تحقيق مسبار
يعد جامع دمشق العظيم أو كما يعرف بالجامع الأموي في دمشق معلمًا تاريخيًا وسياحيًا وصرحًا عظيمًا لتعاقب الأديان والحكام على دمشق، وقد بني خلال حكم الإمبراطورية الأموية عندما كانت في أوج زهوتها حاكمةً من سوريا ومتخذةً من دمشق عاصمةً لها، على أرض كانت مستخدمة باستمرار كمكان للعبادة على مدار آلاف السنين.
يستعرض هذا المقال على تاريخ الجامع الأموي وأهميته وأقسامه وطريقة هندسته وميّزاته، ويجيب على تساؤل هل كان كان الجامع الأموي كنيسة سابقًا؟
المسجد الأموي
تعد دمشق واحدة من أقدم المدن المأهولة باستمرار في العالم، ويقع المسجد الأموي في قلب دمشق القديمة شرق سوق الحميدية ويصل بينهما ما تبقى من معبد المشتري (جوبيتير) الروماني. وتحتوي دمشق القديمة على معظم المعالم التاريخة للمدينة وهي ذات أصل هلنستي حدودها عبارة عن أسوار تاريخية لها ثمان بوابات ما يزال بعضها قائمًا حتى هذا اليوم، ويمثل المسجد الأموي أقدم مسجد باقٍ وقد تم بناؤه كما يدل اسمه خلال فترة حكم الدولة الأموية.
تعكس أساليب هندسة الجامع الأموي وزخرفته تاريخ سوريا الطويل ومتعدد الطبقات، فقد كان عبارة عن عدة دور للعبادة عبر التاريخ وكان الجامع الاموي كنيسة سابقًا قبل أن يصل إلى شكله الحالي كمسجد إسلامي.
طريقة بناء الجامع الأموي المستمدة من العمارة البيزنطية جعلته نموذجًا أوليًا لمساجد أخرى في فن العمارة الإسلامية، فحتى تاريخ بناء الجامع الأموي كانت المساجد مسطحة مع أعمدة بسيطة، ولكن هذا المسجد كان مميزًا بقاعة صلاة وثلاثة أروقة مع قبة مزدوجة الطبقات من الخشب، وقد تمت تغطية جدران المسجد بلوحات لحدائق رائعة الجمال مستوحاة من وصف القرآن الكريم للجنة.
وفي روايةٍ أخرى تعبر اللوحات عن المناطق الطبيعية الشاسعة التي كانت تحت حكم الأمويين، وجمعيها مطلية بالذهب الخالص، بالإضافة إلى الفسيفساء الحجرية الملونة.
من بني الجامع الأموي في دمشق؟
بنى الجامع الأموي في دمشق الخليفة الأموي السادس الوليد بن عبد الملك والذي حكم خلال الفترة الواقعة بين عامي (705-715) ميلادية، وقد عُرف عنه حبّه للعمارة واهتمامه بالمباني الأثرية.
أراد الخليفة الوليد بن عبد الملك ترسيخ معالم الإمبراطورية الأمويّة بعد الحكم الفارسي بين عامي (612-628)م ثم الحكم العربي بين عامي (635-661) م، وذلك على غرار والده الخليفة الأموي الخامس عبد الملك بن مروان عندما بنى قبة الصخرة، وهي من أهم معالم المسجد الأقصى في القدس.
خلال فترة حكم الوليد بن عبد الملك تم ضم مناطق من آسيا الوسطى وساحل افريقيا الشمالي وإسبانيا إلى الإمبراطورية الأموية تحت راية الإسلام، كما تم في عهده بناء مساجد أخرى أيضًا في القدس والمدينة المنورة (مسجد النبي)، وعندما أراد بناء المسجد الأموي أعلن عن رغبته تلك عبر خطاب موجه إلى الدمشقيين قائلا فيه: "يا أهل دمشق، أربعة أشياء تمنحكم تفوقًا ملحوظًا على بقية العالم: مناخكم، مياهكم، ثماركم، حماماتكم، وأضيف إلى هؤلاء خامسًا: هذا المسجد".
متى بني الجامع الأموي؟
حكمت الدولة الأموية العالم الإسلامي حوالي قرن من الزمن وذلك بين عامي (41-132 هـ / 661-750 م)، وأصبحت دمشق أول مدينة بيزنطية يحتلها المسلمون عام 634 م بقيادة الخليفة الراشدي الأول أبو بكر وقادة جيوشه وأبرزهم أبو عبيدة وخالد بن الوليد، ثم توالت الخلافة الأموية إلى عهد الخليفة الأموي السادس وهو الوليد بن عبد الملك والذي أمر ببناء الجامع الأموي بعد عام من توليه الحكم أي في عام 706م حيث أراد مسجدًا جميلًا في قلب عاصمته وكبيرًا بما يكفي لاستيعاب أعداد السكان المتزايدة من المسلمين.
استغرق بناء الجامع الأموي عشر سنوات حيث اكتمل بشكل نهائي بعد وفاة الخليفة ببرهة عام 715 م، وحشد الوليد حرفيين أقباطًا وعمالًا من الفرس والهنود وفنانين من اليونان والمغاربة والذين كانوا يشكلون الجزء الأكبر من القوى العاملة التي تتكون من 12000 شخصًا.
وتم دفع تكلفة بناء الجامع الأموي من عائدات ضرائب الدولة التي جُمعت على مدى عدة سنوات، وهو مبلغ ضخم من المال، وفيما بعد تم ترميم الجامع وتحسينه عدة مرات كما تعرض للعديد من الحرائق والأضرار أثر توالي الحكام والغزوات على دمشق عبر السنين، وأكثرها تدميرًا كان حريقًا سنة 1893م تسبب في انهيار القبة المركزية للمسجد ودمار فسيفساء المسجد الواسعة وألواحه الرخامية.
هل كان الجامع الأموي كنيسة؟
صحيح، فقد كان الجامع الأموي معبدًا آراميًا لعبادة الإله حدد، ثم معبدًا رومانيًا لعبادة الإله جوبيتر، ثم كان الجامع الأموي كنيسة سابقًا عرفت باسم كنيسة "مار يوحنا المعمدان"، ثم أصبح مسجدًا إسلاميًا فقط منذ العصر الأموي وحتى الآن.
تاريخ الجامع الأموي
يحمل الجامع الأموي بين جدرانه وفي تصاميمه المميزة وهندسته الراقية تاريخًا طويلًا وعريقًا للأديان، وقد بدأ تاريخ هذا المسجد منذ العصر الحديدي ما بين القرنين الحادي عشر والعاشر قبل الميلاد عندما كانت دمشق عاصمة الدولة الآرامية، حيث تم بناء معبدًا آراميًا في هذا الموقع للإله حدد وهو إله الرعد والعواصف والأمطار، وعند غضبه أو غيابه يعم الجفاف حسب المعتقدات القديمة، ولا تزال بقايا من هذا المعبد موجودة حتى الآن ومعروضة في المتحف الوطني في دمشق.
عند غزو الرومانيين لدمشق في القرن الأول، اتخذوا من هذا الموقع مكانًا لبناء معبد المشتري (معبد جوبيتير)، وهو إله السماء والرعد أيضًا، ولا تزال أعمدته قائمة في سوق الحميدية وبينه وبين المسجد الأموي إلى يومنا هذا، بالإضافة للسور الخارجي للجامع.
وفي القرن الرابع الميلادي، تم تحويل معبد المشتري إلى كنيسة ضخمة عام 379م أُطلق عليها اسم مار يوحنا المعمدان (النبي يحيى بن زكريا)، وتم نقل رأسه حسب الأقاويل إلى هذه الكنيسة ولا يزال البعض يعتقد بوجوده حتى الآن داخل حرم المسجد الأموي، وهكذا كان الجامع الأموي كنيسة سابقًا.
بعد الفتح الإسلامي لدمشق عام 634م تم قسم كنيسة يوحنا المعمدان إلى نصفين وبناء مسجد داخل جدرانها، حيث خُصص النصف الشرقي كمسجد للمسلمين والغربي ظل كنيسة، وكان المسجد يطلق عليه اسم "جامع الصحابة"، وظل الوضع على هذا الحال لعدة عقود بحالة غير مستقرة بين المسلمين والمسيحيين.
وعند تولي الوليد بن عبد الملك للسلطة خلال حكم الدولة الأموية قرر بناء المسجد الأموي وكان عليه إخلاء الكنيسة أولًا حيث كان الجامع الأموي كنيسة سابقًا، وتذكر الروايات أن الخليفة أخذ كامل الموقع من المسيحيين مقابل مبلغٍ كبيرٍ من المال وبناء كنائس أخرى لهم بعد مفاوضات شاقة، وقام باستخدام هيكل الكنيسة وأعمدتها لبناء المسجد.
أقسام الجامع الأموي في دمشق
تدل براعة هندسة الجامع الأموي وجمال تصميمه على أصالة بنائه والمهارة في إظهار جمالية وقدسية المكان، وهو من المساجد القليلة التي بقيت كتصميمها الأولي مع بعض التعديلات والترميمات عبر السنين حيث بقي كما بني تقريبًا حوالي 1300 سنة، ويقال أنَّ لا مثيل له في العالم.
يقبع الجامع الأموي على أرض مستطيلة الشكل تبلغ مساحتها 100 × 157.5 مترًا أي حوالي 15 كيلومترًا مربعًا، ويقال أنّ سوره هو سور المعبد الروماني ذاته وزواياه ومآذنه مستحدثة من بقايا كنيسة يوحنا المعمدان، ويتألف بشكل رئيسي من قاعة صلاة في الجزء الجنوبي والساحة في الجزء الشمالي من الأرض.
أقسام الجامع الأموي في دمشق:
- قاعة الصلاة (الحرم): يتم الدخول إليها من الفناء، ويبلغ طولها 136 مترًا وعرضها 37 مترًا وتصميمها مستمد من الكنائس البيزنطية، وتتألف من ثلاثة أروقة يفصل بينها صفين من أعمدة معاد استخدامها ذات تيجان كورنثية، أوسط هذه الأروقة يتعامد مع جدار القبلة (جهة الصلاة) وفي واجهته يقع المحراب الذي يركز المصلون فيه أثناء صلاتهم، ويتعامد مع الأروقة الثلاث من جهة الفناء ممر طويل وعريض يدعى المجاز تسقفه قبة كبيرة على ارتفاع 30 مترًا تدعى قبة النسر.
- الفناء (الساحة): تتميز واجهته بمدخل جملوني ضخم مستمد من القصور البيزنطية، وعند الدخول عبره يتم رؤية ثلاثة ممرات جانبية (أروقة) ذات أعمدة بالإضافة لساحة كبيرة رخامية مصقولة بينها تدعى بالصحن والذي يملك بدوره ثلاث قبب صغيرة منها قبة الخزنة وقبة الوضوء، وتُغطى جدران الفناء وأروقته بفسيفساء زجاجية وذهبية تعكس رسومات لمناظر طبيعية خلابة.
- المآذن: يملك الجامع الأموي ثلاث مآذن وهي:
- مئذنة العروس أو المئذنة البيضاء أو مئذنة الكلاسة، والتي تقع في منتصف الجدار الشمالي، وسميت بهذا الاسم لتلألئها بأضواء الفوانيس في المناسبات والأعياد، فتظهر كالعروس المشرقة في ليلة زفافها.
- مئذنة عيسى والتي تقع على الزاوية الشرقية الجنوبية للمسجد الأموي، وهي أطول المآذن ويبلغ طولها 77 مترًا.
- مئذنة قايتباي والتي تقع في الزاوية الجنوبية الغربية للمسجد، وتعد أول مئذنة في دمشق على الطراز المصري.
- الأبواب: يملك الجامع الأموي أربعة أبواب أكبرها الباب الشرقي المواجه لحي القيمرية.
أهمية الجامع الأموي
تتجلى أهمية الجامع الأموي في جمال عمارته ومن مكانته الدينية والعلمية ودلالته على براعة حكم الدولة الأموية، حيث يعد أول مسجدٍ يظهر فيه المحراب نتيجة وجوده في الطراز المعماري القديم للكنيسة، كما أنه أول مسجدٍ في التاريخ تمت زيارته من قبل البابا، حيث قام بابا الكنيسة الكاثوليكية يوحنا بولس الثاني بزيارة المسجد الأموي والصلاة فيه عام 2001.
وقد كان الجامع الأموي كبيرًا بما يكفي لاستيعاب جميع السكان المسلمين من أجل صلاة الجمعة، كما كان مكانًا للتجمعات السياسية والإعلانات العامة وتعيين المسؤولين العامين وصلاة الجنازة وكان أيضًا بمثابة سكن مؤقت للفقراء.
بالإضافة لذلك كان الجامع الأموي منارةً ثقافية وعلمية، حيث أقيمت فيه العديد من المدارس على مر العصور، منها المدرسة الغزالية والمالكية والقوصية، واتخذ منه الشيوخ مكانًا لتعليم تلاميذهم العلوم المختلفة، كما يوجد في المسجد مكتبة راقية فيها رسائل وكتب ومخطوطات هامة لعل أبرزها مصحف الصحابي عثمان بن عفان.
من الناحية المعمارية، تُظهر الفسيفساء الزجاجية المطلية بالذهب على الواجهة الرئيسية أعلى المدخل وكذلك على جدران الأروقة في الفناء، زخارف نباتية ومناظر طبيعية واسعة النطاق تضم حدائقًا وأنهارًا ومبانيًا، وأهمها لوحة نهر بردى على مقربة من المدخل الرئيسي، كما يقال أن هذه الرسومات تصور الجنة، وتعد هذه الزخارف والنقوش والفسيفساء أول أسس فن الزخرفة الإسلامي.
ولايزال الجامع الأموي يثير إعجاب السياح والحجاج من جميع أنحاء العالم بأصالته وجمال هندسته ورسوماته المميزة، كما يعد أحد أعرق دور العبادة الإسلامية في العالم، وكان نقطة تحول هامة في فن العمارة الإسلامية.
اقرأ/ي أيضًا:
هل بدأ تاريخ سقوط الأندلس الكبير عام 1492؟