أصدر الرئيس التونسي قيس سعيّد في الجريدة الرسمية، بتاريخ 13 سبتمبر/أيلول 2022، المرسوم عدد 54 والمتعلق بمكافحة الجرائم المتصلة بأنظمة المعلومات والاتصال.
ومنذ نشره، أحدث المرسوم جدلًا واسعًا في الأوساط الحقوقية والصحفية، إذ اعتبرت أنّه يهدّد حرية التعبير والخصوصية في البلاد ويؤسس للرقابة الذاتية، مع مخاوف من انزلاق البلاد نحو دكتاتورية لا تُحترم فيها حقوق الإنسان.
يتكون المرسوم من خمسة أبواب، ستهتم المدونة بالباب الثالث "في الجرائم المتّصلة بأنظمة المعلومات والاتصال" وتحديدًا "القسم الفرعي الثالث: في الإشاعة والأخبار الزائفة".
ينص الفصل 24 المتعلق بالإشاعة والأخبار الزائفة، أنّه "يعاقب بالسجن مدة خمسة أعوام وبخطية قدرها خمسون ألف دينار كل من يتعمد استعمال شبكات وأنظمة معلومات واتّصال لإنتاج أو ترويج أو نشر أو إرسال أو إعداد أخبار أو بيانات أو إشاعات كاذبة أو وثائق مصطنعة أو مزورة أو منسوبة كذبًا للغير بهدف الاعتداء على حقوق الغير أو الإضرار بالأمن العام أو الدفاع الوطني أو بث الرعب بين السكان".
وجاء في الفصل ذاته "يعاقب بنفس العقوبات المقررة بالفقرة الأولى كل من يتعمد استعمال أنظمة معلومات لنشر أو إشاعة أخبار أو وثائق مصطنعة أو مزورة أو بيانات تتضمن معطيات شخصية أو نسبة أمور غير حقيقية بهدف التشهير بالغير أو تشويه سمعته أو الإضرار به ماديًّا أو معنويًّا أو التحريض على الاعتداء عليه أو الحث على خطاب الكراهية".
كما ينص على أن "تضاعف العقوبات المقررة إذا كان الشخص المستهدف موظفًا عموميًّا أو شبهه".
منظمات حقوق الإنسان: غموض وتعتيم في مسار المصادقة على المرسوم
أدانت منظمات حقوق الإنسان في تونس، المرسوم 54 لجرائم الاتصال والمعلومات في تونس، وحثت رئيس الجمهورية "على سحبه فورًا من أجل دعم حرية التعبير وحرية الصحافة في البلاد".
وقالت في بيان صدر اليوم 21 سبتمبر، إنّ مسار المصادقة على المرسوم اتسم بالتعتيم والغموض الكبيرين، إذ نُشرت نسخة مسربة من نص مشروع قانون مكافحة الجرائم المتعلقة بأنظمة المعلومات والاتصال للمرة الأولى، في آب/أغسطس 2015 على الموقع الإلكتروني "نواة"، دون أن تؤكد أي جهة رسمية تبنيها له.
وأضافت المنظمات في بيانها أنّه مع بداية مايو/أيار 2018، صادق مجلس الوزراء على مشروع قانون مكافحة الجرائم المتعلقة بأنظمة المعلومات والاتصال دون أي مشاركة لمنظمات المجتمع المدني.
واستمر التعتيم، وفقها، أربع سنوات إلى حدود صدور المرسوم 54 في 13 سبتمبر 2022 بعد قرابة ثلاثة أشهر من تاريخ التداول فيه في مجلس الوزراء المنعقد في 27 يونيو/حزيران 2022.
عقوبات تهدد حرية التعبير
اعتبرت مختلف المنظمات المحلية والدولية أنّ المرسوم 54 تهدد حرية التعبير ولا تتناسب عقوباته مع الجريمة. ودعت نقابة الصحفيين رئيس الجمهورية التونسية قيس سعيّد، في هذا الخصوص إلى سحب المرسوم عدد 54، الذي "نص على عقوبات زجرية مبالغ فيها في قضايا نشر ويهدف إلى مزيد التضييقات على حرية التعبير والصحافة بتعلة مكافحة الإشاعات وجرائم المعلومات" وفقها.
النقابة أوضحت في بيان نشرته يوم 19 سبتمبر الجاري، أنّ القانون تضمّن عديد العقوبات الزجرية التي تفتقد إلى التناسب بين الفعل والعقوبة، على اعتبار أنّ جرائم النشر لا يمكن أن تكون عقوبتها السجن لخمس أو عشر سنوات.
وأشارت النقابة التونسية أنّ هناك "خلطًا متعمدًا في هذا المرسوم بين جرائم أنظمة المعلومات وقضايا نشر الأخبار الزائفة، في حين أنّها مجالات مختلفة من المفترض أن تُنظم بقوانين خاصة ومحددة بدقة حتى لا ينال من الحريات".
وفي بيان نشرته يوم 21 سبتمبر الجاري، قالت منظمة (أنا يقظ) وهي منظمة رقابية تونسية غير ربحية ومستقلة، إنّ المرسوم عدد 54 لسنة 2022 والمتعلق بمكافحة الجرائم المتصلة بأنظمة المعلومات والاتصال "ليس إلا مرسومًا يضع سيف القمع والخوف على رقاب المواطنين والصحفيين ويؤسس لرقابة وصنصرة ذاتية تمس من الحقوق الكونية للإنسان المضمنة بالاتفاقيات الدولية كالحق في التفكير والتعبير عن الرأي والحق في الخصوصية".
وأشارت في بيان لها بعنوان "قيس سعيد يواصل وضع اللبنات الأولى لدكتاتوريته الشعبوية". أنّه "عوض البحث عن آليات تعديلية لوسائل التواصل الاجتماعي تلجأ الدولة للحلول الزجرية السهلة وتعبئة السجون بمرتكبي "جرائم" النشر".
وبينت أنّ المرسوم "تمادى في وضع العقوبات بصفة لا تتناسب والجريمة إذ إنه يعاقب من يقوم بتسريب إشاعة أو خبرًا بأشدّ من عقاب من يقوم بالإيهام بجريمة، وهو ما يمثل انتهاكًا صارخًا لحرية التعبير والإعلام ويجعل من الصحفيين عرضة للتبعات العدلية جراء مواقفهم وتصريحاتهم.
من جانبه انتقد المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان في بيان له صدر بتاريخ 18 سبتمبر الجاري المرسوم 54 في تونس، واعتبر أنّه خطير ويشرعن انتهاك خصوصية الأفراد وتجريم المعارضين.
وقال مسؤول العمليات في المرصد الأورومتوسطي أنس جرجاوي، "مضمون المرسوم الرئاسي الجديد صادم ويشبه إلى حد كبير النظم المعمول بها لدى الحكومات الديكتاتورية. وزاد "المضي قدمًا في تنفيذ هذه الأحكام التعسفية يعني تقريبًا تجريد التونسيين من حقهم في الخصوصية، وتقييد عمل وسائل الإعلام المستقلة وتجريم بعض مخرجاتها".
وقالت اللجنة الدولية للحقوقيين إنّ المرسوم الجديد الذي أصدره الرئيس سعيّد دون أي استشارة أو نقاش عام، يهدد الحق في حرية التعبير والخصوصية في تونس ويجب إلغاؤه على الفور.
وأعربت في بيان نشرته يوم 20 سبتمبر الجاري، عن قلقها العميق من الفصل 24 المتعلق، لأنه سيسمح للسلطات بالسيطرة على ما يقوله الصحفيون والمدافعون عن حقوق الإنسان والمعارضون السياسيون والناس العاديون، عبر الإنترنت وخارجه، وفرض عقوبات شديدة إذا اعتبر الخطاب انتقادًا للموظفين العموميين، في انتهاك لالتزامات تونس بموجب القانون الدولي.
وقال سعيد بن عربية، مدير برنامج الشرق الأوسط وشمال أفريقيا التابع لمحكمة العدل الدولية، إنّ "المرسوم يمنح السلطات التونسية سلطات وأدوات واسعة وغير مقيدة لقمع الحق في حرية التعبير والتدخل التعسفي في الحق في الخصوصية وحماية البيانات".
نص غامض يفتح باب التأويل
كما استنكرت أغلب المنظمات غموض النص في حد ذاته، واعتبرت أنّه سيفتح باب التأويل يمكن أن يستخدم تعسفيًّا.
وأكدت منظمات حقوق الإنسان في تونس عن قلقها "للغاية" بشأن التعريفات الغامضة لعبارات مثل "أخبار" أو "بيانات" أو "إشاعات كاذبة". وقالت في بيانها إنّه من "المؤكد أن مثل هذه المصطلحات الغامضة ستؤدي إلى انتهاكات من قبل السلطات، وإلى تكميم أفواه الصحفيين والسياسيين المعارضين والمدافعين عن حقوق الإنسان الذين ينتقدون المسؤولين الحكوميين". وبينت أنّ الفصل 24 هو "معركة مزيفة ضد الأخبار الزائفة".
ووفق منظمة (أنا يقظ) لا يحدد النص ماهية "الأخبار الكاذبة"، ولا المعايير أو الشروط التي يجب اتباعها لتحديد ما إذا كان الخبر كاذبًا وهو ما سيفتح أبواب التأويل على مصراعيها ويمنح سلطة تقديرية واسعة ومخيفة للإدارة.
كما ذكر المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان، أنّ في القسم الفرعي الثالث من الباب الثالث، يفرض المرسوم عقوبة السجن خمس سنوات وغرامة مالية قدرها 50 ألف دينار تونسي (نحو 15,600$)، على الأفراد لقاء تهم عامة وفضفاضة ويمكن استخدامها تعسفيًا على نحو واسع، مثل نشر بيانات أو إشاعات كاذبة، أو الإضرار بالأمن العام أو الدفاع الوطني، أو الحث على خطاب الكراهية، وتُضاعف تلك العقوبة في حال كان الشخص المستهدف موظفًا عموميًا أو شبهه.
وفق سعيد بن عربية، مدير برنامج الشرق الأوسط وشمال أفريقيا التابع لمحكمة العدل الدولية "لأن أحكامه فضفاضة وغامضة للغاية، يفتح المرسوم الباب أمام تجريم عمل الصحفيين والنشطاء والمنتقدين، وإخضاعهم لعقوبات سجن طويلة وغرامات باهظة".
تخوفات من النهج الشمولي والتناقض مع المعاهدات الدولية
تعدّ المنظمات الحقوقية أنّ المرسوم يشرع إلى اتباع نهج شمولي، يتعارض مع القانون الدولي والمعاهدات التي أمضت عليها تونس.
وقال مسؤول العمليات في المرصد الأورومتوسطي أنس جرجاوي في هذا الخصوص "تبعًا للنهج الشمولي الذي يدير به الرئيس قيس سعيّد الدولة، فإنّه من المشروع الاعتقاد باستخدام نصوص المرسوم على نحو تعسفي لانتهاك خصوصية المعارضين، وتقييد وملاحقة الصحافيين ووسائل الإعلام التي قد تصدر مخرجات تنتقد سياسات الرئيس".
وفق اللجنة الدولية للحقوقيين، يشترط القانون الدولي لحقوق الإنسان أن تكون أي قيود على الحق في الخصوصية وحرية التعبير، على النحو الذي تحميه المادتان 17 و 19 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، وتونس دولة طرف فيه.
وبينت اللجنة أنّ "المرسوم هو الأحدث في حملة منسقة من الرئيس سعيد لتفكيك سيادة القانون في تونس، وإضعاف استقلال القضاء والحماية القضائية للحقوق، وتقييد الحيز المدني وخنق المعارضة.
وفق بيان منظمات حقوق الإنسان في تونس، يتعارض الفصل 24 مع المعايير الدولية المتصلة بالحق في حرية التعبير، فمن المشروع، وفقها، وضع ضوابط على الحقوق لحماية مصالح مشروعة مثل كرامة الأفراد أو الأمن الوطني، إلّا أنّ ذلك لا يكون عبر تجريم عدة أفعال بصورة غامضة وغير دقيقة، الأمر الذي يؤول إلى إطلاق عنان السلطة التقديرية للأجهزة الأمنية والقضائية لملاحقة الصحفيين/ات والمدونين/ات والناشطين/ات في المجتمع المدني والسياسيين/ات وعموم المواطنين/ات.
وأوضحت أنّ المرسوم يتعارض مع الضوابط الدستورية المنصوص عليها صلب الفصل 55 من الدستور والواجب احترامها عند تقييد الحقوق والحريات، حيث تضمّن عقوبات غير متناسبة مع الأفعال المجرمة بالإضافة إلى عدم دقة المفردات المستعملة.
واعتبرت أنّ العقوبة السجنية في جرائم الثلب والشتم عقوبة غير متناسبة حسب المعايير الدولية، إذ جاء في التعليق العام رقم 34 لسنة 2011 للجنة المعنية بحقوق الإنسان، أنّه لا يمكن القبول "بتطبيق القانون الجنائي إلا في أشد الحالات خطورة، وألا تكون عقوبـة السجن على الإطلاق هي العقوبة المناسبة".
وأضافت أنّ المقررون الخواص الأربعة المعنيون بحرية التعبير والرأي في إعلانهم المشترك لعام 2017 بشأن حرية التعبير و"الأخبار المزيفة" والمعلومات المضللة والدعاية، أكدوا أن الحظر المفروض على نشر المعلومات القائمة على مفاهيم غامضة مثل "المعلومات الكاذبة" لا يتوافق مع المعايير الدولية المتعلقة بحماية حرية التعبير.
من جانبها قالت نقابة الصحفيين التونسيين إنّ السلطة في تونس "دأبت على نشر الأخبار الزائفة والإشاعات والتعتيم على الحقائق، بل وتورطت في تعمد نشر أخبار زائفة أو موجهة هدفها توجيه الرأي العام وإلهاءه، وهي المعنية اكثر بمحاسبة نفسها ومسؤوليها على كل ما يُرتكب يوميا في حق المواطن من تعتيم وأخبار زائفة تهم حياة المواطنات والمواطنين".
المصادر
النقابة الوطنية للصحفيين التونسيين
النقابة الوطنية للصحفيين التونسيين
المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان
اقرأ/ي أيضًا
تصريحات متناقضة لسعيّد حول موقفه من قضية المرزوقي
هل حقًّا استغرقت صياغة مسودة دستور 1958 في فرنسا أسبوعًا واحدًا فقط؟