تحقيق مسبار
يعتبر الطاعون الدبلي المعروف أيضًا باسم الموت الأسود واحدًا من أكثر الأوبئة الكارثية في تاريخ الإنسانية، لذا يتساءل الكثيرون عن مرض الطاعون الدبلي ومدى إمكانية الاصابة به اليوم؟
يستعرض هذا المقال ما هو الطاعون الدبلي (الموت الأسود)، أصوله، وأسبابه، وانتشاره، وتأثيره وأعراضه وطرق علاجه.
ما هو الطاعون الدبلي؟
الطاعون الدبلي والمعروف أيضًا بالموت الأسود هو واحد من أشهر الأوبئة الفتاكة التي أصابت الجنس البشري وتسببت في الكثير من الوفيات والخسائر عبر التاريخ، وكان له تأثير كبير على التاريخ البشري والحضارات حيث ساهم في تغيير الأمم والثقافات والسياسات في مختلف العصور.
انتشر الطاعون عدة مرات في مختلف أنحاء العالم عبر التاريخ حتى أنه تم إيجاد الحمض النووي للجرثوم المسبب في هياكل عظمية تعود للعصر البرونزي قبل 3800 عام، لكن أشهر تفشي له والذي يعرف به جيدًا ويقصد به في السياق العام هو الطاعون الدبلي الذي اندلع في أوائل القرون الوسطى تحديديًا بين عامي 1347-1351 والذي أودى بحياة حوالي 25 مليون شخص في أوروبا وحدها أي ما يقرب من ثلث سكان أوروبا آنذاك.
وكانت البداية تحديدًا عندما رست 12 سفينة قادمة من البحر الأسود في ميناء ميسينا الصقلي في أكتوبر عام 1347 ومعظم البحارة الذين كانوا على متنها قد ماتوا، أما البقية كانوا يعانون من حالة سيئة ومرض خطير، ثم أمرت السلطات بإبعاد هذه السفن لكن كان قد فات الآوان.
تعتبر جراثيم اليرسينية الطاعونية Yersinia pestis هي المسبب الرئيسي للطاعون وهي بكتيريا حيوانية عصية الشكل تنتقل إلى البشر غالبًا عبر لدغات البراغيث المصابة التي تعيش على الجرذان المصابة، وتقوم بتعطيل جهاز المناعة لدى المضيف مما يسمح لها بالتكاثر بحرية.
علاج الطاعون الدبلي
أودى الطاعون الدبلي بحياة ملايين البشر خلال العصور الوسطى حول العالم وسبب وفيات جماعية خاصةً بين أفراد الطبقة الفقيرة بسبب تردي الخدمات الطبية وسبل الوقاية آنذاك، لكن لحسن الحظ تحسنت المعرفة حول الأمراض والوقاية منها وعلاجها على مر العصور مما جعل الأوبئة الكبيرة مثل الطاعون أمرًا نادرًا نسبيًا.
يمكن أن يكون الطاعون مرضًا وخيمًا إذا ترك دون علاج حيث تصل نسبة الوفيات في الشكل الدبلي إلى 30-60% أما في الشكل الرئوي فتصل إلى 30-100% والذي يعتبر خطيرًا جدًا ويسبب الوفاة في غضون 18-24 ساعة من الإصابة إذا لم يعالج.
يمتلك الطب الحديث علاجات فعالة للطاعون والعلاج الأساسي هو المضادات الحيوية خاصةً تلك التي تكون فعالة ضد بكتيريا يرسينيا بستيس أو اليريسينية الطاعونية وهي المسبب الرئيسي لهذا المرض.
يوصى مركز التحكم بالأمراض والوقاية منها CDC)) بمجموعة من الصادات الحيوية كعلاج للطاعون ومنها:
- الستربتومايسين: غالبًا ما يعتبر هذا المضاد الحيوي الخيار الأمثل لعلاج الطاعون الدبلي بسبب فعاليته القوية اتجاه جراثيم اليريسينية.
- الجنتامايسسن: هو مضاد حيوي آخر يستخدم لعلاج الطاعون الدبلي، وغالبًا ما يتم استخدامه بالمشاركة مع صادات أخرى.
- الدوكسيسايكلين: هذا المضاد الحيوي مشتق من الأسيكلين وهو فعال أيضًا ضد اليرسينية الطاعونية.
- سيبروفلوكساسين أو ليفوفلوكساسين: وهي صادات حيوية من مجموعة الفلوروكينولون يمكن استخدامها أيضًا لعلاج الطاعون الدبلي.
يختلف اختيار المضاد الحيوي المناسب ومدة العلاج اعتمادًا على شدة العدوى وعوامل المريض وأنماط المقاومة الجرثومية للصادات الحيوية.
هل الطاعون الدبلي معدي؟
ينتشر الطاعون الدبلي بشكل أساسي عن طريق لدغ البراغيث المصابة والتي تعيش وتتغدى على القوارض الصغيرة المصابة مثل الجرذان، أما الانتقال من شخص لآخر فهو ممكن أيضًا لكن بشكل أقل احتمالًا، وطرق العدوى الأساسية وفقًا لمنظمة الصحة العالمية هي:
- لدغ البراغيث.
- التماس المباشر مع سوائل الجسم والأدوات الملوثة.
- استنشاق الرذاذ وجزيئات الهواء الملوثة المنبعثة من المريض المصاب بالطاعون الرئوي.
وللطاعون بشكل عام ثلاثة أنواع أساسية حسب طريقة العدوى:
- الدبلي: وهو الشكل الأشيع والأقل خطورة يتظاهر بألم وتورم العقد اللمفاوية (الدُّبَل) خاصة في منطقة الإبط والمغبن، وحمى عالية وقشعريرة وضعف عضلي وإقياء وأعراض أخرى شبيهة بالإنفلونزا، ويحدث بشكل أساسي بسبب لدغ البراغيث وهو ليس معدي بشكل مباشر من شخص لآخر.
- الرئوي: وهو نوع نادر لكن أشد فتكًا ومعدي بشكل أكبر من الدبلي، ينتقل بشكل أساسي عن طريق القطيرات التنفسية الملوثة والقادمة من المريض عبر السعال والعطاس، وعندها تغزو الجراثيم الرئتين ويتظاهر بأعراض التهاب رئوي حاد (حمى وسعال وضيق تنفس) يليها امتلاء الرئتين بالسوائل والوفاة.
- طاعون إنتان الدم: يحدث عندما تدخل الجراثيم إلى مجرى الدم مباشرةً وغالبًا ما ينتج عن طاعون دبلي غير معالج، وهو ليس شديد العدوى من شخص إلى آخر لكن يمكن أن ينتقل عن طريق ملامسة سوائل جسم المريض أو الحيوان المصاب، يتظاهر بتعب وحمى ونزيف داخلي وهو مميت إذا لم يعالج.
تبدأ الأعراض بعد العدوى خلال يوم إلى سبعة أيام (فترة الحضانة)، ومن المهم ملاحظة أن المضادات الحيوية الحديثة فعالة جدًا في علاج أشكال الطاعون إذا تم تناولها مبكرًا، كما تعتبر التدابير الوقائية مثل مكافحة البراغيث وممارسة النظافة الجيدة وعزل المصابين وتجنب الاتصال الوثيق مع المرضى مهمة في المناطق التي يتوطن فيها الطاعون أو يحدث فيها تفشي.
هل مرض الطاعون موجود حاليًا؟
لا يزال مرض الطاعون موجودًا في بعض أجزاء العالم ويتم الإبلاغ وسطيًا عن 1000 إلى 2000 حالة سنويًا إلا أن الرقم الحقيقي غالبًا أكبر من ذلك، وتعد جمهورية الكونغو الديمقراطية ومدغشقر وبيرو هي البلدان الثلاثة الرئيسية الموطونة بالمرض في الوقت الحالي وذلك وفقًا لمنظمة الصحة العالمية.
أبلغت جمهورية الكونغو الديمقراطية عن 4630 إصابة بشرية و349 حالة وفاة بين عامي 2004 و2014 وهي غالبية الحالات في العالم ويرجح العلماء سبب ذلك لطبيعة النظام البيئي والمناخ الاستوائي المناسب لاحتضان القوارض المصابة.
من الدول الأخرى التي أبلغت عن حالات إصابة بالطاعون الدبلي في السنوات الأخيرة هي أمريكا والصين والهند وفيتنام ومنغوليا.
ووفقًا لموقع شبكة BBC فقد تم تسجيل 3248 حالة إصابة و584 حالة وفاة في شتى أرجاء العالم في الفترة بين عام 2010 إلى عام 2015.
أما حديثًا فقد أبلغت الحكومة الداخلية في منغوليا الداخلية شمال الصين بتاريخ 13 آب/2023 عن إصابتين حديثتين بالطاعون الدبلي هما زوج وابنة في أعقاب إصابة سابقة للأم سجلت في السابع من نفس الشهر.
هناك مخاوف من استخدام جراثيم اليريسينية كسلاح بيولوجي على شكل رذاذ من شأنه أن بسبب جائحات كبيرة من الطاعون الرئوي وخسائر هائلة.
ما هو الموت الأسود؟
الموت الأسود هو مرض الطاعون وخاصة بشكله الأكثر شيوعًا (الطاعون الدبلي) والذي سبب الجائحات العالمية عبر العصور خاصة في القرن الرابع عشر، حيث سمي بهذا الاسم بسبب تحول تقرحات الجلد إلى اللون الأسود وهو ما يدعى بالغانغرين أي تموت الجلد وبسبب الدمامل السوداء تحت الجلد والناجمة عن تجمع الدم الجاف بسبب النزيف الداخلي.
وقد دعي الطاعون باسم "الوفيات الكبيرة" و"الوباء العظيم" قبل أن يتم اعتماد الموت الأسود كلقب له.
لمئات السنوات بقي السبب الحقيقي وراء الموت الأسود مجهولًا حتى الجائحة الأخيرة له والتي بدأت في الصين عام 1860 ولم تنته بشكل رسمي حتى عام 1959، حيث اكتشف العالم الفرنسي ألكسندر يرسين البكتيريا المسؤولة عن هذا المرض عام 1894 وسميت باسمه.
وبسبب جهل سبب وآلية انتقال العدوى كان يعتقد أن المرض ينتقل عن طريق الهواء الفاسد أو بمجرد نظر المريض بروحه المريضة إلى الشخص السليم فتم اختراع رداء الأطباء المشهور والذي يتكون من معطف طويل حتى الكاحل مغطى بالشمع وقناع يشبه المنقار بداخله مادة عطرية لتغطي على رائحة الجثث المتحللة بالإضافة إلى قفازات وأحذية، كما حمل الأطباء عصا طويلة لنكز أو صد الضحايا.
كانت عواقب الطاعون الدبلي الاجتماعية والثقافية والدينية عميقة وهامة، فقد تسبب مقدار الوفيات الهائل في طرح تساؤلات وجودية عن طبيعة الحياة والموت مما ترك بصمة لا تنسى على الفن والأدب والفكر الديني.
كانت الأعمال الفنية من تلك الفترة تصور صورًا مظلمة وسوداوية للموت وتحلل الجثث بحيث تعكس الخوف الساد الذي غمر المجتمع.
أما الاستجابات الدينية للطاعون الدبلي فقد كانت متنوعة، فبسبب عدم فهم آلية المرض رأى البعض أن الطاعون كان عقوبة إلهية وقصاص على خطايا البشر ضد الله، بينما سعى آخرون لممارسات دينية بهدف التكفير عن الذنوب محاولةً منهم لاسترضاء غضب الإله مثل الجلادون وهم مجموعة دينية ظهرت في العصور الوسطى قاموا بجلد أنفسهم خلال الصلاة وفي عروض عامة من أجل المغفرة منتقلين من مدينة إلى أخرى.
اقرأ/ي أيضًا:
هل يمكن جمع كلمة داء في اللغة العربية؟