` `

آليات هندسة العقول والتحكم بالرأي العام

نور حطيط نور حطيط
سياسة
29 سبتمبر 2022
آليات هندسة العقول والتحكم بالرأي العام
تندرج هندسة العقول ضمن حرية الاقناع والاقتراح (Getty)

في حديثه عن هندسة العقول، يقول الصحفي الأميركي والكاتب، والتر ليبمان، في كتابه "الرأي العام"، إنّ هندسة العقل هي نظرية صنع الموافقة لدى الجمهور وهي نوع من أنواع الرياضة السياسية التي تُمارَس لتشكيل العقول. 

وبالاعتماد على نظريات مؤسس علم التحليل النفسي، سيغموند فرويد، طوَّر إدوارد بيرنيز –وهو ابن شقيقة فرويد- ما اصطلح على تسميته هندسة الموافقة (The engineering of consent)، إذ كان من الضروريّ التماس الجزء اللاواعي من العقل من أجل السيطرة على الجماهير والعمل على توجيهها وخداعها دون إدراكها لذلك.

 إدوارد بيرنيز وتقنية "هندسة الموافقة"

في الحرب العالمية الأولى، استخدم إدوارد بيرنيز هذه التقنية حين ساعد إدارة الرئيس الأميركي السابق، وودرو ويلسون، على الترويج لفكرة أنَّ الجهود التي بذلتها الولايات المتحدة الأميركية، وقتئذ، كانت بهدف نشر مبادئ الديمقراطية في أوروبا.  

وفي السلم، أدرك بيرنيز أنَّ "صناعة الموافقة" تتماشى والدعاية التجارية أيضًا. ففي عام 1929، نُظِّمت في موكب عيد الفصح مظاهرة تهدف للتغلب على مقاومة المبيعات من أجل زيادة نسبة التدخين بين النساء. وقامت شابات بالتباهي بـ torches of freedom. وروّج بيرنيز وقتها لدخان من نوع Lucky Strikes، لاحتوائه على اللون الأخضر ونظرًا لكونه من الألوان الأكثر أناقة وجمالًا ومناسبة للنساء، والذي يعود أصله ورونقه للون الغابات الخلابة.

استغلال الخواص العقلية والنفسية بهدف التضليل والتلاعب

لدى المجتمعات البشرية جملة من الخصائص والخواص التي تتغير بفعل العوامل الزمنية والتاريخية والسياسية. وعادة ما تسعى الأنظمة القوية وأجهزتها الدعائية والإعلامية إلى استغلالها لمحاولة السيطرة على عقول أفرادها وبرمجة تفكيرهم بما يتناسب مع مصالحها، ونحن لا نتحدث هنا عن جميع الأنظمة والأجهزة تفاديًا لعدم الوقوع في فخّ النظرية المؤامرتية.
من بين هذه الخواص على سبيل المثال لا الحصر، تلك المتعلقة بالترميز والمقصود بها تحويل المعلومات إلى ما يشبه الشيفرة من أجل التواصل والاتصال بالآخر ولتنظيم التجارب الإنسانية بصورها المتعددة والمبسطة كي يسهل تبويبها وتخليدها. وتختلف هذه الرموز باختلاف الثقافات والحضارات والسياسات.

كذلك، عادة ما يتبع هذه الرموز نوعًا من التقديس الذي يصعب تفتيته والذي يحمل قيمة عاطفية كبيرة. وتستخدمه أجهزة الدعاية السياسية من أجل إثارة الاستجابة العاطفية لدى جمهورها واستغلال عقله الباطني لتحقيق أهدافها السياسية والانتخابية وغيرها؛ وبذلك تكون قد هندست عقولهم بما يخدم مصلحتها الذاتية، ومثال على ذلك: العبارات المذهبية والترميز للطائفية ولشدّ العصب العرقي، والديني أثناء الحملات الانتخابية في بعض الدول مثل لبنان.

أمّا التنميط، فيُقصد به "الأنماط الشائعة التي تُستخدم للإشارة إلى جماعات أو أمم معينة". وتتضح خطورتها في ظاهرة تصنيف الجماعات أو الأفراد ومعاملتهم على أساس هذه التصنيفات التي عادة ما تستخدم في غير موضعها، مثل خطاب اليمين المتطرف المعادي للمهاجرين، أو خطاب الصهيونية التي نجحت في تضليل الرأي العام العالمي حين وظّفت هذه الخاصية لتروِّج من خلالها لأنماط سيئة مرتبطة بالعرب عامة وبالشعب الفلسطيني خصوصًا،  ووضعهم جميعًا في قالب نمطي يصنِّفهم بالإرهابيين والقتلة.

وفي السياق ذاته، يعتبر التحويل أو الإبدال "من العمليات اللاشعورية التي يلجأ إليها العقل عندما يجد صعوبة في موضوع ما، بفعل الهروب يحوّل ويبدل الموضوع الأول بآخر. ويمكن تبيان ذلك من خلال ملاحظة النزعة الموجودة لدى بعض أجهزة الحكومات-لا سيما عند الأزمات- لتحويل غضب الرأي العام تجاه فشلها في سياساتها الداخلية إلى اتهام النازحين واللاجئين بها، أو إلى تحويل سخط المظاهرات المنددة بالوضع المعيشي البائس إلى مؤامرات خارجية يجب تحدّيها وإعلان الحرب عليها.

الأساليب التي تعمل على هندسة العقول

لفهم السبل التي تلجأ إليها مختلف الجهات في "هندسة القبول"، لا بدّ من مناقشة بعض الأمثلة التي تبين الأساليب المستخدمة لهذا الغرض. بداية، إنَّ أسلوب الشّراء ويقصد به شراء "ذمم النخب"، التي تتحوّل من مصدر إزعاج وتهديد للسلطة، إلى آلية تابعة لها تستهدف الجماهير وتعمل على تضليلهم بما تمليه عليها الطبقة الحاكمة وأجهزتها.

وتتحول هذه النخب من نخب عامة إلى نخب تابعة ومبرمجة لدعم خطاب السلطة وسياستها. وكان من بين المتحدثين عن هذه الظاهرة- أي ظاهرة خيانة المثقفين- المفكر الفلسطيني، إدوارد سعيد، في كتابه المثقف والسلطة، كذلك في كتابه حول "خيانة المثقفين" واستفاض سعيد في شرح حالة المثقفين الذين تستهويهم المغريات المالية والوظيفية للسلطة، فتقودهم إلى الانحياز على حساب أخلاقياتهم في تقديم الحقيقة كاملة دون تشويه أو تضليل.

أسلوب شائع آخر هو أسلوب التجهيل، الذي يستخدم "لنشر الشكّ والخداع وعدم اليقين بالمعرفة نتيجة عرض معلومات بشكل متضارب، وتأصيلها بالعقل اللاوعي، ليصبح "الجهل" أداة يمتلكها أهل السلطة والسياسة والشركات التجارية لتوظيفه وتغييب الحقائق عن الجماهير. 

يُعتمد أسلوب التجهيل لتحقيق أهداف ربحية، واقتصادية، وسياسية، وثقافية. ويُذكر أنَّ هذا الأسلوب لوحظَ في تسعينيات القرن الفائت عن طريق إثارة الشكوك حول أضرار التدخين على صحة الإنسان. واستخدم منذ ذلك الوقت "لوبي التدخين" في الولايات المتحدة الأميركية، الأبحاث العلمية المزيفة التي هدفت لتحسين صورة التدخين في أذهان الجماهير وسعيهم لشراء هذه المنتجات بهدف اكتساب المزيد من الربح على حساب الصحة الجسدية للأفراد.

في وثائقي تعرضه قناة الجزيرة بعنوان “صناعة الجهل"، تقول المتخصصة في علم الاجتماع، لينسي مكغوي، حول قضية النحل ونفوقها في العالم بشكل متزايد وسريع لم يسبق له مثيل، إنّه كان ينبغي في هذه القضية أن يتمتع العلماء بالقدرة على جمع البيانات، وتتبّع الأدلة، وعند الحصول على الدليل، تتوضّح الحقيقة كامل؛ إلّا أنّ الأمور لم تجرِ بهذا الشكل.

فقد وجدت أكثر من دراسة أن السبب الرئيسي لنفوق النحل يعود لعوامل غير مرتبطة بالمبيدات الحشرية. وهو ما دفع السلطات البريطانية والجهات العلمية ومربي النحل للشعور بالحيرة، جراء هذه التناقضات الواضحة. من هنا، إنَّ صناعة الجهل، يمكن أن تتجلّى من خلال الدراسات المزيّفة والمنحازة التي تخدم الشركات التي تبغى الربح والاقتصاد الربحي.

ومن الأساليب التي تهندس العقول أيضًا، أسلوب تزوير التاريخ عبر تغيير الحقائق التاريخية لصالح أيدولوجية السلطة وأدواتها لتضليل الجمهور وحثّهم على تأييد مصالحها، أو عبر حجب بعض المعلومات التي يمكن أن تكون مهمة عادة. وهو ما يؤدي إلى تشويه الحقيقة وجعلها ناقصة. 

أمّا أسلوب التخويف، فيوضح الفيسلوف الأميركي، نعوم تشومسكي، في كتابه “السيطرة على الإعلام”، أنه من المهم "إجبار الناس على الانحياز للتدخل العسكري في الخارج، فهم بشكل عام سلميون، وعبر التخويف تقوم السلطات الأميركية بتعبئتهم للحرب".
ومن أشهر الأساليب الذي وجب ذكرها فيما يخص هندسة القبول، أسلوب الشائعات الموسمية. فغالبًا ما يتم استخدامها في أوقات الأزمات والاضطرابات من قبل السلطة السياسية وأدواتها أو في الحملات الانتخابية وتتضمن آمالًا زائفة وبنودًا يصعب تطبيقها نظرًا للظروف والأزمات الاقتصادية والأمنية التي تعاني منها السلطة.
ولا بدّ أخيرًا من التطرق إلى أسلوب التضليل الإعلاميّ، ويندرج ضمن هذا الأسلوب الانتقاء الإعلامي وقاعدة التكرار في الخبر، لكيّ يتسنى للجهة المُمِارسة لهندسة العقول، ترسيخ المعلومة في ذهن الأفراد بما يتوافق مع سياسة توجّهاتها المتحيزة.
كما أنّها تعتمد التضليل بالإيهام والتدليس، ذلك عبر عرض الأخبار والمعلومات دون التطرق إلى مصادرها الصريحة، بالإضافة إلى إغراق الجمهور بالنفايات المعلوماتية، أي تلك المعلومات التي تعتبر غير مهمة ولا يحتاج الأفراد لها. ووظيفتها تقتصر على تضليلهم عن الحقائق والوقائع والأحداث الحقيقية.
وتستخدم بعض وسائل الإعلام في أسلوب التضليل إحصاءات واستطلاعات رأي مزيفة أو خاطئة تهدف من خلالها إلى التلاعب بمجريات قضية ما ومزاج القوى التي تدير هذه الأجهزة.

تعتبر هندسة العقول -الموافقة والقبول- جوهر العملية الديمقراطية، وتندرج ضمن حرية الاقناع والاقتراح. وفي كثير من الأحيان، تلعب السلطة السياسية دورًا مهمًا في قيادة الجمهور في الحالات الأكثر خطورة، عن طريق هندسة الموافقة لتخدم المصلحة العامة ولترفع القيم التي تبني المجتمعات وتطوِّرها؛ ولكن حين يتمّ استعمال هذه الآلية لتحقيق أهداف معينة ومصلحة ذاتية وشخصية، تصبح خطرة وأداة للتضليل واستغلال الرأي العام.

اقرأ/ي أيضًا

المصادر

ذا كونفرزايشن

إدوارد برنايز

حسن سعد عبدالحميد

الأكثر قراءة