تحقيق مسبار
تعج اللغة العربية بكنوز معجمية ودلالية تجعل منها لسانًا مميزًا لا تنقضي عجائبه ودرره. ولا يكاد الناطقون بها أو مستكشفوها يُحيطون بجانب منها حتى تسحرهم نواحي أخرى في تركيبها وتفجير معانيها وقوة بيانها. وتظهر هذه المزايا في لغة الضاد من خلال ظواهر مختلفة من بينها تلك العلاقات التي تربط بين الألفاظ والمفردات داخل المعجم العربي، والتي تتنوع بين الترادف والتضاد والتقابل والاشتراك وغيرها. ويعتبر الترادف من بين أهم هذه العلاقات التي تنظم القاموس العربي، مثلما يتجسد ذلك من خلال العلاقة بين لفظين لطالما جمعهما السياق اللغوي باعتبارهما لفظين مترادفين، وهما: العام والسَّنَة. فهل هناك فرق بين السَّنة والعام أم هما لفظان مترادفان فعلًا؟ وهل توجد بين السَّنة والعام فروق معنوية رفيعة؟
تجيبك هذه المقالة عن تساؤلك بخصوص العلاقة بين السَّنة والعام وسياقات ورودهما في الشواهد القديمة.
ما هو الترادف في اللغة العربية؟
الترادف في اللغة: التوالي والتتابع، وفي الاصطلاح توالي الألفاظ الدالة على مسمى واحد والمترادف: ما كان معناه واحدًا وأسماؤه كثيرة، وهو ضد المشترك، وأُخذ من الترادف الذي هو ركوب أحد خلف آخر، كأن المعنى مركوب واللفظان راكبان عليه، كالليث والأسد. فالمساواة أو الاستواء إنما يكون في معنيي اللفظين؛ واللفظان يدلاّن على مَعْنى واحد أو معنيين متقاربين، وذلك عندَ الذين يُجيزونَ وجودَ التّرادف في العربية ولا يُنكرونَه. وهناك بعض من المعجميين الذين ينكرون وجود الترادف ويعتبرون أن كل لفظ إنما يدل على معنى معين ودقيق حتى وإن تقارب مع لفظ آخر.
هل السنة والعام لفظان مترادفان؟
يدخل لفظا السَّنة والعام ضمن الألفاظ المترادفة باعتبار دلالتهما العامة على مدة زمنية محددة تصل إلى 365 يومًا. ويدخل معهما في نطاق الترادف من حيث الدلالة العامة لفظ آخر هو: الحوْل. لكن المعاني المعجمية لكل لفظ تتيح اكتشاف مرادفات أخرى تحيط بدلالته الدقيقة، فالسنة مثلًا تُرادف في اللغة العربية أيضًا ألفاظًا لا تحيل على المعنى الزمني، ومنها الجَدْب والشِدَّة والقَحْط والمَجَاعَة.
هل هناك فرق بين السَّنة والعام؟
إذا كان بين اللفظين ترادف عام، لكن هناك فرق بين السَّنة والعام، حيث أنّ لكلٍ منهما دلالته المعجمية الدقيقة كما يلي:
العام: هو الحَوْلُ من جهةِ أنّه يَدورُ على أهلّةٍ مُحدَّدةٍ، ويأْتي العامُ على شَتْوَة وصَيْفَة. والجمع أَعْوامٌ لا يكسَّرُ على غير ذلك، ويُقالُ في المُبالَغَةِ: مَرَّ بنا عامٌ أعْوَمُ، ويُطلقُ العامُ الأعوَمُ على الجَدْبِ، ذكَرَه ابنُ سيدَةَ المُرسيّ، كأَنه طال عليهم لجَدْبه وامتناع خِصْبه، وكذلك أَعْوامٌ عُوَّمٌ وكان القياس : عُومٌ.
السّنَة: واحدةُ السِّنين، وقال ابن سِيدَةَ: السَّنَة العامُ، وهي اسم مَنقوصٌ، والذّاهبُ منها يَجوز أَن يكون هاءً وواواً بدليل قولهم في جمعها سَنَهات وسَنَوات. يقالُ أَصابتهم السَّنةُ، أي الجدب والقحط، والجمع من كل ذلك سَنَهاتٌ وسِنُون.
هل هناك فرق بين السنة والعام؟
تُظهر الشروح المعجمية أن هناك فرقًا بين السَّنة والعام، حيث يوجد بينهما فروقًا معنوية بارزة على الرغم من ترادفهما، وهذا ما يعزز نظرية المعجميين الذين يُنكرون أصلًا وجود الترادف في اللغة العربية. ويمكن إجمال الفرق بين السَّنة والعام فيما يلي:
السَّنةَ تدلُّ على فترة زمنية مُجْدِبة، أي التي تعرف جفافًا وقحطًا، أما العام فيدل على الرخاء والنعمة والمطر والفرج.
العام جمعٌ لأيّام، بينما السنة تكون جمع شهور؛ فعندما تُطلق العرب صفةً خاصة لأيّام محددّة ثم تقوم بجمعها فتقول عام كذا، وليس سنة كذا، فالعام يُفيد كونه وقتًا لشيءٍ معيّن كعام الفيل.
يُشترط في العام مرور صيف وشتاء كاملين، أمّا السنة فيُمكن حسابها من أيّ يوم سواء كان ذلك في منتصف الفصل أو غيره.
يُستعمل لفظ السنة للتأريخ الدقيق بالأعوام والشهور والأيام، فنقول سنة 1945 انتهت الحرب العالمية، بينما يرتبط استعمال العام بالحدث دونما إشارة إلى التاريخ، فيُقال عام الجوع أو عام الحرب.
الفرق بين السَّنة والعام في الشواهد القرآنية
يُقدّم القرآن الكريم استعمالات مختلفة السياقات والدلالات تّطهر فرقًا بين السَّنة والعام، وتحددان المعاني الثاوية وراء كل لفظ منهما. فقد وردت لفظة "سَنَة" في القرآن الكريم سبع مرات في صيغة المفرد، واثنتي عشرة مرة في صيغة الجمع "سنين". فأما صيغة المُفرد من سنة فقد وردت في المرات السبع مقرونة بعدد كما في قوله تعالى: (يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ) البقرة: 96. أو قوله تعالى: (قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً) المائدة: 26. وأما المرات الاثنتي عشرة التي وردت في صيغة الجمع سنين، فقد ورد منها ما يدل على أمر فيه شدة ومعاناة وتعب كالجفاف وانقطاع المطر، وذلك في قوله تعالى: (وَلَقَدْ أَخَذْنَا آَلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ) الأعراف: 130.
أما لفظة "العام" فقد وردت ثماني مرات في القرآن الكريم، ووردت في صيغة المثنى "عامين" مرة واحدة فقط، كما في قوله تعالى: (فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ) البقرة: 259. أو قوله تعالى: (حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ) لقمان: 14. وبتأمل الآيات الكريمة نجد أن ذكر العام فيها إنما هو لتحديد المدة.
كما تُظهر الشواهد القرآنية الفرق بين السنة والعام في المعنى بشكل دقيق، حيث تستخدم السنة للعدد ولوصف الشدة والمعاناة، ويُستخدم العام لتحديد المدة ولا يترافق معه شدة. ويتجلى أمر الشدة في السنين والرخاء في الأعوام في قصة يوسف حين قال في تأويل رؤيا ملك مصر أن هناك سبع سنين شديدة (ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ) وعاماً بعدها من الرخاء (ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُون).
ما الفرق بين العام والسنة في القرآن الكريم؟
على الرغم من ترادفهما، إلا أنّ الفرق بين العام والسنة في القرآن الكريم دقيق، حيث يرِدان في القرآن الكريم بسياقات مختلفة ومتنوعة تُظهر وجود فوارق دلالية دقيقة بينهما. وقد أورد القرآن الكريم هذين اللفظين في عدة مواضع. وجاء ذكر لفظة "سنة" مثلًا في القرآن الكريم سبع مرات بصيغة الإفراد، وذُكرت اثنتي عشرة مرة بصيغة الجمع أي: "سنين". ويمكن الاستشهاد ببعض الآيات الآتية التي تضمنت لفظة "سنة" بالإفراد:
- قال تعالى: (يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ) البقرة: 96.
- وقال أيضًا في محكم تنزيله: (قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً) المائدة: 26
- وقال عز من قائل: (وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) الحج: 47
أما بصيغة الجمع، فقد وردت كلمة سنين في عدة مواضع منها:
- قال تعالى: (لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ) يونس: 5 .
- وقال أيضًا: (ولِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ) الإسراء: 12
- وقال عز من قائل: (فَضَرَبْنَا عَلَى آَذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا) الكهف: 11 .
وتُظهر سياقات استعمال كلمة "عام" ورودها أيضًا في ثمانية مواضع مفردة، وفي موضوع واحدة مثنّاة، ومن ذلك قوله تعالى:
- (فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ) البقرة: 259 .
- (قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ) البقرة: 259 .
- (أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ) التوبة: 126 .
ويتبين من المقارنة بين سياق استعمال لفظتي "السنة" و"العام" أن الفرق بين السنة والعام في القرآن الكريم يُظهر فروقًا دلالية دقيقة تؤكدها القرائن الواردة في الشواهد نفسها. فكلمة "السنة" وردت في القرآن مرتبطة باستمرار بالشدة والقحط والجفاف، وهو معنى معجمي مقرّر في هذا اللفظ، يؤكده السياق. وهذا ما يتّضح مثلًا بجلاء في قوله تعالى وهو يحكي عن معاقبته لقوم فرعون: (وَلَقَدْ أَخَذْنَا آَلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ) الأعراف: 130. إن عبارة "أخذنا بالسنين" تؤكد أن المقصود هو العذاب والعقاب، فتصبح السّنة مرادفًا لهذه المعاني. كما يتقرّر المعنى ذاتُه في قصة يوسف عليه السلام عندما قال تعالى عنه: (فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ). ولم يقل الله عزّ وجل "بضعة أعوام" مما يؤكد ارتباط معنى كلمة "سنة" بكل أشكال المعاناة والتعب.
لكن الدلالة على هذا المعنى في كلمة "سنة" تأتي في القرآن مرتبطة بقرائن وشواهد دالّة عليها كنقص الثمرات والسجن وغيرها من أشكال المعاناة، وهذا يعني إمكانية ورود كلمة "سنة" في سياق ليس فيه أي دلالة على ذلك عندما ترتبط مثلا بدلالة الحساب والعد، كما هو في قوله تعالى: (ولِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِين) أو كقوله تعالى الذي ورد في قصة أهل الكهف (فَضَرَبْنَا عَلَى آَذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا) الكهف: 11.
وإذا كانت كلمة "سنة" ترتبط في القرآن بمعاني الشدة والعقاب فإن كلمة عام التي وردت في القرآن ثماني مرات مفردة ومرة واحد مثنّاة تأتي في الغالب للدلالة على المدة الزمنية المحدّدة كما هو في قوله تعالى:
- (فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ) البقرة: 259 .
- (قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ) البقرة: 259 .
وإضافةً إلى تحديد المدة الزمنية بدقة، فإن لفظ "العام" ورد في القرآن في الغالب مرتبطًا بالرخاء والفرج ونهاية الأزمات وأكبر دليل على ذلك هو المقابلة البلاغية الرائقة في قصة يوسف بين سنوات القحط وأعوام المطر. فعندما أراد الله عز وجل أن يروي قصة تفسير رؤيا الملك استعمل لفظي "السنة" و"العام" متقابلين بالمعنيين المتضادين. قال تعالى: (قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ، ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ، ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ). سورة يوسف – 47: 49.
فسمّى الله عز وجل السنوات السبع اللواتي سيضطر فيها أهل مصر إلى التوفير والادخار بـ"السنين" بينما سمّى لحظة الفرج والرخاء بـ"العام" وربط بين العام وإغاثة الناس بكل ما تحمله كلمة "يُغاث" من معاني الإنقاذ ونهاية الأزمة.
ما هو الفرق بين السنة والعام؟
يعتبر لفظا "السنة" و"العام" من أكثر النماذج اللغوية دلالة على ظواهر الترادف أو التضاد المعروفة في المعجم العربي. فبينما يرِدان في معناهما العام للدلالة على المدة الزمنية التي تشمل اثني عشر شهرًا، فيأتيان بذلك مترادفين، إلا أن بينهما معاني دقيقة مختلفة تفرضها سياقات الاستعمال العربي والقرائن المرتبطة بهما. وقد نبّه السهيلي صاحب كتاب "الروض الأنف في شرح سيرة ابن هشام" إلى هذا الإشكال تنبيهًا مهمًا في سياق شرحه لإحدى الآيات، فقال "وَالسّنَةُ وَالْعَامُ وَإِنْ اتّسَعَتْ الْعَرَبُ فِيهِمَا، وَاسْتَعْمَلَتْ كُلّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَكَانَ الْآخَرِ اتّسَاعًا، وَلَكِنْ بَيْنَهُمَا فِي حُكْمِ الْبَلَاغَةِ وَالْعِلْمِ بِتَنْزِيلِ الْكَلَامِ فَرْقًا".
ويؤكد السهيلي في هذه المقارنة على الفرق الاشتقاقي بين اللفظين، فالسنة، حسب ما أورده في كتابه "مِنْ سَنَا يَسْنُو إذَا دَارَ حَوْلَ الْبِئْرِ وَالدّابّةُ هِيَ السّانِيَةُ فَكَذَلِكَ السّنَةُ دَوْرَةٌ مِنْ دَوْرَاتِ الشّمْسِ وَفْد تُسَمّى السّنَةُ دَارًا". وينبه السهيلي إلى دلالة دقيقة في معنى "السنة" و"السنين" وهو يربطها بالتأريخ للسنوات الشمسية، أي الأعجمية، في نظره، مستدلًا على ذلك بقوله تعالى "وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا" (25). فذكر أن زيادة القرآن للسنوات التسع لتوافق حساب العرب، أي حساب الشهور القمرية.
وقد اتفقت الكثير من المعاجم العربية القديمة والحديثة على ارتباط كلمة "السنة" بمعاني الجفاف والقحط، فذكر المعجم الوسيط في تعريفها "كل يَوْم إِلَى مثله من الْقَابِل من السّنة الشمسية والجدب والقحط وَالْأَرْض المجدبة".
ومقابل الدلالة التي تحملها كلمة "سنة" ترد كلمة "عام" في سياق مضادّ أحيانًا للدلالة على معنى الفرج وزوال الأزمة، كما هو وارد في الشواهد القرآنية حيث يقول تعالى في سورة يوسف في سياق الحديث عن توالي سنوات الجفاف العجاف (ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ). وفهم المفسرون من استخدام القرآن لفظة "عام" بدلًا من سنة أن العام لا يرتبط أبدًا بالمعاناة والقحط، وإنما على العكس يدلّ على الرخاء والدّعة والمحصول الجيد. وعلاقة العام بمعاني الرخاء والفرج هو نفسه المعنى الذي قرّره البقاعي في تفسيره للآية 14 من سورة العنكبوت التي تتحدث عن قصة نوح مع قومه (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَىٰ قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَاماً فَأَخَذَهُمُ ٱلطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ).
في هذا المثال وردت مقابلة واضحة بين كلمتي "سنة" و"العام" فعلّق البقاعي على ذلك في تفسيره بقوله "وعبّر بلفظ {سنة} ذماً لأيام الكفر، وقال: {إلا خمسين} فحقق أن ذلك الزمان تسعمائة وخمسون من غير زيادة ولا نقص مع الاختصار والعذوبة، وقال: {عاماً} إشارة إلى أن زمان حياته عليه الصلاة والسلام بعد إغراقهم كان رغداً واسعاً حسناً بإيمان المؤمنين وخصب الأرض".
فجاءت السنَة في سياق الحديث عن رحلة الدعوة الطويلة لنوح لقومه مع ما صاحبها من معاناة وصدّ ورفض، بينما جاءت لفظة العام في الأعوام الأخرى التي انتهى فيه نبي الله نوح من مجادلة قومه بعد أن آمن به قلّةٌ منهم.
ويتبين مما سبق أن الفرق بين السنة والعام يجعل من اللفظين مترادفين ومتضادين في آن واحد حسب سياقات الاستعمال. وأضاف بعض المعجميين فروقا معنوية أخرى لا تقل أهمية، وكان من أهمّها ما أشار إليه الجواليقي وهو ينبه إلى أن عامة الناس يميلون إلى استعمالهما استعمالًا واحدًا أي مترادفًا. ويقول الجواليقي في هذا السياق "ولا يفرق عوام الناس بين السنة والعام ويجعلونهما بمعنى. ويقولون لمن سافر في وقت من السنة أي وقت كان إلى مثله: عام، وهو غلط، والصواب ما أخبرت به عن أحمد بن يحيى أنه قال: السنة من أول يوم عددته إلى مثله، والعام لا يكون إلا شتاء وصيفا".
ويشير هذا التمييز الإضافي إلى ارتباط العام في الاستعمال العربي القديم بفصلين من فصول السنة فقط هما الشتاء أو الصيف، فالأول يشير إلى هطول المطر بما يعنيه ذلك من سقي وري للأرض والزرع، والفصل الثاني يشير إلى الحصاد بما يعنيه ذلك من محصول وخيرات وغلال يتمتع بها الناس.
الفرق بين الحول والعام والسنة
يأتي الحول في معناه العام دالًا على السنة وقد جاء في لسان العرب لابن منظور أن الحول هو "السَّنَةُ ويجمع على: أحْوالٌ وحُؤولٌ وحُوُولٌ. وحالَ الحَوْلُ: تَمَّ، وأحالهُ اللّهُ تعالى. وحالَ عليه الحَوْلُ حَوْلاً وحُؤولاً: أتَى. وأَحَالَ الشيءُ واحْتَالَ: أَتَى عَلَيْهِ حَوْلٌ كَامِلٌ، وأحالَ بالمكانِ: أقامَ به حَوْلاً، كأَحْوَلَ به، وأحالَ الحَوْلَ: بَلَغَه، وأحالَ الشيءُ: تَحَوَّلَ، كحالَ حَوْلاً وحُؤولاً".
وإلى جانب هذا المعنى العام استنتج الفقهاء والمفسرون من استخدامات كلمة "الحول" في القرآن أنها تختلف عن السنة والعام من حيث أنها تقل عنها زمنيًا. واعتبر هؤلاء أن مدّة الحول هي عشرة أشهر ونصف بناءً على عملية حسابية مستنتجة من الجمع بين معاني ثلاث آيات قرآنية ورد في اثنتين منها هذا اللفظ في القرآن:
- الآية الأولى: قوله تعالى (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ) البقرة: 240.
- الآية الثانية: قوله تعالى (وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ) البقرة: 233.
- الآية الثالثة: قوله تعالى (وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا) الأحقاف 15.
وقد أضاف العلماء لفهم مدة الحول آية "وحمله وفصاله ثلاثون شهرا" فنقصوا مدة الحمل أي تسعة أشهر من الأشهر الثلاثين، فتبقى 21 شهرًا، أي مدة الحولين اللذين أوصى الله بهما في الرضاعة، وبقسمتها على اثنين تعطي عشرة أشهر ونصف، وهي مدة الحول الواحد.
أما السنة فقد تميزت عن الحول بأنها مرتبطة بالأساس بكمالها أي اثني عشر شهرًا، لكن ما يجعلها مختلفة عن العام والحول معًا فهو دلالتها على معاني الشّدة والضّيق والقحط. وقد ورد في القواميس أن من معاني السنة القحط والجدب. وعرّفها ابن منظور بمعنى الجدب والجفاف فقال فيها "والسَّنةُ مُطْلَقَةً: السنةُ المُجْدِبةُ، أَوْقَعُوا ذَلِكَ عَلَيْهَا إِكباراً لَهَا وَتَشْنِيعًا وَاسْتِطَالَةً. يُقَالُ: أَصابتهم السَّنَةُ، وَالْجَمْعُ مِنْ كُلِّ ذَلِكَ سَنَهاتٌ وسِنُون". كما أكد المعنى ذاته بقوله "والسَّنةُ: الأَزْمة، وأَصل السَّنَة سَنْهة بِوَزْنِ جَبْهةٍ، فَحُذِفَتْ لَامُهَا وَنُقِلَتْ حَرَكَتُهَا إِلَى النُّونِ فَبَقِيَتْ سَنَةً، لأَنها مِنْ سَنَهَت النخلةُ وتَسَنَّهَتْ إِذَا أَتى عَلَيْهَا السِّنونَ".
وتأكد معنى الأزمة والقحط في القرآن الكريم الذي أورد لفظ السنة والسنين في سياقات العقاب والعذاب لبعض الأقوام كما هو مروي في سورة يوسف على سبيل المثال.
أمّا العام فقد جاء لفظًا مرتبطًا بدلالات الفرج والرخاء والتحصيل في نهاية الموسم. وربط بعض المعجميين بين العام وبين فصلي الشتاء والصيف، وهذا ما نقله الأزهري في كتابه "تهذيب اللغة" نقلًا عن الليث الذي عرّف العام بأنه "حول يأتي على شتوة وصيفة". وانتبه أبوهلال العسكري في كتابه "معجم الفروق اللغوية" بناء على ربط العام بالشتاء والصيف إلى أن "العام أخصّ من السنة. وليس كل سنة عاما. فإذا عددت من يومٍ إلى مثله فهو سنةٌ. وقد يكون فيه نصف الصيف، ونصف الشتاء. والعام لا يكون إلا صيفًا أو شتاءً متوالين".
وبناءً إذن على المقارنة بين الحول والسنة والعام يمكن تمييز كل لفظ منهما بجزئية معنوية خاصة كما يلي:
- السنة تأتي في سياق القحط والمعاناة والشدة
- العام يأتي في سياق الفرج ونهاية الأزمات.
- الحول يأتي ناقصا لا يبلغ نصاب اثني عشر شهرا.
لكن اختلافاتها الدلالية الرفيعة لا تعني أنها قد تستعمل الاستعمال المعنوي العام الذي لا يميز بين كل هذه السياقات مثلما هو الحال عند مستعملي اللغة العربية من المعاصرين الذين لا ينتبهون كثيرًا إلى هذه الفروقات ويستعملون الألفاظ الثلاثة في سياق ومقام متشابه.
اقرأ/ي أيضًا:
هل هناك فرق بين العدل والمساواة؟
هل هناك فرق بين الحياء والخجل؟