` `

سطوة الكلمة والتلاعب بالوعي

نور حطيط نور حطيط
أخبار
21 أكتوبر 2021
سطوة الكلمة والتلاعب بالوعي
قد تستخدم السلطة الكلمة بغرض التلاعب بالرأي العام (Getty)

الأفكار الواردة في هذا المقال لا تعكس آراء مسبار بالضرورة.

 

"الوظيفة الابتدائية للكلمة كانت منذ فجر البشرية التّأثير الإيحائي والإخضاع، لا من خلال الإدراك، بل من خلال الشعور".                                                                          البروفيسور الروسي سيرجي قره

 

"التلاعب بالوعي هو استعمار المُتلاعِب لشعبه"، يمكن اعتبار هذه المقولة للبروفيسور الروسي سيرجي قره-مورزا، تعريفًا لافتًا للمفهوم الذي تعرّى أمام أحداثٍ سُجلت في مضامين التّاريخ. ويعود أصل كلمة "تلاعب" والتّي تعني بالإنجليزية Manipulation إلى الجذر اللاتيني، فالجزء الأول manus يعني اليد والجزء الثاني manipulus يعني القبضة، وتُعرّف أيضًا وفقًا للمعاجم الأوروبية على أنّها لعبة النوايا والأهداف الواضحة، وعلى هذا النحو ارتبط هذا الجذر في المعنى المجازي الذي ارتدته هذه الكلمة، والذي وُظَّف في الحياة المعاصرة للدلالة على التأثير على الناس والتلاعب بهم. 

ويرى المتخصصون في مجال علم النفس، أنَّ تطور مفهوم التلاعب جاء في سياق "لاعبي السحر" الذين يعتمدون على إدراك وانتباه الجمهور، أي التحكم في لاوعي الفرد واستغلال الصور النمطية stereotype النفسية لدى المشاركين الحاضرين لألعاب السحر. وبمهارة يديه، يستطيع الساحر خلق وهم الإدراك لديهم. أنهم يقعون ضحية التلاعب اللذيذ. 

الإغراء.. وسيلة للتلاعب

قد تستخدم السلطة، أساليب عديدة لجعل الفرد ضعيفًا أمام التلاعب، فلا يصير الفرد ضحية للتلاعب، إلّا إذا انخرط في فضاء الروابط الضالة والأفكار غير المنطقية. وفي هذا السياق يقول صاحب كتاب التلاعب بالعقول البروفيسور الروسي "سيرجي قره": إنَّ الإنسان لا يصير ضحية للتلاعب إلّا إذا كان منخرطًا فيه بصفته مساهمًا في تألفيه ومشاركًا به، ولا يتحقق التلاعب إلا إذا أعاد الإنسان بناء وجهات نظره وآرائه ومزاجه وأهدافه تحت تأثير الإشارات الحاصل عليها، وبدأ يتصرف وفقًا للبرنامج. أمّا إذا ساوره الشكّ وعاند ودافع عن برنامجه "الروحيّ" فإنه لا يغدو ضحية.

من بين هذه الأساليب: الرسائل اللاوعية، أي اللغة الرمزية.

يَحدُث أن تعمد السلطة -وذلك لتحقيق أهدافها المرجوة، في العصر الحداثي، خصوصًا بعد أن تمّ إبطال الإكراه والطريقة التقليدية التي كانت تتعاطى بها السلطات، وبعد أن ظهرت الدولة الحديثة- إلى إدخال اللغة في مقابل سيطرتها على العقول. فمثلًا عبر رسائلها اللاوعية التي تُخفيها في خطابات مسوؤليها يمكن أن تُدخل الفوضى إلى أي سلسلة منطقية، ودون أن يشعر الفرد، يصبح ضحية هذه اللغة وهذه الرسائل التي ما تلبث أن تقوده كالأعمى إلى الاستنتاجات التي تريدها. فيحل التضليل وإخفاء الحقائق محل التحليل البنيوي للأشياء والنقد الصحيح.

ولا بد هنا من استذكار منهجية السفسطائيين الذين عُرفوا أو أُطلِق عليهم بـ "باعة علم الكلام"، فهم ومن خلال هذا الجسم الصغير- أي الكلمة- بنوا منهجهم في التفكير والجدل.

حاولت السلطة إذًا منذ القِدم، أن تجعل اللغة والكلمة والرسائل اللاادراكية واللاواعية، جزءًا لا يتجزأ من جسمها، لأنها عرفت أنَّ القوة العسكرية ليست الطريقة الملائمة دائمًا ليتحقق مرادها. فلا يمكن هنا عدم تذكر الدعاية النازية والحرب الدعائية بين ألمانيا وبين الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة الأميركية أثناء الحرب الباردة.

سكيزوفرينيا الوعي الاصطناعية

يذكر البروفيسور سيرجي قره في مجمل كتابه هذا المصطلح الذي يتألف من كلمتين يونانيتين Schizo- أي أَشطُرُ و phren- أي العقل أو الإدراك. وهي بحسب تعبير علماء النفس تعني شطر الوعي. وأحد أهم أعراض السكيزوفرينيا هو" فقدان  المقدرة على وضع الصلة بين الكلمات والمفاهيم المنفصلة. هذا يحطم ترابط الأفكار". ويتابع البروفيسور ليقول بأنَّ:" إصابة الوعي بالسكيزوفرينيا اصطناعيًا إن نجح فسيغدو الناس غير قادرين على ربط الأخبار التي يحصلون عليها في منظومة منطقية ولن يستطيعوا إدراكها بطريقة نقدية."

فكيف يمكن استخدام اللغة للوصول إلى هذا المرض الحديث؟ وبالتالي التأثير على وعي الفرد؟

يمكن لفت الانتباه أولًا بأنَّ التلاعب ليس عنفًا بل حالة من الإغراء وبالتالي، استخدام الكلام التشويقي والمدح والإطراء يذهب بالمتلاعب إلى مبتغاه، أي إلى الانقياد للصورة الخطابية والرسالة السياسية دون المقدرة على نقدها، وبالتالي تتولد حالة من التشويش الإدراكي الذي لا يدركه الفرد المتلاعب به، فيقع ضحية المعايير المزدوجة وفي إشكالية اللاعب اللاأخلاقية المرعبة التي تؤدي إلى كوارث حقيقية وأمراضًا كشيزوفرينيا الوعي الاصطناعية.

التلاعب بالوعي الاجتماعيّ

يذكر قره أيضًا، في كتابه التلاعب بالوعي بأنَّ أحد أهم أسباب نجاح التلاعب بالوعي الاجتماعي "هو امتلاك خارطة صور نمطية موثوقة لمجموعات السكان وفئاتهم المختلفة، أي السياق الثقافي للمجتمع المعني كله". ويعرض البروفيسور سلسلة من الأبحاث الذي أنجزها مجموعة من الأخصائيين الأميركيين العاملين على دراسة البنى الفكرية لدى المجموعات النافذة في البلدان الأجنبية بهدف التأثير فيها، في الاتجاه الذي يخدم الولايات المتحدة. وقد بُذلت مجهودات من قبلهم لدراسة الصور النمطية الثقافية وأرفق قره في كتابه النموذج الأكثر شيوعًا وهو الاتحاد السوفييتي، حيث عثر الأخصائيون الأميركيون على الإمكانات والمعالم التي يمكن التلاعب بها لدى النظام العدو.

فمن أهم أساليب التلاعب هو استخدام الصور النمطية في "الاستحواذ على الأفراد" ويعرّف البروفيسور قره في هذا الخصوص، الاستحواذ على أنه أحد العمليات الأساسية للتلاعب بالوعي. حيث يجذب المتلاعب في أثناء تنفيذها انتباه الجمهور ثم يحافظ عليه ويضمه، أي يجعله مناصرًا لأحكامه، فيتكيف المتلاعب في هذه المرحلة مع صور الجمهور النمطية ولا يناقضها".

ختامًا، يقول هتلر في كتابه كفاحي "القوة التي أدت إلى حركة التيارات التاريخية الكبرى في المجال السياسي أو الديني، كانت منذ الأزمنة السحيقة هي السطوة السحرية للكلمة المنطوقة وحدها. إنّ الجمهور الأكبر من الناس يخضع إلى سطوة الكلمة دائماً".

 

المصادر والمراجع

كتاب التلاعب بالوعي، سيرجي قره- مورزا

التلاعب بالعقول.. دروس مهمة للتحكم بالبشر

اللغة والتلاعب بالوعي

اقرأ أيضاً

الأكثر قراءة