إن تدخّل بعض الدول لتغيير نتائج الانتخابات ليس بأمرٍ جديدٍ، فلطالما سعت الدول العظمى، وعلى رأسها الولايات المتّحدة الأميركية، التدخّل لتغيير ترتيب الخارطة السياسية منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، من أجل الحفاظ على مصالحها، ونفوذها وهيمنتها على النظام العالمي، واستمرّت بذلك عن طريق تمويل حملات انتخابية وتعيين خبراء انتخابيين ونشر الدعاية الكاذبة والمضلّلة لدى مواطني هذه الدول. في السنوات الأخيرة، انتقل جزءاً من جهود الدول للتأثير خارجيّاً على العملية الديمقراطية في الدول الأخرى إلى الفضاء الرقمي، وأصبح تدفّق المعلومات الكاذبة، اختراق بيانات الناخبين وتمويل الحملات الانتخابية الإلكترونية جزءً من استراتيجية التأثير على نتائج الانتخابات.
مؤخّراً، كشفت شركتا فيسبوك وتويتر حملة تأثير يثار الشكوك حولها على أنّها مقرّبة من الحكومة الروسية، استهدف محتواها الناخبين المقرّبين من التيّار اليساري في الولايات المتّحدة وبريطانيا، والتي بحسب مسؤولين في الاستخبارات الأميركية، تُعتبر مقرّبة من الشركة التي هدفت للتأثير على الانتخابات الأميركية عام 2016. من هذا الباب، تسلّط هذه المدوّنة الضوء على التدخّل الرقمي في المعارك الانتخابية في عدّة دول، متّخذةً روسيا وسياساتها في السنوات الأخيرة تجاه حملات انتخابية خارج حدودها نموذجاً، مثل تدخّلها في أوكرانيا، فنلندا، إندونيسيا، إسبانيا، أستراليا، فرنسا، السويد، ألمانيا، وأشهرها الانتخابات الأميركية، وتعرض استراتيجيات الشركات الإعلامية، وتحديداً مواقع التواصل الاجتماعي في مواجهة هذا النوع من التدخّلات.
التدخّل الرقمي الخارجي في السياسات المحليّة – النموذج الروسي
في فبراير/شباط 2018، اتّهم مكتب التحقيقات الفدرالي الأميركي 13 مواطناً روسياً بالتدخّل في الانتخابات الرئاسية في الولايات المتّحدة الأميركية عام 2016، والتّي كان مرشّحاها هيلاري كلينتون ودونالد ترامب، وأعلن مكتب التحقيقات الفدرالي أنّ هذه الحملة هدفت لزرع الفتنة في النظام السياسي الأميركي، عن طريق إنفاق ملايين الدولارات لشراء إعلانات سياسية، شراء فضاءات رقمية أميركية، نشر تعليقات باسم حسابات وهمية أميركية على وسائل التواصل الاجتماعي وإنشاء حسابات الكترونية، إضافةً لإنشاء مجموعات نقاشية على هذه المنصّات، جميعها بهدف تشويه سمعة وإضعاف فرص هيلاري كلينتون بالفوز. في ظل استخفاف الحكومة الروسية بهذه الاتّهامات، لم تكُن هذه المرّة الأولى التي تزداد الشبهات تجاه دور روسيا وحكومتها في التدخّل الرقمي في عمليّات ديمقراطية في دول أخرى، حتّى قبل تدخلّها في الولايات المتّحدة. فخلال المعركة الانتخابية على الرئاسة في أوكرانيا عام 2014، وبعد المظاهرات التّي اندلعت في الدولة الّتي كان أحد مطالبها التقرّب من الاتّحاد الأوروبي، ارتبط اسم روسيا في قرصنة بيانات لجنة الانتخابات المركزية الأوكرانية وحذف ملفّات رئيسية، إضافةً لزرع فايروس من شأنه تغيير نتائج الانتخابات لصالح مرشّح من تيّار اليمين المتطرّف هناك، وقد قامت الوسائل الإعلامية الرسمية الروسية والحسابات الآلية والوهمية على وسائل التواصل الاجتماعي، بنشر القصص الكاذبة عن أوكرانيا من أجل زعزعة ثقة الأوكرانيين في المرشّحين، أمّا عام 2017 في فرنسا، ارتبط مجدّداً اسم روسيا في نشر الأخبار الكاذبة عن الرئيس الفرنسي، والمرشّح آنذاك، إيمانويل ماكرون، وقد نشر موقع رويترز تقريراً حصريّاً عن محاولة التجسّس على مسؤولي الحملة الانتخابية الخاصة بماكرون من قبل عناصر مخابرات روسيّة عن طريق إنشاء أكثر من عشرين حساب وهميّ على منصّة التواصل الاجتماعي فيسبوك، وقد أعلنت "فيسبوك" حينها أنّها اتّخذت إجراءات ضد هذه الحسابات وسط نفي روسي مستمر. وفي عام 2017، أعلنت الحكومة الإسبانية أنّ بحوزتها معلوماتٍ استخباراتية تُشير إلى أن جماعات مرتبطة بالحكومة الروسية نشرت معلومات مضلّلة على مواقع التواصل الاجتماعي من أجل التأثير على الاستفتاء الشعبي حول استقلال كتالونيا عن إسبانيا، بهدف زعزعة الاستقرار وإثارة الفوضى الاجتماعية هناك، بشكلٍ يفقد الشعب الإسباني الثقة بالاتّحاد الأوروبي، وقد أُشيع عام 2019 أنّ مجموعة روسية كانت مسؤولة عن نشر الأخبار الزائفة والمضلّلة من أجل التأثير على انتخابات البرلمان الأوروبي، وفق المفوضيّة الأوروبية، والّتي أعلنت عن أدلّة تدعم تورّط روسيا في نشر المحتوى الّذي يشككك بالعملية الديمقراطية في الاتّحاد الأوروبي إضافةً لإثارة نقاشات عن مواضيع جدليّة، وفق أقوالهم. ولم تقتصر التدخّلات الخارجية الروسية على القارّة الأوروبية فحسب، فقد اتّهمت روسيا بالتدخّل الرقمي في الانتخابات في إندونيسيا عام 2019 عن طريق تشويه الحقائق ونشر الأخبار الكاذبة، ما نفته روسيا بشكلٍ قاطعٍ، إضافةً لتدخّلها في السياسة الداخلية الأسترالية، وفي عام 2019، خطّط مختصّون روس للتأثير على الانتخابات في جنوب أفريقيا، لصالح الحزب الحاكم عن طريق تشويه سمعة الحزب الديمقراطي المنافس والمقرّب من الغرب.
وسائل التواصل الاجتماعي في مواجهة التدخّلات الخارجية
انتشر في يوليو/تموز الفائت، بحث علمي بعنوان Content-based features predict social media influence operations، يدرس التمييز بين عمليّات التأثير الممنهجة في الفضاء الرقمي، وتحديداً في وسائل التواصل الاجتماعي، وبين المحتوى الأصلي والحقيقي، عن طريق تحليل واختبار بيانات موقع تويتر عن الحسابات الصينية والروسية والّتي تستهدف السياسة الداخلية في الولايات المتّحدة، ويطرح هذا البحث آلية للعثور المبكّر على حملات تضليل وتدخّل خارجي في السياسات المحلية للدول، عن طريق كشف أنماط عمل حسابات وهمية وآلية، على سبيل المثال، الحسابات والمواقع التي تنشر مُحتوى غير متطابق مع العنوان أو الصورة الرئيسية، ويُعتبر هذا البحث إضافة لجهود وسائل التواصل الاجتماعي للحد من هذه الظاهرة، فقد نشر موقع فيسبوك خطّته قبيل الانتخابات الرئاسية الأميركية تحت عنوان "كيف يساعد فيسبوك في حماية الانتخابات الأميركية 2020"، تهدف بالأساس الحد من ظاهرة الأخبار الزائفة والمضلّلة، والتحقّق من الدعايات الانتخابية المنتشرة على الموقع، عن طريق إثبات وجود ناشري الإعلانات في الدولة التي يريدون العرض منها، إضافةً لنشر مصدر التمويل على هذه الإعلانات، إضافةً لإزالة وإيقاف ملايين الحسابات الوهمية والمزيّفة، وقد أعلن "تويتر" عام 2019 أنّه سيحظر جميع الإعلانات السياسية كما أنّه لم يتساهل في الإعلان عن عدم دقّة تغريدات الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، كجزء من استراتيجيّته للحد من انتشار الأخبار الزائفة والمعلومات المضلّلة، على عكس "فيسبوك" والّذي أعلن مؤسسّه، مارك زوكربرغ، عام 2019، أنّه لن يُخضع الخطاب السياسي للرقابة.
لكن على الرغم من هذه الجهود، يعتقد المحللين والخبراء في هذا المجال، أنّه تقع على مواقع التواصل الاجتماعي مسؤولية وجهد أكبر في الوقت الحالي، حيث تطوّرت تقنيات نشر الأخبار الزائفة والمضلّلة، وتحديداً المتعلّقة بالدعاية الانتخابية، فلقد أصبح الخبراء في حملات التأثير والتدخلات الخارجية الرقمية أفضل في إخفاء نشاطهم الرقمي عن طريق تجنّب الحسابات والرسائل المموّلة كما كان في عام 2016، على سبيل المثال انتحال صفات صحفيين وخبراء سياسيين من أجل إضفاء مصداقية على المحتوى المتداول من قبلهم، كما أنّه استغلال نشر الصور ومقاطع الفيديو والّتي من الصعب التحقق من أصولها، إضافةً، أصبح العديد من السياسيين والمرشّحين ينشرون محتوى يحتوي على مزيج بين الحقيقة والتضليل، ممّا يصعّب عمليّة تصنيفها وحظرها.
المصادر