"كرّر كذبةً بما يكفي وستصبح الحقيقة"، "إذا قلت كذبةً كبيرةً واستمررت في تكرارها، فسيصدّقها الناس في النهاية؛ فالحقيقة هي العدو اللدود للكذب، وبالتالي فإنَّ الحقيقة هي العدو الأكبر للدولة ".
هذه اقتباساتٌ قالها وزير الدعاية النازيّ جوزيف غوبلز في أربعينيات القرن الفائت، وهو الرجل الذي وضع شعبه في ألمانيا تحت ما يشبه السحر لدعم الحزب النازيّ، هكذا تصف سكرتيرته برونهيلد بومسيل في وزارة الدعاية النازيّة صعود الحزب النازيّ بقيادة هتلر وقتها.
وتضيف في واحدة من آخر الحوارات معها قبل وفاتها عام 2017 "شعرت بالرعب لرؤيته على خشبة المسرح في برلين الرياضيّ حين ألقى خطابه سيء السمعة، الحرب الشاملة في فبراير عام 1943. وجلستُ بجانب زميلةً أخرى في مقاعد بجانب الحلَبة، خلف ماجدة جوبلز. كان ذلك بعد وقتٍ قصيرٍ من معركة ستالينغراد، وكان جوبلز يأمل في الحصول على دعمٍ شعبيٍّ لمواجهة التهديدات التي تتعرّض لها ألمانيا، لا يمكن لأيّ ممثلٍ أن يكون أفضل في التحول من شخصٍ متحضرٍ وجادٍّ إلى رجلٍ صاخبٍ. في المكتب كان لديه نوعٌ من الأناقة النبيلة، ثم لرؤيته هناك مثل قزمٍ هائجٍ.. يمكنك فقط تخيّل التباين بين الشخصيتين".
ولكن بهذا التباين والمزاجيّة العالية استطاع غوبلز الذي لم يقبله جيش بلده حين أراد التطوّع في شبابه؛ لتسطّح قدمَيْه، أن يقنعَ شعبه لسنين طويلة أنّ الحرب التي تخوضها ألمانيا مقدّسة، وأنّهم على حق، ولم يقتصر تأثير ما قاله على تلك الحُقبة بل هي نظريّة دعائية لا يزال لها تأثيرها الكبير في السياسة، والحياة اليوميّة، ونراها كلّ دقيقةٍ على وسائل التواصل الاجتماعيّ من نشر المعلومات والقصص والأخبار وتكرارها على أنّها الحقيقة وما هي سوى وَهْم.
وَهْمٌ يزداد أعداد المصدّقين به، ولهذا جاء "مسبار" لمواجهة تطبيقات نظرية غوبلز في الحياة الاجتماعيّة والسياسيّة الاقتصاديّة اليوميّة عبر فحص المعلومات والأخبار، ليصبح استهلاك الحقيقة أسرع من استهلاك الكذب.
وهي ليست بالمهمة السهلة؛ فغالباً ما تصير العقول فريسةً لخداع المعلومات والأخبار التي تتنكَّر بزي الحقيقة، وغالباً لا تتعب هذه العقول في البحث عن صدق ما حولنا، بل تميل إلى استخدام طرقاً مختصرةً في الحكم على مدى معقولية شيءٍ ما، إلى درجة أصبح أغلبنا يطوف على بحرٍ من الحقائق والأكاذيب التي تختلط معاً، ما يجعلنا نتوه.
إنَّ كلّ شيءٍ يبدو معقولاً وحقيقاً، وهنا يجب أن نسأل أنفسنا، هل هذا حقيقيٌّ أم أنّه أصبح كذلك لأنَّه قيل لنا مراراً وتكرارا
ربما تبدو الحقيقة مُملّةً أو صادمةً فلا يُريد الأغلبية معرفتها، وهذا يبدو مروّعاً خاصّةً في وقت الأزمات كما يحدث الآن وسط انتشار وباء فايروس كورونا "كوفيد19"، أو في الماضي حين غرقت العَبَّارة المصريّة عام 2006 في عهد الرئيس المخلوع محمد حسني مبارك، ليأتي دور آلة الدعاية لتمييعٍ متعمدٍ لهموم المواطن، وهو ما اشتُهر في السابق بمسمى "التنفيس"، ليتم تعويض تقديم المعلومات الحقيقيّة بأشياءٍ أخرى سواءً للاستهلاك اليوميّ كالترفيه أو تكرار الكذب بشأن حوادث بعينها.
بل إنّ وسائل التواصل الاجتماعيّ نفسها هي نوع من إخضاع الفرد لمتطلبات الحداثة، وبالتالي لمتطلبات الاستهلاك اليوميّ للمعلومة والخبر والقصة، لنجد أن نظريّة "الأخ الأكبر" والانصياع دوماً إلى ما يقدّمه سواء كان هذا الأخ الدولة أو شركات التكنولوجيا والإعلام هي أساس العلاقة القائمة بين المرسل والمستقبل فتحدّد ما يجب أن يُقَدّم للعالم.
وهو ما تصفه الكاتبة التونسيّة ناهوند عيسى بأنّه تفتيتٌ للبنى الثقافيّة الحقيقيّة إلى ثقافةٍ بصريةٍ مسطحةٍ تعتمد على الآنيّ، مضيفة "هي أيديلوجيا ناعمة لا تعتمد الطاقة الملوثة، ولا ضحايا لجرائمها، ولا أعداء، بل عدوها الوحيد الفتور وعدم الاتصال".
وسواء كان صاحب السلطة عمل بنظرية "التنفيس" أو "الأخ الأكبر"، فجميعها نسخ عن براءة الاختراع الأولى لنظريّة غوبلز "اكذب اكذب حتى يصدّقك الناس".