يمكن لنا كمتابعين لوسائل التواصل الاجتماعي أن نلاحظ مجموعة من الأخبار والصور والفيديوهات التي تنتشر بشكل كثيف عل شاشات هواتفنا، وغالباً ما ترد دون ذكر مصادرها الحقيقية ودون التطرق إلى ماهيتها سواء حقيقية أم زائفة. على صعيد آخر، لنا أن نتخيل مثلاً أن مقالتين إخباريتين تتم مشاركتهما في وقت واحد عبر الإنترنت: الأولى هي قصةٌ حقيقية، لحادثة وقعت ونُشرت بكل تفاصليها، وتم التحقق منها بدقة من قبل منظمة لجمع الأخبار تتمتع بمصداقية – كمؤسسة ذا نيويورك تايمز؛ والثانية هي قصة لحادثة وهمية، كاذبة أو مضللة، ولكن صُمّمت المقالة لتقليد محتوى غرفة أخبار ذات مصداقيةٍ، بدءاً من عنوانها إلى الطريقة التي تمت مشاركتها بها. ولأغراض التمييز بين هاتين المقالتين، نلاحظ أن المقالة الأول - المصممة بطريقة إخبارية مهنية – تحظى باهتمام محدود، والهدف منها هو نشر الحقيقة وإعلام الناس بما يجري في العالم من حوادث؛ بينما الهدف من المادة الثانية، والمصممة للانتشار بشدة، هو جمع التفاعلات والمشاركات لتكون بيئة خصبة للإعلانات فيما بعد. تستغل هذه المقالة عينها الطريقة التي تتعامل بها أدمغتنا مع معلومات جديدة، بالإضافة إلى الطريقة التي تقرر بها وسائل التواصل الاجتماعي ما يُعرض لنا من إعلانات أو عروض، وبهذا فإنها تتسلل عبر الإنترنت وتشيع المعلومات الخاطئة، وفوق هذا تعرّضنا لكمّ هائل من الإعلانات.
هذا ليس تصوراً افتراضياًّ، إذ أنه يحدث يوميًّا في الفضاء الرقمي، عندما ننظر إلى ما تتداوله المجموعات والصفحات والمواقع الإخبارية التي تلهث وراء الإعجابات والمشاركات من أخبار، فقط لتحقيق مكاسب اقتصادية فوق كل شيء. تستفيد هذه الصفحات من موضوع الإعلانات من خلال ربطها بشركات تمتلك حقوق ملكية الإعلانات على منصات التواصل الاجتماعي، فيسبوك مثالاً، بطريقة تتيح لهذه الشركات بثّ إعلاناتها عبر عقود تتمّها مع المؤسسات المسؤولة عن مواقع التواصل الاجتماعي، تضمن شراء مساحات إعلانية على صفحاتها. يعدّ موقع فيسبوك في هذا السياق أكثر المنصات ملاءمةً لأصحاب الفعاليات الاقتصادية، ومروّجي الحملات الانتخابية، أو أيّ نوع من الأعمال التي تستلزم مساحة إعلانية، بشكل أعم، لما يضمنه من سرعة في وصول الإعلانات هذه إلى شاشات المستخدمين، وسهولة في التعامل معها. وبصرف النظر عن قضية التفضيلات وعرض مواد إعلانية تتناسب مع المحتوى الذي يهتم به المستخدم، فإنه كلما زاد عدد التفاعلات على صفحة من صفحات فيسبوك، تكون مرشحة أكثر كأرضية لمواد إعلانية، ولهذا فإن مشرفي هذه الصفحات يسعون وراء الأخبار التي تلفت الانتباه وتجذب عين المتابع، بغض النظر عن دقة المحتوى.
إلا أنه يمكن القول إن اقتصاد الإعلانات عبر الإنترنت، والذي يكمن وراء دعم جزء كبير من التطبيقات الإلكترونية اليوم، انهار بشكل ملحوظ في الآونة الأخيرة، وخاصة بعد جائحة كورونا، بسبب ضعف نشاط الفعاليات الاقتصادية و ركود حركة المال والأعمال في معظم البلدان حول العالم، وإحجامها عن العمل وعدم طرحها لمنتجات جديدة، ما خلق ضعفاً في حركة تبادل النشاط الاقتصادي عبر هذه المواقع. الأمر الذي كلف هذه الصفحات خسارات في عدد المتابعين و التفاعلات، ما اضطرها لتلجأ إلى صناعة الأخبار الكاذبة بهدف الترويج لنفسها من جديد. ولهذا، يجب اليوم فهم صعود ظاهرة المعلومات الخاطئة التي تتم مناقشتها تحت مظلة "الأخبار المزيفة"، في سياق ممارسات السوق غير السليمة، التي يمكن أن تحتفي بالسلوك الخاطئ أو المعلومات المزيفة من أجل الربح الاقتصادي أو المكسب السياسي.
في الوقت الراهن، يحصل معظم الناس على بعض أخبارهم، على أقل تقدير، عبر وسائل التواصل الاجتماعي، معتمدين بذلك على الأخبار التي تحصد أكبر عدد من ردود الأفعال والتعليقات، والتي لا تخضع بحد ذاتها لأي نوع من الرقابة أو المرجعية الأكاديمية أو المهنية. هذه الأخبار، بصيغتها الجذابة، هي ذاتها التي تعتمدها، وتستغلها فعليًّا، الإعلانات التجارية في الوصول إلى أكبر عدد من المتابعين، وبالتالي تحصيل أكبر قدر ممكن من العائدات المالية.
ولزيادة الأرباح من عرض الإعلانات إلى الحد الأقصى، تعرض خلاصاتُ الأخبار واليوميات المحتوى الذي يجذب أكبر قدر من الاهتمام، بغض النظر عن صحته ومصداقيته. وتستغل الإعلانات الأخبار التي تحمل عناوين مغرية عبر إرفاق روابط وصول سريع مع هذه الأخبار، معتمدة بذلك على معلومات متصلة بسيكولوجية المتابعين وسيكولوجية الأخبار بحد ذاتها. وبالربط بين الإعلانات والأخبار الكاذبة، ينتهي الأمر بتفضيل العناوين التي تضجّ بالتفاعلات التي يمكن اختزالها في شكل المشاركات والإعجابات والتعليقات، والتي غالباً ما تمثل "ترندات" واسعة التداول.
تمثل المعلومات الخاطئة عبر الإنترنت تهديداً كبيراً على صحة الصفحات والمحتوى من جهة، وجميع المجتمعات والمتابعين من جهة أخرى، نظراً لاحتمال حدوث اضطرابات سياسية وتقويض لأساسات الحقيقة وتكريس الكراهية والشائعات التي يمكن أن تنتشر في مناطق النزاع. كان رد فعل ألمانيا على المعلومات الخاطئة وخطاب الكراهية عبر الإنترنت، جعلُ منصات وسائل التواصل الاجتماعي مسؤولة وحدها عن إزالة المحتوى غير القانوني، والذي يمثل خرقاً لأهداف الصفحات الالكترونية في المشاركة والتفاعل السليم.
تهدف الإجراءات الحكومية هذه لمعرفة وتقييم الأخطار المحتملة للأخبار الكاذبة في الفضاء العمومي، إلا أن مشكلة الأخبار الكاذبة تتعدى وجهات نظر الجهات الصانعة، وتفاعل المتابعين معها، على اعتبار أننا نواجه مزيجاً من الأخبار غير المرغوب فيها، والبروبغندا الإلكترونية، والمعلومات الملوّثة، والتثقيف الرقمي الضحل. في المقابل، يحاول المطوّرون والناشرون بناءَ مجتمعات أكثر تثقيفاً وتوازناً فيما يتعلق بالأخبار التي يتداولها الجمهور. على سبيل المثال، يعمل "تحالف المصداقية" على مجموعة معايير خاصة بشبكة الإنترنت العالمية لدعم وسائل الكشف عن المحتوى الأقل مصداقية أو غير الموثوق به، فيما تحاول منصات التواصل الاجتماعي جعل الإعلانات السياسية، على الرغم من تأثيرها المحدود، أكثر شفافية. ولا تزال الفرصة سانحة أمام العديد من الأفكار.
ربما المسألة أبعد من مجرد رصد الأخبار الكاذبة وربطها بالإعلانات التجارية، إذ أنه لا يزال يتعين علينا معالجة مشكلة أكبر تتعلق بصحة وسلامة الفضاء العام الإلكتروني، من خلال تفعيل نموذج الإعلان والمشاركة السويّة، والذي يعاقب على إساءة الاستخدام والاحتيال والمعلومات الخاطئة، إلا أنه من الصعب تخيل إصلاح هذه المشكلة بدون إما خطة تنظيمية للوضع الراهن، أو إجراء تغييرات جذرية في نماذج الأعمال التجارية عبر الإنترنت، أو حتى كليهما.
وسواء بصناعة الإعلانات أو ببناء المواقع أو بإنشاء منصات محتوى تجاري أو تثقيفي أو بحثي، فإن طريقة إيصال المعلومات إلى المتابعين والمستخدمين حول العالم تجعلهم، بشكل أو آخر، مساهمين ومبتكرين على الشبكة العنكبوتية. إلا أن مقتضيات الحداثة، وصعود وسائل التواصل الاجتماعي، وتطور تقنياتها، وسهولة الوصول إلى تفصيلات يومية مرتبطة بأحداث سياسية واقتصادية واجتماعية، جعل من الأخبار الكاذبة أساساً يعتمد عليه المستخدمون الخبراء، وأحياناً العاديون، والمروّجون لسلعهم وأعمالهم، من أجل الوصول إلى أكبر عدد المتابعين، دون الالتفات إلى العامل النفسي لهذه الأخبار على المتابعين أنفسهم.
في مقابل هذا الصعود والانتشار الواسع للأخبار، جاءت مواقع التحقق من الأخبار الكاذبة المنتشرة في غالبها على منصات التواصل الاجتماعي والتي لا تخضع لأي من السياسات التحريرية المتعارف عليها في غرف الأخبار المهنية، لتفشي مجموعة من الأسرار حول هذه الأخبار وأساسها ومستقبلها. ولمعرفة كيفية عمل صناعة الأخبار الكاذبة، تعمل هذه المواقع وفق خطة تجعل خوارزميات التحقق التي تتبعها وسائل الإعلام التقليدية غير فعالة أو غير قابلة للتحقيق، لصالح خوارزميات تتبعها هذه المواقع تتغلغل خلالها داخل منصات التواصل الاجتماعي. وتكشف منصات التحقق من الأخبار عن الشائعات ورسائل البريد الإلكتروني المشكوك بأمرها والخدع البصرية التي تكون على شكل صور أو مقاطع فيديو يصعب على المتابع العادي كشفها.
ربما مستقبلاً ستأخذ أبعاداً أوسع، لكن في الوقت الراهن، تتجسد عمليات التصدي للأخبار الزائفة في مجموعة من الخطوات تبدأ بنشر الخبر الصحيح وتفنيد المضلل، أو تفنيد خبر وعدّه كاذباً لعدم وجود دليل على صحته؛ لتمرّ عبر تحصين المستخدمين وتزويدهم بأخبار حقيقية وروابط وصول ومواقع رسمية من شأنها خلق وعي جماعي لدى مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي الذين تأثروا بالأخبار المزيفة و دفعهم للشك في أيّ خبر كان قبل التأكد منه، وقد يتعداه إلى التدخل لإزالة الحسابات الخبيثة التي تتعمد نشر الأخبار المزيفة و الترويج لها عبر حسابات رديفة أو تابعة و عزلها عن المستهلكين في المستقبل.
المراجع:
Advertising on Facebook. International Journal of E-business development, 1(1), 26-33.
Future Skills: Understanding Fake News.
Kane, B., Tworek, L., & Talavera, R. (2007). U.S. Patent Application No. 11/696,499.
The emergence and development of news fact-checking sites: Institutional logics and population ecology. Journalism Studies, 18(3), 376-394.
Fake news detection on social media: A data mining perspective. ACM SIGKDD Explorations Newsletter, 19(1), 22-36.
Defining “fake news” A typology of scholarly definitions. Digital journalism, 6(2), 137-153.