تحقيق مسبار
تتعامل اللغات الطبيعية مع محيطها بمقاربات نحوية مختلفة. وتُعد مسألة تعبير اللغات عن الجنس من بين السمات اللسانية البارزة التي تشترك فيها جُل الأنساق اللغوية، غير أن هذا التعبير يختلف من نسق إلى آخر، بين لغات يظهر فيها التأنيث والتذكير وأخرى تُضْمره، وثالثة تتساهل فيه وتجُيز لبعض الألفاظ الصفتين معاً.
وتُعتبر اللغة العربية من بين اللغات التي تتعامل بشكل فريد مع مسألة التأنيث والتذكير، بالنظر إلى أنه يظهر بعلاماته أحياناً، ويختفي أحياناً أخرى، ويكون محسوماً في بعض الألفاظ، بينما يجوز تنويعه في ألفاظ أخرى.
ومن بين الكلمات العربية التي تُثير هويتها الجنسية التساؤل لدى الناطقين بلغة الضاد نجد كلمة "البطن". تُجيبك إذاً هذه المقالة عن الأسئلة الآتية: هل البطن مُذكّر أم مُؤنث؟ وما الدلالات التي تحملها هذه الكلمة؟ وما قاعدة تذكير أو تأنيث أعضاء الجسم؟
معنى لفظ "البطن"
البطن: خِلاف الظهر، والجمع بُطون وأبْطن، والبطْن دون القبيلة، وبطًن الشيء يبطن من باب قتل: خلاف ظهر، فهو باطن، وبطًنْتُه أبطنه: عرفته وخبرت باطنه. والبِطانة: خلاف الظٍّهارة. وبطِن فهو مبطون: عليل البطن. فالبطن خلاف الظهر، تقول بطَنتُ الرجل إذا ضربت بطنه وباطن الأمر: داخله خلاف ظاهره. واللّه تعالى هو الباطن لأنّه بَطَن الأشياء خبراً، تقول بطَنْتُ هذا الأمر إذا عرفت باطنه. والبطين: العظيم البطن. والمبطون: العليل البطن. والمِبْطان: الكثير الأكل. والبٍطان: بطان الرّحْل وهو حزامه، وذلك أنّه يلي البطن. ومن هذا الباب قولهم لدُخلاء الرجل الّذين يبطنون أمره: هم بِطانته، وورد في قوله تعالى: {لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ} [آل عمران : 118].
وتشترك هذه المشتقات والمعاني المعجمية كلها في الدلالة على ما يُقابل الظهور وخلافه. ومادام باطن بدن الحيوان هو المعدة لوقوعها في وسط الجسم ولخلو داخلها ولكونها ذات مدخل ومخرج: أُطلق عليها البطن، ولذلك أيضاً أطلقوا لفظ الظهر على ما وراءها، وفي هذا السياق المعنوي أيضاً أُطلق لفظ البطن على ما دون القبيلة، لكونه في باطن القبيلة أو في بطنها وداخلها. ويدل هذا على أن البطن المقصودة في مقالنا، والتي هي الجزء الداخلي من البدن تعتبر المدخل المعجمي الرئيسي إلى جانب كل المشتقات الدالة على معاني الاختفاء.
البطن في القرآن
وقد ورد لفظ البطن في القرآن بصيغ عديدة تتراوح بين المعنى الجسدي والمعاني المتعلقة بالاختفاء والتواري. ومن معاني الاختفاء ما جاء في قوله تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} [الأنعام : 151]. أي ما ظهر من الأعمال القبيحة وما خفي منها في أعين الناس. ومثله ما ورد في قوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ } [الأعراف : 33]. وجاء كذلك في قوله تعالى: {وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ} [الأنعام : 120]. ويمكن الاستشهاد أيضاً في هذا المعنى بقوله تعالى: {وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً} [لقمان : 20].
ووردت المشتقات الأخرى في المعنى الجسدي في آيات أخرى عديدة منها قوله تعالى: {يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ} [النور : 45] ، {نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي} [آل عمران : 35] ، {مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ } [النحل : 78] ، {مِمَّا فِي بُطُونِهِ} [النحل : 66] ، {فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ} [الأنعام : 139] ، {مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ} [البقرة : 174] . لكن كل هذه الأمثلة لا يظهر على جلها التأنيث أو التذكير بالنسبة لكلمة البطن التي نتحدث عنها.
التأنيث والتذكير في العربية
من فرائد اللغة العربية أنّ المؤنث والمذكر فيها أنواع لا نوع واحد. ويستمد اللفظ، حسب هذه الأنواع، تذكيره أو تأنيثه من ذاته أو من غيره، وتتمثل هذه الأنواع فيما يلي:
- المُذكّر والمُؤنث الحقيقي: وهو الاسم الدال على مُذكّر من أجناس الناس والحيوان، مثل غلام وثُعْلُبان. أو الاسم الدال على مُؤنث من أجناس الناس والحيوان، مثل بنت وأَتان.
- المُذكّر والمُؤنث المجازي: وهو اللفظ الدال على شيء ليس فيه مُذكّر ومُؤنث، فيُعامل بعضه معاملة المُذكّر الحقيقي وهو تذكير مجازي مثل: بيت وكتاب، أو يُعامل معاملة المُؤنث الحقيقي وهو مجازي مثل: دار وصحيفة.
- المؤنث اللفظي: وهو كل اسم فيه إحدى علامات التأْنيث وهي التاء المربوطة والألف المقصورة والألف الممدودة، ودل على مُذكّر مثل: طلحة وزكرياء وبشرى (اسم رجل). ويُعامل معاملة المُذكّر في الضمائر والإِشارة وغيرهما.
- المؤنث المعنوي: وهو ما خلا من إحدى علامات التأنيث مثل: سعاد وهند وشمس ورِجْل، ويُعامل معاملة المؤنث الحقيقي في الضمائر والإِشارة والموصولات.
هل البطن مذكر أم مؤنث؟
أين تتموقع كلمة "البطن" إذاً بين كل هذه الأنواع من التذكير والتأنيث؟ هل البطن مُذكّر أم مؤنث؟ لا توجد قاعدة ناظمة لتذكير أو تأنيث أعضاء الجسم، وإنّما هي خاضعة للسماع، أي لما تم تناقُله سماعياً عن الناطقين باللغة العربية بمختلف لهجاتها من الأزمنة الغابرة حتى عصور التدوين وتقعيد اللغة العربية.
وقد ورد في لسان العرب (البطن - من الإنسان وسائر الحيوان: معروف، خلاف الظهر، مذكر، وحكى أبو عبيدة أن تأنيث البطن لغة. وقال ابن بري: شاهِدُ التذكير في البطن: قول الشاعرة ميّة بنت ضرار:
يطوي إذا ما الشح أبهم قفله ** بطناً من الزاد الخبيث خميصا.
وبناءً على ما نقله ابن منظور في "لسان العرب" فإن الأصل في لفظ البطن هو التذكير، أمّا تأنيث البطن فيُعتبر حالة استثنائية، وردت في لغة من لغات العرب، أي من لهجاتها القديمة، التي لا تعد مرجعية.
جسم الإنسان بين التذكير والتأنيث
بناءً على ما ذكرنا سابقاً حول عدم خضوع تذكير أو تأنيث أعضاء الجسم لقاعدة مُنضبطة، واعتماد السماع بدلاً من القياس فيها، فإنّ أعضاء الجسم تنقسم حسب التذكير والتأنيث إلى ما يلي:
- ما يُذكّر من أعضاء جسم الإنسان: البطن، الثغر، الثدي، الجبين، الجفن، الخد، الخصر، الذقن، الرأس، الساعد، الشعر، الظهر، الفم، القفا...
- ما يُؤنّث من أعضاء جسم الإنسان: الأذن، الإصبع، الذراع، الساق، السِّنُّ، الضلع، العين، الفخذ، القدم، الكرش، اليد، الكف...
ويمكن أن نختم بنكتة لطيفة من لطائف اللغة العربية في إطار جوابنا على سؤال هل البطن مذكر أم مؤنث؟ إذ إنّ هناك من يُورد قاعدة خاصة بتذكير وتأنيث أعضاء الجسم تُفيد أنّ كل ما كان من هذه الأعضاء اثنتين كالعينين واليدين يُؤنث، وما كان واحداً كالرأس يُذكّر.
اقرا أيضاً:
هل هناك فرق بين العدل والمساواة؟
هل هناك فرق بين السنَة والعام؟