تحقيق مسبار
يقترب فصل الشّتاء ببرده وأمطاره، وتقترب معه أجواءه التي يراها البعض مُوحشة، بينما يرى فيها آخرون مشاهد الرومانسية والدفء. وبين هذا الدفء وتلك الوَحْشة يحتار البعض في وصف الشتاء بالمذكر أم المؤنث، لذلك تزداد الحاجة إلى التّوقف وقفةً علميةً عند لفظة "شتاء" لتَبيُّن دلالاتها واشتقاقاتها، وتحديد هويتها واستعمالاتها.
تُقدّم لك هذه المقالة أهم المعاني التي تحملها كلمة "شتاء"، وتعرض عدداً من شواهدها القرآنية والشّعرية، لتُجيبك عن سؤال يطرحه الكثيرون: هل الشتاء مذكّر أم مؤنّث؟
معنى الشتاء في المعاجم
يُفيد المُعجم الوسيط أنّ اسم "الشتاء" يُشتقّ من الجذر "شَتَا". "شتا بِالْمَكَانِ شتْواً" أَقَامَ بِهِ شتاءً، والشتاء برد، وَالْيَوْمُ اشْتَدَّ برده، وَالسَّمَاء أمْطرت فَهُوَ شاتِ. ويعرِّف هذا المعجم الشّتاء بأنه "أحد فُصُول السّنة الْأَرْبَعَة يَبْتَدِئ جغرافياً فِي الثَّانِي وَالْعِشْرين من ديسمبر وَيَنْتَهِي فِي الْحَادِي وَالْعِشْرين من مارس، كما يحمل معنى القحط والمجاعة".
وفي معجم "لسان العرب" لابن منظور يُعرّف الشِّتَاءُ بأنه "أَحد أَرباعِ السَّنَةِ، وَهِيَ الشَّتْوة، وَقِيلَ: الشِّتاءُ جَمْعُ شَتْوةٍ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: وجمعُ الشِّتاء أَشْتِية. قَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ: الشِّتاءُ اسمٌ مُفْرَدٌ لَا جمعٌ، بِمَنْزِلَةِ الصَّيْفِ لأَنه أَحد الْفُصُولِ الأَربعة، ويدلُّك عَلَى ذَلِكَ قولُ أَهلِ اللُّغَةِ أَشْتَيْنَا دخَلْنا فِي الشِّتاء، وأَصَفْنا دخَلْنا فِي الصَّيْفِ، وأَما الشَّتْوةَ فَإِنَّمَا هِيَ مَصْدَرُ شَتَا بِالْمَكَانِ شَتْواً وشَتْوةً لِلْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ، كَمَا تقولُ: صافَ بِالْمَكَانِ صَيْفاً وصَيْفةً وَاحِدَةً، وَالنِّسْبَةُ إِلَى الشتَاء شَتْويٌّ، عَلَى غَيْرِ قِيَاس".
وفي معجم "متن اللغة" يعرَّف الشّتاء بأنه "أحد أرباع السنة".
معايير التذكير والتأنيث
إذا كانت جُلّ تعريفات الشتاء المُعجمية تصُب في دلالته على فصل من فصول السنة، فإنّ تحديد جنس الشتاء مُذكّراً لم مؤنثاً يجب أن يمرّ أولاً عبر فهم قواعد التذكير والتأنيث في اللغة العربية. ويُمكن التمييز بين المُذكّر والمُؤنث في اللغة العربية كما يلي:
- المُذكر هو ما خلا من علامة التأنيث، لفظاً وتقديراً، وهو على ضربين: أحدهما حقيقي، والآخر غير حقيقي. فأمّا الحقيقي، فما كان له فرج الذكر، نحو: الرجل والجمل. وأمّا غير الحقيقي، فما لم يكن له ذلك، نحو: الجدار والعمل.
- المُؤنث ما كانت فيه علامة التأنيث، لفظاً أو تقديراً، وهو على ضربين حقيقي وغير حقيقي. فأمّا الحقيقي فهو ما كان له فرج الأنثى؛ نحو المرأة والناقة. وأمّا غير الحقيقي، فما لم يكن له ذلك، نحو: القِدْر والنّار. وهو أيضاً على ضربين: أحدهما مَقيس، والآخر غير مَقيس.
- المُؤنث المَقيس: ما كان فيه علامة التأنيث لفظاً، وعلامة التأنيث على ضربين: أحدهما ألف، والآخر تاء، فأمّا الألف، فعلى ضربين: أحدهما ألف مقصورة، نحو: حُبلى وبُشرى. والآخر ألف ممدودة، نحو حمراء وصحراء. وأما التاء، فنحو: ضاربة وذاهبة.
- المؤنث غير المَقيس، فما لم يكن فيه علامة التأنيث لفظاً، وإن كانت فيه تقديراً، وقد جاء ذلك في كلامهم كثيراً، فمن ذلك السماءُ التي تُظِلّ الأرض، مؤنثة. قال تعالى: "والسماء وما بناها ". والأرض التي تُظِلّها السماء، مؤنثة. قال تعالى: "والأرض وما طحاها".
إذا تأمّلنا هذه القواعد التي تحكم التذكير والتأنيث في اللغة العربية وطبّقناها على لفظ "الشتاء"، فقد تُوحي لنا بدخوله في خانة المؤنّث الذي يحتوي على علامة تأنيث هي الألف الممدودة المختومة بهمزة، لكن إذا عُدنا إلى الفعل الذي اشتُقّ منه سنكتشف أنّ الهمزة ليست أصلية ولا دالة على التأنيث، بل هي همزة مُنقلبة عن الواو، من "شتا يشتو".
الشتاء في شواهد القرآن والسنة
وَرَد لفظ الشّتاء في القرآن مرّة واحدة في سورة قريش في قوله تعالى "لإيلاف قريش إيلافهم رحلة الشتاء والصيف".
كما ورد في الأحاديث النبوية الشريفة. فقد أخرج الإمام أحمد بن حنبل - رحمه الله - من حديث أبي سعيد الخدري- رضي الله عنه - عن النبي - عليه الصلاة والسلام - قال: ((الشتاء ربيع المؤمن))، وأخرجه البيهقي - رحمه الله - وغيره وزاد فيه: ((طال ليله فقامَه، وقَصُر نهارُه فصامَه)). يقول ابن رجب الحنبلي - رحمه الله - في كتابه النفيس (لطائف المعارف فيما لمواسم العام من الوظائف): إنّما كان الشتاء ربيع المؤمن؛ لأنّه يرتع فيه في بساتين الطاعات، ويسرح في ميادين العبادات، ويتنزّه قلبه في رياض الأعمال الميسرة فيه.
كما ورد في المسند وعند الترمذي - رحمه الله - عن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((الصيام في الشتاء الغنيمة الباردة)).
لفظ الشتاء في الشواهد الشعرية
ورد لفظ الشتاء في الكثير من الشّواهد الشعرية الجاهلية والأموية والعباسية. ويُمكن أن نستشهد بهذه الأبيات كأمثلة على توظيف هذا اللفظ في الموروث الأدبي العربي:
- قال عمرو بن الأهتم وهو شاعر جاهلي:
ومستَنْبِحٍ بعد الهدوء دعوْتُه وقد حان من نجم الشتاء خُفُوقُ
- وقال الراعي النميري:
فجاءتْ إلينا والدّجى مرجحنّة رغوثُ شتاءٍ قدْ تقوّبَ عودها
- وقال الفرزدق
إذا مَا شِتَاءُ المَحْلِ أمسَى قد ارْتدى بمِثْلِ سَحِيقِ الأُرْجُوَانِ قتامُهَا
- وقال أبو العلاء المعري:
شَتَوْنا وصِفْنا وارتَبَعْنا، فلمْ يدُمْ شِتاءٌ، وزالَ القيظُ عنّا، وناجر
- وقال المتنبي:
وَعِقابُ لُبنانٍ وَكَيفَ بِقَطعِه وَهُوَ الشِتاءُ وَصَيفُهُنَّ شِتاءُ
- وقال ابن الرومي:
وهذا شتاء قد أظل رواقه وجارك جار لا يخاف شتاء
هل الشتاء مذكر أم مؤنث؟
تؤكد قواعد التذكير والتأنيث خُلو لفظ الشتاء مما يدل على تأنيثه من تاء أو همزة تأنيث، وتدل شواهد القرآن والسنة، وشواهد الشعر العربي القديم في السياقات التي استُعمل فيها الشتاء باعتباره مُذكراً لا مؤنثاً. ومن هنا تنطبق عليه قاعدة التذكير الأولى التي أشرنا إليها سابقاً فهو خالٍ من علامة التأنيث، لفظاً وتقديراً، ويدخل الشتاء في نطاق المُذكر غير الحقيقي مثل كل ما ليس له فرج الذكر حسب القاعدة.
وقد نقل صاحب معجم "متن اللغة" عن ابن السِّكّيت قوله: "السنة عندهم اسم لأثني عشر شهرًا، ثم قسّموها نصفين فبدؤوا بأول السنة أول الشتاء لأنه ذكر، والصيف أنثى، ثم جعلوا الشتاء نصفين فالشتوي أوله والربيع آخره، فصار الشتوي ثلاث أشهر والربيع ثلاثة أشهر، ثم جعلوا الصيف ثلاثة أشهر والقيظ ثلاثة". فأكّد ابن السِّكّيت بذلك أن لفظ الشتاء مُذكر، لكنّ قوله أن لفظ الصيف مؤنث، رد عليه المجمع اللغوي للمملكة العربية السعودية في فتواه رقم (1274) مؤكداً أن الصَّيف مُذكَّر كالشِّتاء. وأوضح المجمع في فتواه المذكورة، أن قول ابن السكيت: “وَالصَّيْفُ أُنثى” "لا نجد من وافقه عليه وما يُنقل في المعاجم منسوب إليه. أمّا الاستعمال اللغوي في نصوص اللغة نثرها وشعرها فعلى تذكير الصيف: فالصواب الراجح أن نقول: جاء هذا الصيف حارّاً".
اقرأ أيضاً:
هل هناك فرق بين العدل والمساواة؟