"  في "فيسبوك" قد يكون كافياً لفهم تلك الدعاية القابعة في ذهن الضحية الأكثر خضوعاً جماهيرياً.
حاول ميشيل فوكو الفيلسوف الفرنسي، تفكيك علاقة السلطة الذائبة بشكلها التام في الجسم الاجتماعي بالإبستيمولوجيا والخطاب. وكان المثال الأوضح في الآونة الأخيرة على خطر ما تحدّث عنه فوكو هو خطاب ترامب، الذي لم يزل حتى الآن يضلل عبر صفحته على تويتر حقائق كثيرة رغم خسارته في الانتخابات بوجه منافسه جون بايدن.
وقد ارتبطت الشعبوية وصعود اليمين المتطرف في العالم ببروز ما يعرف بـ"علم الجهل". فهل هو فعلاً غياب للمعرفة؟ وإذا كان تعريف علم الجهل agnotology قائم على صناعة الجهل بالاستناد إلى الطرق العلمية فكيف يمكن إذاً التمييز بين الحقيقيّ والمزيّف من المعلومات؟ 
برز مصطلح agnotology في التسعينات من القرن الحالي، حين قامت إحدى شركات التبغ الشهيرة في إثارة الشكوك في البحوث العلمية التي تتحدث عن مخاطر التدخين وما ينتج عنه، وذلك بهدف الترويج لبضائعها. لم تكتفِ هذه الشركة في تشويش الرأي العام، بل قامت وعبر أبحاث علمية مزيفة بتحسين صورة التبغ ونشر الجهل حول ما قد ينتج عنه من مخاطر صحية.
هذا التضليل الاستراتيجي حثّ الدكتور Robert. N. Proctor الأستاذ في جامعة Stanfrod على البحث فيه وفي سياسة التضليل والجهل الذي أصبح هدف يُنشر ويُساق من قبل أصحاب النفوذ والشركات وأيضا الحكومات بغية تحقيق مصالحهم.
أُشتقت كلمة agnotology: من مفردة Agnosis والتي تعني الجهل أو عدم المعرفة.
في روايته ١٩٨٤، يربط جورج أورويل الجهل بالقوّة. فأية قوة تظهر بشكلٍ جليّ في عالم أصبح الواقع فيه مرتبط بالميديا والصورة؟
إنّ تورط وسائل الإعلام وغيرها، أدّى إلى إزاحة الواقع، فأصبحنا ندور حول مدار مصطنع لا رقابة فيه. ورغم مناهضة الذاتية ومحاربة المشاعر من قبل السلطويين، إلا إنّ هؤلاء كرّسوا سياسة الجهل لتصبح مؤسساتية تعتمد على العاطفة المزيفة لتجييش الجمهور وهذا ما حصل بوضوحٍ مع صعود الخطاب اليميني حين ركزت السلطات في إلقاء اللوم على شبح المهاجرين المسيطر، لتخفي إخفاقها وفسادها وفشلها في إدارة بعض المجالات.
يوضح الدكتور Proctor كيفية إنتاج الجهل واستدامته، وإخضاع الجماهير تحت سيطرته باعتباره جانبًا لا يتجزأ من جوانب المعرفة ودراستها. ومن زاويةٍ أخرى يبين ميشيل فوكو في كتابه السلطة والمعرفة بأننا "خاضعون لإنتاج الحقيقة من طرف السلطة، وليس بوسعنا ممارسة السلطة إلا عبر إنتاج الحقيقة".  فماذا لو دخلنا في عصر ما بعد الحقيقة Post Truth؟
من منّا لم يسمع بالـ Fake News ولم يبحث بنفسه عبر محرّك غوغل ليتأكد من صحّةِ خبر أو حدثٍ ما، ومن منّا لم يقع يوماً ضحية أخبار مزيفة أو مضلِّلة، خصوصاً تلك القائمة على مواقع التواصل الاجتماعي؟
سنة 2019 سعت إدارة "فيسبوك" لمحاربة هذه الأجندات ورغم ذلك وبفعل الضخ الواسع للمعلومات، لم تستطع السيطرة بشكل كاملٍ عليها.
إنَّ دخولنا في عصر ما بعد الحقيقة أدّى بالواقع إلى درجة واسعة من التعقيد والفوضى، فأمست العلامة التي تحدث عنها جان بورديار، عالم الاجتماع الفرنسي، تخضع إلى التصنع خصوصًا وأننا بتنا في واقعٍ افتراضيّ. ومن جهة أخرى ركزت السلطات على تفريغ روح الفرد ليصبح جزءاً لا يتجزأ من لعبة التسليع. إنَّ هذه السياسة التي تتماهى بشكلٍ أو بآخر مع السياسة النيوليبرالية أفرغت الروح من روحها، والحبّ من الحبّ والخير من الخير، أي جميع المفاهيم من ذاتها.
في روايته العدد صفر، ينتقد إمبرتو إيكو، عالم السياسة والإعلام الايطاليّ، بتواطئه مع عنصر التضليل والتزييف وكيف يتم استهداف الجماهير، وتحوير المقالات والخروج بفرضيات جديدة بعيدة كل البعد عن الحقائق التاريخية. وهذا ما ظهر جليًا بقول "برغادوتشيو" في حواره مع الراوي قبيل خروجهما من البار بأننا نعيش في عالم كاذب، وإذا علمت بأنهم يكذبون عليك، فينبغي لك أن تشكّ دائمًا.
في عالمٍ يغيب فيه الوعي السياسيّ، تصبح سياسة  التضليل سهلةً أكثر فيخضع الفضاء العمومي إلى آلية صناعة الأخبار المزيفة وسيرورتها، ويخلق حالة من التشويش بكل نتاجات الواقع. وعبر فبركة البيانات واصطناع الأخبار الزائفة واتباع نشر الخرافة والجهل، تفاقمت مشكلة الرقابة لدى الإعلام التقليديّ وأدى هذا إلى تخريب معادلات أخلاقية وسياسية وثقافية واجتماعية أيضًا.
إنَّ تماهي لغة الجماعة في كل مجتمع، مع سلطته، ينتج وظيفة أساسية هي: الحفاظ على الوضع القائم، دون أي تحدّي أو تغيير. يأتي هنا دور المثقف إلى جانب وسائل أخرى لمقاومة ومحاربة القولبة وتحطيم الرؤى والأفكار الزائفة التي تغرقنا بها وسائل الاتصال الحديثة. يقول إدوارد سعيد في هذا السياق في كتابه :"الآلهة التي تفشل دائمًا"، "المثقف في العمق، في مفهومي للكلمة، لا هو مهدئ ولا هو باني إجماع، بل شخص يراهن بكل وجوده على حسّ نقديّ، حسّ عدم الاستعداد لقبول الصيغ السهلة، أو الأفكار المبتذلة الجاهزة، أو التأكيدات المتملقة والمكيفة باستمرار لما يجب أن يقوله الأقوياء أو التقليديون وما يفعلونه".


المصادر:

ميشيل فوكو-المعرفة والسلطة 

Robert. N. Proctor–Londa Schiebinger–Agnotology The making and Unmaking of Ignorance


 

الأكثر قراءة