تحقيق مسبار
أن تساوي بين الناس لا يعني دائماً أنك عدلت بينهم. فبين العدل والمساواة علاقة وثيقة بالنظر إلى ارتباطهما الشديد بالسياق الاجتماعي، ولذلك يظلّان باستمرار مثار نقاش وجدال بين أهل اللغة والقانون والفلسفة، بحثاً عن تدقيقهما وتجلية معانيهما.
فهل هناك فرق بين العدل والمساواة؟ وأين يكمن ذلك؟ وما هي مختلف الدلالات الفلسفية والدينية والاجتماعية لهذين المفهومين؟ هذه المقالة تضع نصب عينيك الفروق الرفيعة والدقيقة بين هاتين القيمتين الكونيتين.
العدل والمساواة في المعجم العربي
يُعرّف معجم المعاني الجامع العدل بالإنصاف وتجنّب الظلم والجور، فهو مشتق من فعل عَدَلَ، عَدْلاً وَعُدُولاً وعَدَالَة، ومَعْدِلَة، فهو عادِل، والمفعول معدول. ويُبيّن المعجم أنّ العدل أيضاً هو إعطاء كلّ ذي حقّ حقَّه. ويعني عدَل الشّيءَ بالشّيءِ إذا سوّاه به، وعدَل إلى الشَّيء: أقبل إليه بعد أن أعرض عنه، وعَدَلَ قَوْلُهُ فِعْلَهُ: سَاوَى بَيْنَهُمَا. ويُفيد عَدُلَ بالضم المعنى ذاته فيقال: عدُل القاضي: إذا كان مُنصفاً، مُتجنِّباً للظُّلم والجور، مرضيَّ الحُكْم. والعدل في الحُكم هو أن يُثاب المرء على الحسنة بالحسنة، وعلى السيئة بالسيئة، وهو التسوية بين الشيئين أيضاً، كما ويُعرَّف العدل بأنه القصد في الأمور واستقامتها في النفوس.
المُساواة مصدر مُشتق من الفعل ساوَى، يساوِي، مُساواةً فهو مُساوٍ، والمفعول مُساوَى. وساوى بينهما: سوّى؛ جعلهما متعادلَيْن ومتماثلين، وساوَى صاحِبَهُ : ماثَلَهُ، عادَلَهُ، وسَاواهُ بِهِ: رَفَعَهُ حَتَّى بَلَغَ بِهِ مَبْلَغَهُ، وسَاوَى بَيْنَ النَّاسِ: عادَلَ بَيْنَهُمْ، وسَاوَى عَمَلَهُ: ضَبَطَهُ، رَتَّبَهُ.
والمساواة بالمعنى القانوني مذهبٌ يهدف إلى المساواة المدنية والسِّياسية والاجتماعية بين النَّاس. يُقال على قدم المساواة: بالتَّساوي، دون تفضيل أحدٍ على غيره. وهذه قسمة بالتساوي، أي دون تفضيل أحدٍ على الآخر. ويُشتق من هذا الجذر نعت السَّوِيّ، وهو المعتدل الذي لا إفراط فيه ولا تفريط. كما يرادف هذا النعتُ أيضاً معاني أخرى كالمُستقيم والصحيح الذي لا عيب فيه ولا اختلال.
العدل والمساواة في المعجمين الفرنسي والإنجليزي
يدور هذان اللفظان في حقل دلالي يشمل العديد من المصطلحات المُحمّلة بمعاني قانونية وحقوقية ودينية واجتماعية. فالعدل يقابله في الإنجليزية (Justice) ويُعرف في المعجم الإنجليزي بأنه "القدرة على الاستقامة والإنصاف والصواب الأخلاقي في الدفاع عن عدالة قضية أو موقف ما". ويعرّف مُعجم "روبير" الفرنسي العدل بأنه "التقدير العادل والاعتراف والاحترام لحقوق واستحقاقات الجميع". كما يُورد جملة من القيم التي تدور في دائرته الدلالية القانونية كالإنصاف والحياد والنزاهة.
أما المساواة فيُقابلها في المعجم الفرنسي (ÉGALITÉ)، وهي في معجم "روبير" تعني التكافؤ بين قوتين، أو طبيعة العلاقة بين أفراد متساوين. ويُركّز هذا المعجم على المساواة أمام القانون، بالنظر إلى أنّ مبدأ المساواة يُعتبر من شعارات الثورة الفرنسية الثلاثة: الحرية، المساواة، الإخاء.
ويُركّز معجم أكسفورد الإنجليزي في شرح معنى المساواة التي يقابلها في الإنجليزية لفظ (Equality) على البعد الاجتماعي، باعتبار هذا المبدأ من أهم مبادئ عصر الأنوار، ولا يُنظر إليه إلا في سياق اجتماعي. ويتردد بين هذين المفهومين في السياق الفرنسي والإنجليزي مبدأ ثالث لا يكاد ينفصل عنهما هو مبدأ الإنصاف (Equity).
العدل والمساواة في الاصطلاح
يُحدَّد مفهوم العدل اصطلاحاً بأنّه التزام الإنسان بأداء واجبه مثلما ينتظر من الآخرين أن يفعلوا ذلك، وهو التزام بالطريق الصواب وابتعاد عن كل ما يحظره الدين أو القانون. كما ورد أيضاً في تعريفه اصطلاحاً أنه استخدام الأمور في مواضعها وأوقاتها الصحيحة من دون تقديمٍ أو تأخير، بالإضافة إلى استعمالها في وجوهها ومقاديرها من غير إسراف أو تقصير. وارتبط العدل في المنظور الاجتماعي بمجال القضاء، وهو بهذا المعنى يحمل دلالة الإنصاف، كما يُفيد أيضاً معاملة الناس بشكلٍ متساوٍ دون تمييز أو انحياز لفئةٍ مُعيّنة أو طرف أو جهة ما. ويتعارض العدل بالمعنى الاجتماعي والقضائي مع الظلم والجور والحيف.
وقد وردت في معنى العدل العديد من تعاريف المُتقدمين التي يغلب عليها الطابع الشرعي والديني، فقد نُقل عن العلّامة عبد الله بن أحمد النسفي قوله "إنّ العدل هو التسوية في الحقوق بين الناس، وإعطاء كلّ ذي حق حقه"، وورد عن العلامة علي بن محمد الخازن أنّ "العدل هو المساواة في المكافأة، فإن كان خيراً فخير، وإن كان شرّاً فشرّ". وقال البيضاوي أن الله يأمر بالعدل، والمقصود به هنا التوسط في الاعتقاد كالتوحيد الذي يتوسّط بين التعطيل والتشريك، والكسب المتوسط بين الجبر والقدر، والتوسط في الأعمال بين البطالة والترهب، والتوسط في الأخلاق بين البخل والتبذير، والعدل عند الفلاسفة كأفلاطون يعني اقتصار الإنسان على ما يخصّه وعدم تدخله في أمور الآخرين. ويترتب عن هذه المعاني تعريف في الاصطلاح الشرعي للعدل يُفيد أنّ العدل وضعُ المرء الأمور في موضعها التي أمر الله سبحانه وتعالى بها.
أما المساواة اصطلاحاً فيُقصد بها تمتيع الإنسان بما يتمتّع به الآخرون من حقوق، وإلزامه بما عليهم من واجبات دون أي زيادة أو نقصان. وقد ظهرت اختلافات اصطلاحية في تحديد مفهوم المساواة. فظهر اتجاه يُعرّف المساواة بأنّها إلغاء كافة أشكال التمييز بين الناس ليصبحوا سواسية بصرف النظر عن أديانهم، وأجناسهم، وقد سُمّي هذا النوع من المساواة بـ"المساواة المُطلقة". وفي المقابل عرّف اتجاه آخر المساواة بأنّها المماثلة بين الناس بشكلٍ كامل، باستثناء الأمور التي أمر الشرع بعدم التسوية فيها. وسُمّي هذا النوع من المساواة بـ"المساواة العادلة"، والتي تجمع بين المتساويين وتفرق بين المفترقين.
ويُوضّح أنصار مفهوم "المساواة العادلة" ذلك بمثال المساواة بين الرجل والمرأة، فالجمع بين المتساويين يكون بمساواة الرجل والمرأة في الثواب والعقاب، وفي تكاليف الشرع والخصائص الإنسانية على اختلافها، أما التفريق بين المفترقين فيكون من خلال اختلاف الرجل والمرأة من ناحية الصفات الجسدية والنفسية. وينتقد أنصار المساواة العادلة التعريف الأول ويعتبرونه غير مُنصف، لأنّه يحاول الجمع بين المتساوين والمفترقين على حد سواء، وهو أمر يشوبه التناقض في نظرهم، ويؤدي إلى الانحراف عن العدل والإنصاف.
هل هناك فرق بين العدل والمساواة؟
لقد أقرت الفلسفة اليونانية والثورة الفرنسية ثم المرجعيات الدينية أنّ المساواة لا يمكن أن تتحقق إلا بإقرار العدل. ففي غياب العدل لا مساواة، إذ لا يمكن أن يتساوى أبناء المجتمع الواحد في الحقوق والواجبات دون العدل بينهم. ومن هنا تصبح المساواة هدفاً أساسياً من أهداف قيمة العدل، إذا اختلّ لا يمكن بأي حال من الأحوال تحققها. فإصدار القاضي الجائر حُكماً لصالح أحد المتقاضين على حساب الآخر، يجعله لم يعدل بينهما وبالتالي غير متساويين أمام القانون، الذي يُوظَّف لصالح أحدهما وضد الآخر.
ومن هنا يجوز لنا أن نفّرّق بين العدل والمساواة بالقول إنّ العدل هو الوسيلة وإن المساواة هي الغاية. وهذا يؤكد وجود فروق عديدة بين العدل والمساواة.
يمكن تلخيص أهم الفروق بين العدل والمساواة بالتالي:
- تشمل المساواة التسوية بين الناس فقط، بينما يشمل العدل التسوية والتفريق بينهم.
- العدل أشمل من المساواة وهو ضابط لها، بينما المساواة تكاد تكون جزء فقط من العدل.
- العدل يعني الموازنة بين جميع الأطراف فيأخذ كل ذي حق حقّه، أما المساواة فقد تعني التسوية بين أمرين بينما يكون من الحِكمة التفريق بينهما.
- العدل مُطلق مأمور به في كل زمان ومكان بينما المساواة نسبية منفية في بعض المواضع.
- المُساواة قد تؤول إلى الظلم بينما العدل لا يؤول إليه أبداً، فلو ساوى المُعلّم بين طلبته في العلامات، دون مراعاة لمستواهم، تحوّلت مساواته إلى ظلم.
اقرأ أيضاً:
هل هناك فرق بين الحياء والخجل؟
هل هناك فرق بين السنَة والعام؟