تحقيق مسبار
ربما سمعت يوماً أصوات نعيق الغراب، أو ربّما قد رأيت مرةً مجموعة من الغربان مجتمعة حول غراب آخر. لكن هل تعرف ما هي هذه الطقوس التي تقوم بها الغربان؟
الطقوس الحيوانية للتعامل مع الموتى
الطقوس البشرية للتعامل مع الموتى متنوعة، وقد تجد منها الكثير من الطرق الغريبة، ولكنها معروفة لجميع البشر تقريباً، أما بالنسبة للطقوس الحيوانية فمعظمها ليست معروفة، والتصوّر السائد أن الحيوانات لا تتصرف بطريقة غير معتادة أو حتى تولي اهتماماً لحيوان ميّت، لكن هذا الاعتقاد الخاطئ يتبدد تدريجياً مع كل دراسة علمية يقوم بها العلماء لدراسة سلوك الحيوان، فوفقاً لدراسة منشورة في مجلة Animal Behavior أفاد الباحثون أنّ هناك عدد من الحيوانات أظهرت طرقاً خاصة بها في التعامل مع موتاها، فمثلاً لاحظ الباحثون أنّ الفيلة الإفريقية تقوم بالاعتناء بالفيلة الميتة من فصيلتها من خلال ملامستها والاحتكاك بها كنوع من الاهتمام بها، كما وقامت الدراسة نفسها بدراسة تفاعلات بعض الطيور ومن ضمنها الغربان، وحصلوا على مجموعة من الأدلة التي تفسّر هذه التفاعلات وبالأخص تفاعلات الغربان.
الغراب يدفن موتاه، خرافات وروايات دينية
من المعروف لدى كثير من الناس أن الغربان تجتمع بشكل غريب إذا مات أحد أفراد جماعتها وتلتف حوله وتبدأ بالنعيق، يظن المعظم أنّ هذه الفعاليات تكون ضمن طقوس جنائزية تقوم بها الغربان لدفن موتاها، وإذا تتبعنا مصدر هذه التصورات نجد أنّ أحد مصادرها جاء من موروث ديني، إذ يفسّر متبنّو هذا التصوّر بأنّ الغراب هو من علّم الإنسان الدفن في أول جريمة حدثت في التاريخ، حينما قتل قابيل أخاه هابيل، بعث الله سبحانه وتعالى غراباً ليعلّم الإنسان كيف يدفن موتاه، ويستندون بهذا التفسير على آية كريمة من سورة المائدة جاء فيها: " فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنْ النَّادِمِينَ (31)".
وعلى الرغم من هذا التفسير، إلّا أنّ حقيقة هذه الطقوس ظلت لغزاً كبيراً لم يستطع العلم تفسيره إلّا من خلال مراقبات ومشاهدات بعيدة لهذه السلوكيات.
غراب قتيل وغربان مُعزّين
جثّة هامدة لا حياة لها، ومجموعة من الغربان السوداء تلتف حولها، الجثة تعود لغراب قتيل وليس ميتاً ميتة طبيعية، هذا هو سبب التجمّع حوله أصلاً، لأنّ القتل هو الذي لفت انتباه مجموعة الغربان وجمّعهم حوله، إذ إنّ التفاتهم للغراب القتيل له هدف معيّن يتعلّق بمسألة حياة أو موت، فوفقاً للدراسة التي ذكرناها سابقاً والتي أجرتها مجلة Animal Behavior حيث قامت بدراسة سلوك الغربان المجتمعة حول الغراب القتيل، تبيّن أنّها تتجمّع حوله للتعلّم وتحسين فرصهم بالنجاة إذا تعّرضوا لنفس الحادث الذي تعّرض له زميلهم القتيل، وخلُصت الدراسة إلى أنّ تفاعل الغربان مع الغراب القتيل يهدف إلى تقييم الخطر وتحفيز السلوكيات المقاومة كما قال العلماء.
فضول مَرَضي وذاكرة حديدية
الغربان معروفة بذكائها القوي جداً، إذ يمكنهم حل بعض الأحاجي والألغاز، ويمكنها أيضاً تعلّم كيفية استخدام بعض الأدوات من خلال مشاهدة غربان أخرى ليها خبرة سابقة باستخدامها، كما أظهرت الدراسات أنّ الغربان يمكنها أن تحقد وتحمل ضغينة، إذ بإمكانها تذكّر وجوه البشر الذين عاملوها معاملة سيئة حتى بعد مرور سنوات كثيرة، ليس هذا فحسب، بل من المحتمل أيضاً أن يقوموا بإخبار أصدقائهم الغربان عنك أيضاً، كما لاحظ العلماء أنّ الغربان تتجنّب المناطق التي تم العثور فيها على غربان ميتة، حتى لو كانت هذه المناطق تحتوي على الكثير من الطعام.
حقيقة تصرف الغربان تجاه موتاها
لكشف حقيقة تصرفات الغربان تجاه موتاها، أعدّ فريق بقيادة جون مارزلوف من جامعة واشنطن في الولايات المتحدة الأميركية تجربة مبتكرة بنوا فيها على دراسات سابقة وانطلقوا من حقيقة أن الغربان لا تنسى الوجه الذي قد يشكّل تهديداً لها.
أقام الباحثون منطقة تغذية للغربان البرية في إحدى المناطق الحضرية، وتم لاحقاً وضع مجموعة من الغربان الميتة، بالإضافة إلى وضع نوع من أنواع الصقور المحنّطة على غصون الأشجار بطريقة تظهرها أنّها ما زالت على قيد الحياة ولكي تظن الغربان أنّ هذه الصقور هي من قامت بافتراس زملائها الميتين.
لاحقاً، قام مجموعة من المتطوعين بزيارة المنطقة، وقاموا في بعض الأحيان بحمل الغراب الميت، وفي بعض الأحيان كانوا يحملون الصقر، وفي أحيان أخرى يحملون الغراب الميت والصقر الحي في نفس الوقت، ولتحييد تعابير وجوه المتطوعين قام الباحثون بإلباسهم أقنعة.
ردّت الغربان بالتوبيخ من خلال النعيق الصاخب تجاه كل المتطوعين، الذين حملوا الغراب الميت لوحده، والذين حملوا الصقر لوحده، والذين حملوا الطائرين سويةً، كما وبدت الغربان أكثر حذراً من منطقة التغذية، واستغرقت وقتاً أطول للاقتراب من الطعام.
كما بدا أن الغربان تتذكر الأقنعة التي يرتديها المتطوعون الذين أمسكوا بالطيور النافقة. حتى لو كان مرتدي القناع قد حمل غرابًا ميتًا مرة واحدة فقط، استمرت الغربان في توبيخ هذا الشخص كلما ظهر، لمدة تصل إلى ستة أسابيع.
أجرى العلماء اختبارات مماثلة على طائر آخر وهو الحمام، ولاحظوا أنّهم بالكاد انتبهوا عندما تم عرض حمامة ميتة أمامهم، إذ لم يبدي الحمام أي اهتمام بالحمامة الميتة، كما وقاموا بعرض حمامة ميتة أمام مجموعة من الغربان، وكانت غير مبالية بشأن وجود الحمامة الميتة، واستمرّت بتوبيخها للبشر الذين حملوا الغربان الميتة والصقر المُفترس المشتبه به.
خلُصت الدراسة إلى أن الغربان لا تلاحظ وتتفاعل مع مشهد الغراب الميت فحسب، ولكنهم يتعلمون أيضًا وبسرعة ربط الخطر والتهديد بالبشر الذين ظهروا على مقربة من الغربان الميتة.
هل الغراب يدفن موتاه؟
لم تلاحظ أي من الدراسات أنّ الغربان قامت بدفن الغراب القتيل الذي تجمّعت حوله، حيث أنّ كل الطقوس التي تظهر على انّها طقوس جنائزية لم تنته بحمل الغراب من مكانه أو حتى دفنه.
ليست الغربان فقط تقوم بطقوس جنائزية
الغربان هي آخر الحيوانات المكتشفة ضمن مجموعة صغيرة يُعرف عنها تعرّفها على الطيور الميتة من نفس نوعها، أو ربما حتى إقامة حداد عليها.
ويُعرف أيضاً عن الفيلة والزرافات وقرود الشمبانزي والعديد من الطيور أنها تبقى قريبة من أقرانها النافقة حديثاً لفترة ما.
اقرأ أيضاً: