تحقيق مسبار
يحتلّ مفهوم الذكاء العاطفي مكانةً مهمةً اليوم في مجالات التنمية الذاتية وتطوير القدرات. ويعدّ تفسير الذكاء العاطفي علميًا سؤالًا مثيرًا للجدل بين الكثير من المهتمين بعلم النفس والقدرات الإدراكية للدماغ البشري. وعلى الرغم من اعتماد مفهوم الذكاء العاطفي في الكثير من التقييمات المهنية والتعليمية في بعض المجتمعات المعاصرة، إلّا أن خلفيته العلمية والنظرية لا تزال غائبةً عن الكثيرين. فهل يمكن تفسير الذكاء العاطفي علميًا؟ تجيب هذه المقالة عن هذا السؤال، وتحدد أهم النماذج والأطر العلمية التي تناولته، كما تبرز سماته ومقوماته الأساسية.
ما هو الذكاء العاطفي؟
الذكاء العاطفي أو ما يعرف أيضًا باسم الحاصل العاطفي ويرمز له في الإنجليزية بـ( EQ) هو القدرة على فهم واستخدام وإدارة العواطف بطرق إيجابية لتخفيف التوتر والتواصل بشكلٍ فعالٍ والتعاطف مع الآخرين والتغلب على التحديات وتخفيف المواجهات والصراعات. ويساعد الذكاء العاطفي على بناء علاقاتٍ اجتماعيةٍ أكثر متانة، والنجاح في مختلف المجالات كالمدرسة والعمل، وتحقيق الأهداف المهنية والشخصية. كما يساعد الفرد أيضًا على تحقيق نوع من الانسجام مع مشاعره وتحويل النّوايا والأفكار إلى منجزاتٍ واتخاذ قراراتٍ صائبةٍ بشأن ما يهم حياته وأهدافه.
ما هي علامات الذكاء العاطفي؟
يتمتّع بعض الناس بشكلٍ تلقائيٍ بقدرٍ عالٍ من الذكاء العاطفي، بينما يفتقد آخرون هذا النوع من الذكاء أو يتوفرون على معدلات متدنية منه. ويتميز الإنسان الذي يتمتع بالذكاء العاطفي بظهور بعض السمات والعلامات في حياته الاجتماعية واليومية. ويمكن تلخيص هذه العلامات في بروز أربع قدرات أساسية هي:
- إدارة الذات: يتجسد ذلك في القدرة على التحكم في المشاعر والسلوكيات الاندفاعية، وإدارة العواطف بطرق صحية، وأخذ زمام المبادرة، ومتابعة الالتزامات والتكيف مع الظروف المتغيرة، وهي أمور تختلف حسب طبيعة الشخصية.
- الوعي الذاتي: يُمثّل القدرة على تعرّف مشاعر الذات وكيفية تأثيرها على الأفكار والسلوك. إنه يتجسد من خلال معرفة المرء لنقاط قوته وضعفه، وامتلاكه الثقة الكاملة بالنفس.
- الوعي الاجتماعي: يتجسد هذا الوعي من خلال القدرة على التعاطف. ويتمتع صاحبه بالقدرة على فهم مشاعر واحتياجات ومخاوف الآخرين، والتقاط الإشارات العاطفية، والشعور بالراحة اجتماعيًا، والتعرّف على ديناميكيات القوة في مجموعةٍ أو داخل مؤسسةٍ معينة.
- إدارة العلاقات: هذه العلامة تظهر من خلال معرفة كيفية تطوير العلاقات الجيدة والحفاظ عليها، والتواصل بوضوح، وإلهام الآخرين والتأثير عليهم والعمل بشكل جيد في إطار فريق، وإدارة الصراع.
ما هي أهمية الذكاء العاطفي؟
تنبع أهمية الذكاء العاطفي من كونه مهارةً مُكمّلةً للذكاء الفكري أو ما يعرف بحاصل الذكاء (IQ). فالكثير من الأشخاص الذين يتمتعون بمعدلاتٍ عاليةٍ من القدرة الفكرية قد لا يحققون النجاحات المطلوبة في حياتهم الاجتماعية أو علاقاتهم الشخصية أو المهنية. فقد يحصل أصحاب القدرة الفكرية العالية على مراتب أكاديمية أو دراسية عليا، لكنّهم في حاجةٍ أيضًا إلى الذكاء العاطفي لإدارة التوتر والعواطف عند مواجهة التحديات الكبيرة والاختبارات الحاسمة. وتؤكد هذه الحاجة أن هناك تفاعلًا مثمرًا بين الحاصل العاطفي وحاصل الذكاء، ويستطيع الأشخاص الذين يجمعون بين الذكاءين تحقيق نتائج باهرة. كما تبرز أهمية الذكاء العاطفي أكثر في تأثيره على العديد من مجالات الحياة الخاصة والعامة.
ما هي المجالات والجوانب التي ينعكس عليها الذكاء العاطفي؟
يمكن أن يكون تأثير الذكاء العاطفي على حياة الفرد شاملًا لكل مناحيها. ويظهر ذلك أكثر في بعض المجالات والجوانب التي تعتبر من أهم انشغالات المجتمعات المعاصرة مثل:
- المدرسة أو العمل: يساعد الذكاء العاطفي العالي في التغلب على التعقيدات الاجتماعية في أماكن العمل، وقيادة الآخرين وتحفيزهم على التفوق في حياتهم المهنية. وأصبحت العديد من الشركات الآن تصنّف الذكاء العاطفي كأحد المعايير الرئيسية في اختيار الموظفين، وتوظف اختبار الذكاء العاطفي قبل التوظيف.
- الصحة الجسدية: إن الفشل في إدارة العواطف يعني أيضًا احتمال الفشل في إدارة التوتر والضغط النفسي، وهذا يمكن أن يؤدي إلى مشاكل صحية خطيرة، إذ يزيد التوتر النفسي غير المتحكم فيه من ضغط الدم ويضعف جهاز المناعة، ويزيد من خطر الإصابة بالنوبات القلبية والسكتات الدماغية ويسرّع عملية الشيخوخة. ولهذا تعتبر إدارة التوتر أول خطوة في تحسين مستوى الذكاء العاطفي.
- الصحة العقلية: تؤثر العواطف والتوتر غير المتحكم فيه أيضًا على الصحة العقلية، مما يجعل الإنسان عرضةً للقلق النفسي والاكتئاب. وإذا كان الفرد غير قادرٍ على فهم عواطفه الشخصية أو الانسجام معها أو التحكم فيها، فسوف يُصعّب ذلك من قدرته على تكوين علاقاتٍ اجتماعية، ويدفعه إلى الوحدة والعزلة.
- العلاقات الاجتماعية: يساعد فهم المشاعر ومعرفة كيفية التحكم فيها في تسهيل التعبير عنها، وفهم ما يشعر به الآخرون. ويتيح ذلك التواصل بشكل أكثر فعالية وإقامة علاقات أقوى، سواء في العمل أو في الحياة الشخصية.
هل يمكن تفسير الذكاء العاطفي علميًا؟
تطرح هذه المهارات العاطفية العديدة التي ترتبط بمفهوم الذكاء العاطفي الكثير من الأسئلة عن مدى استنادها إلى نظرياتٍ ودراساتٍ علمية. وتزداد هذه التساؤلات بعد أن تحوّل تحسين الذكاء العاطفي للأفراد إلى خدمةٍ تقدّمها الكثير من المراكز المتخصصة في مجالات التنمية الذاتية. ويمكن من خلال جرد تاريخ نظرية الذكاء العاطفي التحقّق من هذه المرجعية العلمية المندرجة بالأساس في إطار أبحاث علم النفس. وبدأت نظرية الذكاء العاطفي أول مرة مع العالمين بيتر سالوفي وجون ماير سنة 1990 الذين اعتبرا أن الذكاء العاطفي هو أحد مكونات منظور غاردنر للذكاء الاجتماعي.
وافترض سالوفي وماير على غرار ما يسمى بالذكاء "الشخصي" الذي اقترحه غاردنر، أن الذكاء العاطفي يتضمّن وعيًا بالذات والآخرين. ويتعلق أحد جوانب مفهوم غاردنر للذكاء الشخصي "بالمشاعر"، وهذا الجانب يقارب ما تصوّره سالوفي وماير. ويتجلى الفرق بين الذكاء العاطفي الذي اقترحه سالوفي وماير والذكاء الشخصي الذي تحدث عنه غاردنر في كون الذكاء العاطفي لا يركز على الإحساس العام بالذات وتقييم الآخرين، بل يركز على التعرف على الحالات العاطفية للذات والآخرين واستخدامها من أجل حل المشاكل وتنظيم السلوك. وتعتبر هذه النظرية المؤسِّسة أكبر دليلٍ على أن الذكاء العاطفي يمكن تفسيره علميًا، لكن هذه التفسيرات تعززت بالمزيد من النماذج والاختبارات العلمية التي ظهرت لاحقًا.
ما هي النماذج العلمية المفسِّرة للذكاء العاطفي؟
إذا كان الذكاء العاطفي قائمًا على تصورٍ علميٍّ فهذا يعني أنه يمكن التحقق منه من خلال نماذج واختبارات دقيقة ومحددة. وقد ظهرت في هذا السياق العديد من النماذج العلمية التي يمكن إيجازها فيما يلي:
- نموذج أداء غولمان: حسب دانييل غولمان، فإن الذكاء العاطفي عبارة عن مجموعةٍ من المهارات والكفاءات التي تركز على أربع قدرات: الوعي الذاتي وإدارة العلاقات والوعي الاجتماعي. ويعتبر غولمان أن هذه القدرات الأربع تشكل أساسَ اثنيْ عشرَ "نطاقًا فرعيًا" من الذكاء العاطفي.
- نموذج كفاءات "بار أون" للذكاء العاطفي: طرح بار أون اقتراحًا بأن الذكاء العاطفي هو نظام للسلوك المترابط ينشأ من الكفاءات العاطفية والاجتماعية. ويدافع بار أون عن فكرة مفادها أن هذه الكفاءات لها تأثير على الأداء والسلوك. ويتكون نموذج بار أون للذكاء العاطفي من خمسة مقاييس تشمل: الإدراك الذاتي والتعبير عن الذات والتعامل مع الآخرين واتخاذ القرار وإدارة الإجهاد.
- نموذج ماير وسالوفي ونموذج قدرة الذكاء العاطفي لكاروزو: يشير هذا النموذج إلى أن المعلومات من الفهم المدرك للعواطف وإدارة العواطف تُستخدم لتسهيل التفكير وتوجيه صُنع القرار لدى الإنسان. ويؤكد إطار عمل الذكاء العاطفي هذا على نموذج الفروع الأربعة للذكاء العاطفي.
ما هي المقاييس العلمية للذكاء العاطفي؟
توصّل أصحاب النماذج السالفة الذكر إلى صياغة مجموعةٍ من المعايير والمقاييس التي يمكن من خلالها تتبع الذكاء العاطفي علميًا. فطوّر غولمان على سبيل المثال 12 مقياسًا فرعيًا للبحث في الذكاء العاطفي في أوساط الموظفين وتشمل هذه المقاييس ما يلي:
- الوعي الذاتي العاطفي.
- ضبط النفس العاطفي.
- القدرة على التكيّف.
- التّوجه نحو الإنجاز.
- الرؤية الإيجابية.
- التأثير.
- التدريب والتوجيه.
- العطف.
- فضّ النزاعات.
- العمل بروح الفريق الواحد.
- الوعي التنظيمي.
- القيادة الملهمة.
ما هي التطبيقات العلمية لمفهوم الذكاء العاطفي؟
بعد أن ثبت أن الذكاء العاطفي مفهوم علمي نابع من دراسات علم النفس، لا بد من الاستشهاد بأحد التطبيقات العلمية الأشهر التي وظفت هذا المفهوم. فقد اشتغل ماير على هذا المفهوم في مجال التعليم والتعلم. وأثبت ماير من خلال بحثٍ أجراه في 2004 أن هناك علاقة بين الذكاء العاطفي والعلامات التي يحصّلها طلاب الجامعات. وركزت الدراسة على المهام المرتبطة بالجانب العاطفي لدى عينة من 90 طالبًا من طلاب الدراسات العليا في علم النفس، وتم اكتشاف علاقة إيجابية بين التجربة العاطفية وكل من المعدل التراكمي والمستوى الدراسي الجامعي الذي يحققه الطالب.
اقرأ/ي أيضًا: