` `

مشاهد من سوريا في حرب غزة: إعادة تدوير قد تبعد الأنظار عن الفظائع الحقيقية

فراس دالاتي فراس دالاتي
أخبار
6 فبراير 2024
مشاهد من سوريا في حرب غزة: إعادة تدوير قد تبعد الأنظار عن الفظائع الحقيقية
عشرات الصور والمشاهد من الحرب السورية أعيد استخدامها على أنها من قطاع غزة (إكس)

تعد الحرب الإسرائيلية التي تشنها قوات الاحتلال الإسرائيلية على قطاع غزة، واحدةً من أعنف الحروب في التاريخ الحديث، لشدتها وارتفاع عدد ضحاياها من المدنيين. إذ أُلقي على غزة حتى الآن خلال الـ 120 يومًا من الحرب ما يزيد عن 66 ألف طن من المتفجرات، أي ما يعادل ضعف حجم القنبلتين النوويتين اللتين ألقيتا على هيروشيما وناغازاكي في نهاية الحرب العالمية الثانية.

حصدت تلك المتفجرات أرواح ما يقرب من 30 ألف فلسطيني في القطاع، منهم ما يزيد عن 12 ألف طفل، أي 50 ضعف عدد ضحايا الحرب الأوكرانية من الأطفال تقريبًا. كما دٌمّر أكثر من 360 ألف منزلًا حتى الآن، ما جعل عددًا من السياسيين ووسائل الإعلام الغربية يصف ما حدث في غزة بأنه فاق القصف البريطاني-الأميركي على مدينة دريسدن الألمانية خلال الحرب العالمية الثانية، وهو القصف الذي كان مضرب المثل سابقًا لشدّته وقوته التدميرية.

مع ذلك، ومنذ اندلاع الحرب الإسرائيلية الجارية على قطاع غزة منذ ما يقرب من أربعة أشهر، لم يتوقف سيل المعلومات المضللة عن العدوان وتداعياته وتطورات المعارك الدائرة في القطاع. فنّد مسبار كمًّا غير مسبوق من مقاطع الفيديو والصور والادعاءات المنسوبة إلى هذه الحرب بشكل خاطئ، عمدًا أو عن غير قصد، والتي انتشرت عبر مختلف وسائل التواصل الاجتماعي وشاركت وسائل الإعلام في ترويجها في بعض الحالات.

ورغم وجود بعض الأنماط لتلك الادعاءات، سواء تلك التي تأتي في سياق الدعاية الإسرائيلية الرسمية أو التي تصدر عن الحسابات العربية المروجة لها على وسائل التواصل، برز أيضًا اتجاه واضح في إعادة تدوير الصور والمشاهد من الحرب السورية ونسبها إلى الحرب الإسرائيلية الحالية على غزة. كما استرعت هذه الظاهرة اهتمام صحيفة ذا نيويورك تايمز التي فردت تقريرًا لها. 

وفي ظل وفرة الأدلة مفتوحة المصدر -خصوصًا بعد القضية التي رفعتها جنوب أفريقيا لمحكمة العدل الدولية في لاهاي- التي تظهر الحجم الكبير لمعاناة المدنيين الناجمة عن الحرب الإسرائيلية على غزة، فإن استخدام مشاهد من حربٍ أخرى قد يؤدي إلى صرف الانتباه عن الفظائع الحقيقية التي تحدث في الحرب الجارية، ويقلل من التعاطف المطلوب مع ضحاياها. كما أن إعادة استخدام لقطات من سوريا تعني حدوث محو مزدوج، إذ إن استخدام لقطات قديمة، بدلًا من الأدلة الموجودة في غزة اليوم، يخفي محنة ضحايا كلا الحربين.

من جانبٍ آخر، فإن نشر المعلومات المضللة بهذا الشكل سيفقد المتابع القدرة على المعرفة، وهو ما يخدم مصلحة الاحتلال في تمييع القضية والتملّص من المسؤولية وخلط الأوراق. وهو ما تم استغلاله فعليًا في هذه الحرب. إذ نشرت مؤسسة "أونست ريبورتينغ"، وهي مؤسسة مراقبة إعلامية تعنى بالدفاع عن الرواية الإسرائيلية، في طريقة أشبه بعمل منظمة "كاميرا" لكن على نطاقِ أضيق، تقريرًا استغلت فيه مواقف المؤثر الأميركي جاكسون هينكل من روسيا ونظام الأسد، ونشره معلومات ومشاهد سابقة من سوريا على أنها من غزة، ونسبه معلومات لا أساس لها لصحيفة هآرتس، لتقويض صدقية كل ما ينشره عن حرب غزة والقضية الفلسطينية، مثل التشكيك بكسر الاحتلال ذراعي الطفل محمد نزّال، الخبر الذي أثبت مسبار صحته بالوثائق.

المؤثر الأميركي جاكسون هينكل

وكذلك فعلت صحيفة "ذا جيويش كرونيكل" (التأريخ اليهودي)، المؤيدة لإسرائيل، إذ دفعت للتشكيك بكل ما ينشره منتقدًا لإسرائيل أو داعمًا لفلسطين بسبب ترويجه لمعلومات مضللة أو غير صحيحة، منها استخدام مشاهد من سوريا ونسبها لغزة.

جاكسون هينكل يكثر من نسب مشاهد من سوريا لحرب غزة

سرعان ما برز المؤثر الأميركي جاكسون هينكل كواحد من أكثر الناشطين شعبية على موقع إكس (تويتر سابقًا)، خلال الحرب الإسرائيلية الحالية على غزة، وحاز على اهتمام عددٍ من كبرى وسائل الإعلام العربية وحظي بشعبية واسعة عربيًّا. 

منذ بداية الحرب في أكتوبر/تشرين الأول 2023، شارك هينكل منشورات  عدة على إكس ادعى أنها من فلسطين، إلّا أنها في الحقيقة كانت من سوريا. على سبيل المثال، في 12 نوفمبر/تشرين الثاني، شارك صورة لامرأة تحمل بيدها لعبة (سيارة) تنزل الدرج في بناءٍ بجدران مكشوفة وبنية تحتية مدمرة. وعلق على هذه الصورة قائلًا "لا يمكنك كسر الروح الفلسطينية".

صورة متعلقة توضيحية

إلا أن هذه الصورة شاركت في مسابقة سيينا الدولية للتصوير الفوتوغرافي عام 2020، والتقطها المصور الإيراني حسن قائدي، الذي فاز بالمسابقة بجائزة التصوير الوثائقي والتصوير الصحفي. وبحسب وكالة فرانس برس، فقد التُقطت الصورة في عام 2016، وتظهر فيها امرأة تعود إلى مبنى مدمر في مدينة حمص في سوريا. ولم يحذف هينكل التغريدة أو يصحح الادعاء.

صورة متعلقة توضيحية

وفي الأول من نوفمبر/تشرين الثاني الفائت، أفادت أولغا روبنسون من برنامج BBC Verify أن هينكل شارك مقطع فيديو ادعى أنه يحتوي قطات لمستشفى الصداقة التركي في غزة أثناء تعرضه للقصف من قبل إسرائيل. إذ يصور الفيديو مدنيين في أحد المستشفيات وقصفًا لاحقًا، كما تمت إعادة مشاركته أيضًا على نطاق واسع على منصة إكس.

في الحقيقة، المقطع الذي شاركه هينكل مقتطع من فيديو يظهر قصف مستشفى عمر بن عبد العزيز في حلب. وكما ذكرت صحيفة ذا غارديان في ذلك الوقت، جاء ذلك الهجوم خلال موجة من الغارات الجوية عام 2016 شنتها قوات النظام السوري وحلفاؤها الروس. وأدانت منظمة الصحة العالمية الهجوم على المستشفى حينها.

صورة متعلقة توضيحية

نُشر الفيديو للمرة الأولى من قبل مركز حلب الإعلامي (AMC)، وهي شركة مستقلة لإنتاج الأفلام الوثائقية. وهو واحد من مئات المقاطع على قناة AMC على يوتيوب، التي وثقت الهجمات التي شنتها القوات الحكومية السورية في سوريا. ويمكن رؤية المشهد الذي اقتطعه هينكل، وأُخفي منه شعار AMC، عند الثانية 40 من المقطع أدناه.

تولّد هذه المنشورات المضللة في كثير من الأحيان تفاعلًا كبيرًا مع هينكل وتسمح له بتنمية قاعدة معجبيه ومتابعيه، إلى درجة جعلته الحساب الأكثر متابعةً على إكس في أحد الأسابيع الفائتة خلال الحرب. 

مشاركة مقاطع فيديو من حلب وشمال سوريا على أنها من غزة

كذلك الحال مع اليوتيوبر مرام سوسلي المؤيدة للنظام السوري، والتي تطلق على نفسها اسم "Syrian Girl" على إكس. فمنذ بداية الحرب الأخيرة في غزة، نشرت سوسلي وأعادت مشاركة محتوى مضلل مصدره سوريا، مدعيةً أنه من غزة، إذ شاركت سوسلي دورها صورة قائدي التي تعود غلى عام 2016 للمرأة التي تسير على الدرج في حمص، وأشارت ضمنًا إلى أنها التقطت في غزة. وأضافت عليها ادعاء بأن هذه المرأة كانت تبحث عن أشياء لتذكيرها بطفلها الميت.

صورة متعلقة توضيحية

وبالمثل، كان للمذيع البريطاني جورج غالوي، الذي كان عضوًا في مجلس العموم من عام 1987 إلى عام 2015، ويقود حاليًا حزب العمال البريطاني الصغير، والذي أيّد رواية الأسد ودعمها لسنوات وأعرب عن سعادته "بعودة سوريا بقيادة الأسد" إلى الجامعة العربية، نصيبٌ من ظاهرة مشاركة أخبار ومشاهد من سوريا ونسبها لغزة.

ففي التاسع من نوفمبر الفائت، شارك غالوي منشورًا على موقع إكس أضاف إليه عبارة "هل لديك قلب؟"، وأظهر مقطع الفيديو صبيًّا صغيرًا يبكي، وهو يعانق والده توفى جراء قصف إسرائيلي. وتضمن المنشور الأصلي علمًا فلسطينيًّا، مما يوحي بأن الطفل صبي فلسطيني والمشهد من الحرب الجارية.

صورة متعلقة توضيحية

ومع ذلك، كما كشف تحقق لـBBC Verify، فقد تمت مشاركة هذا الفيديو للمرة الأولى على موقع يوتيوب بواسطة قناة الجزيرة في يونيو/حزيران 2016. وهو يظهر في الواقع آثار هجوم شنه الجيش السوري. 

ومن خلال البحث العكسي عن الصور والبحث عن اسم أحد ضحايا الهجوم كما هو وارد في فيديو الجزيرة، يمكن الوصول إلى صورة التقطها المصور الصحفي لوكالة فرانس برس ثائر محمد.

صورة متعلقة توضيحية

وبحسب التعليق على الصورة، فإن الرجل الذي يظهر في المقطع هو فوزي برغوث، الذي كان عضوًا في مؤسسة الدفاع المدني السوري (الخوذ البيضاء)، والذي قُتل في غارة جوية شنها الجيش السوري على الصاخور شرق حلب في يونيو 2016. ولم يحذف غالواي منشوره أو يُصحّحه حتى الآن.

أطفال سوريا كضحايا للتضليل

وبعيدًا عن الروايات المؤيدة للنظام السوري ومروجيها، استمرت إساءة استخدام لقطات الحرب السورية عبر وسائل التواصل الاجتماعي منذ اندلاع الحرب في غزة في أوائل أكتوبر. على وجه الخصوص، تمت مشاركة العديد من مقاطع الفيديو والصور على موقع إكس.

على سبيل المثال، في 11 أكتوبر، نُشر مقطع فيديو على موقع إكس لصبي صغير مغطى بالرمال وهو يبكي على وفاة عائلته. وقد حصد الفيديو عشرات الآلاف من إعادات التغريد والإعجابات وملايين المشاهدات. وزعمت روايات أنه طفل فلسطيني قتلت إسرائيل شقيقاته في غارة.​​

صورة متعلقة توضيحية

ومع ذلك، فإن هذا الفيديو كان في الواقع لصبي في حلب. ومثل مقطع فيديو المستشفى الذي شاركه هينكل بشكل مضلل، هذا الفيديو مأخوذ من صفحة يوتيوب لمركز حلب الإعلامي، نشره في 11 أبريل/نيسان 2014. إذ يمكن رؤية الصبي الظاهر في الادعاء المتداول عند الدقيقة 01:40.

وفي النسخة المنتشرة حديثًا على إكس، اقتصّ شعار AMC من الزاوية العلوية اليسرى. وعُدّل طول الفيديو ودرجات الألوان فيه، مما ساعد على إخفاء المصدر الأصلي.

أحد الأمثلة الصارخة الأخرى على إساءة استخدام صور الأطفال السوريين جاء من سليمان أحمد، وهو صحفي ومؤثر لديه أكثر من 270 ألف متابع على إكس. 

شارك سليمان أحمد مقطع فيديو في 13 أكتوبر، يظهر فيه أطفال يبحثون عن الطعام بين الأنقاض والمباني المحروقة. وفي منشوره على إكس، ادعى أن هؤلاء كانوا أطفالًا في غزة بعد غارة جوية إسرائيلية.

صورة متعلقة توضيحية

لكن المصدر الأصلي للفيديو يشير إلى خلاف ذلك. يمكن رؤية اسم مستخدم تيك توك الأصلي الذي شارك الفيديو على الإنترنت للمرة الأولى، ومن خلاله يمكن رؤية أن هذا الفيديو نُشر هناك في 21 يونيو، أي قبل بدء الحرب الأخيرة بوقت طويل.

بالإضافة إلى ذلك، هناك تعليق على مقطع الفيديو على تيك توك يقول "من حريق مخيم حنين المنية #سوريا #لبنان #حريق #مخيم #إغاثة #طوارئ". حيث نشر المستخدم ذاته عدة مقاطع فيديو مختلفة للمنطقة نفسها في اليوم نفسه، بما في ذلك مقطع فيديو يظهر إمدادات المياه والغذاء الطارئة. ويمكن رؤية ملصق يحمل العلم اللبناني وعبارة "الاستجابة لحالات الطوارئ" باللغة الإنجليزية على عبوات المواد الغذائية والمياه. 

وأفاد موقع المونيتور الإخباري في اليوم نفسه أن حريقًا دمر مخيمًا للاجئين السوريين في شمال لبنان.

صورة متعلقة توضيحية

الصحفيون هدف للتضليل

قتلت إسرائيل ما لا يقل عن ستة وسبعين صحفيًّا في غزة حتى وقت نشر هذا التقرير، وفقًا للجنة حماية الصحفيين، وهي واحدة من مجموعات عدة تحاول إحصاء عدد الضحايا من الصحفيين. وتقدر نقابة الصحفيين الفلسطينيين العدد بأكثر من مئة واثني عشر، أي نحو 10 في المئة من الإعلاميين العاملين في القطاع

وفي 19 نوفمبر، ترددت أنباء عن مقتل الصحفيين الفلسطينيين في غزة، حسونة سليم وساري منصور. وبعد ذلك بوقت قصير، ظهرت معلومات مضللة حول الصحفيَين على الإنترنت. إذ انتشر مقطع فيديو عبر موقع إكس يظهر رجلين يرتديان سترات مضادة للرصاص مكتوب عليها "Press". 

يبدأ الفيديو بلقطات لصواريخ يتم إطلاقها خلف الرجال قبل أن ينتقل إلى نفس الرجال الذين يكشفون عن صواريخ في الجزء الخلفي من شاحنة. وادعى المستخدمون أنّهما الصحفيان اللذان قُتلا في غزة وأنهما "إرهابيان يتظاهران بأنهما صحفيان".

صورة متعلقة توضيحية

ومن بين المستخدمين الذين شاركوا هذا الادعاء بري ديل، مراسلة موقع الأخبار المحافظ الأميركي ديلي واير، ومستخدم يدعي أنه مواطن صحفي مستقل، وحساب زائف يتظاهر بأنه حساب رسمي لحماس.

لكن في الحقيقة صُوّر هذا الفيديو في سوريا ونُشر في الأصل في السابع من أكتوبر. ويبدو أن الرجل الذي يظهر على يمين الفيديو هو جميل الحسن، وهو صحفي يقوم بالتغطية الإخبارية من سوريا منذ أشهر.

ونشر الحسن، الذي يعرّف نفسه في قناته على يوتيوب بأنه "ناشط إعلامي في الثورة السورية"، مقاطع فيديو وصور لنفس المحتوى المتداول على حسابيه في إكس وانستغرام. ولا يزال الحسن ينشر المحتوى ولم ترد أنباء عن وفاته.

وفي الوقت نفسه، لعبت الأدلة الفعلية مفتوحة المصدر دورًا في التحقيق في مقتل الصحفيين الذين يغطون الصراع الحالي، كما في حالة صحفي رويترز عصام عبد الله، الذي قُتل بنيران دبابة إسرائيلية في جنوب لبنان، بحسب ما خلصت إليه تحقيقات منظمة العفو الدولية ومنظمة هيومن رايتس ووتش.

أثبتت الأشهر الفائتة، وخصوصًا الأدلة التي قدمتها جنوب أفريقيا لمحكمة العدل الدولية في لاهاي، أن هناك أدلة كثيرة ومفتوحة المصدر يمكن التحقق منها تظهر الحجم الكبير لمعاناة المدنيين الناجمة عن الحرب الإسرائيلية على غزة. لذا فإن استخدام مشاهد من حربٍ أخرى قد يغطي على الفظائع الحقيقية التي ترتكبها إسرائيل.

اقرأ/ي أيضًا

لماذا نستخدم صورًا قديمة إذا كان ما يجري كافيًا؟

كيف يمكن لصور الخرائط والمصادر المفتوحة المساعدة في معرفة الأحياء والمباني المدمرة في غزة؟

اقرأ أيضاً

الأكثر قراءة