تحقيق مسبار
يحتار الكثيرون في جمع بعض الكلمات، ومنها جمع عندليب، إذ تثير جموع بعض النوادر من الكلمات باستمرار الخلافات بين الناطقين باللغة العربية، بسبب تميّز هذه الألفاظ بخصائص صوتية وصرفية خاصة. وتزداد هذه الخصوصية عندما يتعلّق الأمر بألفاظ يختلف المعجميون في أصولها، فينسِبها البعض إلى الألفاظ العَجَمية التي تم تعريبها، بينما يجد لها بعضهم جذورًا اشتقاقية في اللغة العربية. ومن هذه الألفاظ كلمة "عندليب" التي كثيراً ما يتساءل المتكلمون عن الجمع المناسب لها.
تجيبك هذه المقالة عن جمع عندليب، وتوضح لك القاعدة الصرفية التي تتحكم في جمع عندليب، وتعرّفك على بعض معانيها وشواهدها الشعرية.
معنى كلمة عندليب
يرتبط لفظ العندليب في الثقافة العربية بالجمال والصوت المطرب. ويعرِّف معجم المعاني الجامع كلمة العندليب بأنه: طائرٌ صغير الجثة، سريعُ الحركة، كثيرُ الأَلحان، يسكن البساتين، ويظهر في أَيام الرَّبيع. ويضيف أن غناء العندليب: مَثلٌ يُضرَب في الملاحة والطِّيب. ومنه اشتُقّ الفعل عَندَلَ، يُعَنْدِلُ، ومصدره عَنْدَلَةٌ: عَنْدَلَ الْعَنْدَلِيبُ : صَوَّتَ. كما يُورد معنى العندل على أنه: صوت البلبل أو العندليب أو الهدهد. ويتخذ الفعل "عَنْدَلَ" معاني إضافية أخرى، فعَنْدَلَ البعيرُ إذا اشْتَدَّ عَصَبُه، وَعنْدَلَ الهَزارُ: صَوَّتَ. واسم عَنْدَلُ يعني الناقةُ العظيمةُ الرأسِ، للمُذَكَّرِ والمُؤَنَّثِ، والطويلُ، وهي: عَنْدَلَةٌ. وتعني لفظة عُنادِلانِ: الخُصْيانِ. وامرأةٌ عَنْدَلَةٌ: ضَخْمَةُ الثَّدييْنِ.
كيف يُجمع لفظ عندليب؟
يُمكن جمع عندليب على عنادل، ويفسر علماء الصرف هذا الاختيار بقاعدتين محتملتين. فقد نقل الفيّومي في كتابه "المصباح المنير" قاعدة تفيد أن الاسم إذا جاوز الأربعة أحرف، ولم يكن رابعه حرف مدّ فإنه يُرد إلى الرباعي ويبنى منه الجمع والتصغير مثل جمع عندليب على عنادل، وإن كان رابعه حرف مد جُمع من غير حذف مثل دينار وقنطار، التي تُجمع على دنانير وقناطير.
أما القاعدة الثانية فهي التي تنطلق من كون لفظ "عندليب" اسمًا خماسيًا مثل سلسبيل. وَإِذا صَار الاسم خماسيًا امْتنع تكسيره، فَإِن كُسر على استكراه وَجب حذف الْيَاء وَالْقَاف من آخِره، فَتَقول مناجي ومناجيق مثلًا بالنسبة لمنجنيق. مثلما يقال عنادل وعناديل في جمع عندليب. فَإِن حُذفت النُّون في منجنيق وأبقيت الْقَاف على بعده فِي الْقيَاس لبعد النُّون من الطّرف قيل: مناجق ومناجيق على حد قَوْلهم فرازق وفرازيق.
قاعدة جمع الخماسي
يشرح الدكتور عبده الراجحي في كتابه الشهير "التطبيق الصرفي" قاعدة جمع الاسم الخماسي التي تنطبق على جمع عندليب، مؤكدُا أن الاسم الخماسى الذى أصوله خمسة، ثم زِيد عليه بعض أحرف الزيادة يُحذف منه عند الجمع حرفان، الحرف الخامس الأصلي، والحرف الزائد فى المفرد، مثل: خندريس وخنادر التي تُجمع على خنادر. وينطبق ذلك بالقياس على جمع عندليب التي تُجمع على عنادل بحذف حرف الزيادة الياء، والحرف الأصلي الأخير أي اللام. ويجوز في معظم الصيغ التى تُجمع على (فعالل) زيادة ياء قبل الآخر إن لم تكن موجودة، وحذفها إن كانت موجودة، مثل: جعافر وجعافير. فرازق وفرازيق ـ فراديس وفرادس.
هل جمع عندليب في العربية هو عنادل؟
بناءً على القاعدتين السابقتين فإن جمع عندليب يكون على عنادل، ويجوز أيضًا جمع عندليب على عناديل في قول من الأقوال. لكن الأَوْلى وفقًا للقاعدتين جمعها على عنادل، سواء انطلاقًا من قاعدة الاسم الذي يُردّ إلى الرباعي، أو قاعدة الاسم الخماسي الذي يحذف حرف الزيادة فيه وحرفه الأصلي الأخير.
العندليب في قصائد الشعراء
ارتبط اسم العندليب عند أهل الشعر والأدب أيضًا بحلاوة صوته وجمال غنائه. فورد باستمرار في إطار الصور الفنية التي يتناقلها الشعراء. وجاء في أشعار الرومانسيين بكثرة، ومنهم الشاعر اللبناني جبران خليل جبران، كما وظّفه شعراء الشعر الحر بكثافة وكان أكثرهم توظيفًا لهذا اللفظ في قصائده الشاعر الفلسطيني محمود درويش. لكنّ أرَقّ ما كُتب عن العندليب شعرًا قصيدة الشاعر العراقي معروف الرصافي "سمعت شعرًا للعندليب" والتي يقول فيها:
سمعت شعراً للعندليب تلاه فوق الغصن الرطيب
إذ قال نفسي نفس رفيعة لم تهو إلا حسن الطبيعة
عشقت منها حسن الربيع أحسن بذاك الحسن البديع
فالعيش عندي فوق الغصون لا في قصور ولا حصون
أطير فيها لفرط وجدي من غصن ورد لغصن ورد
وفي فروع الأشجار بيتي فالظل فوقي والزهر تحتي
فسل نسيم الأسحار عنّي كم هزّ عطف الأغصان لحني
وسل يشدو زهر الرياض أني بحكم الأزهار راض
فكم زهور لِما أفوه أصغت وقالت لا فضّ فوه
يا قوم إني خلقت حرّاً لم أرض إلا الفضا مقرّا
فإن أردتم أن تؤنسوني ففي المباني لا تحبسوني
وإن أردتم أن تنطقوني فأطلقوني فأطلقوني
عبد الحليم العندليب
لكن أبلغ تصوير لجمال صوت هذا الطائر، هو تلقيب المطرب والفنان المصري عبد الحليم حافظ بلقب العندليب الأسمر، دلالةً على جمال ورقة صوته، وقوته الطربية التي جعلت منه أحد أشهر المغنين العرب في القرن العشرين.
