انهار النظام السياسي في سوريا بعد سنوات طويلة من احتكار السردية السياسية والاجتماعية، واعتماده على التعتيم الإعلامي والتضليل كأداوات للسيطرة على المجتمع وتوجيه الرأي العام لصالحه، مما حال دون ظهور أي روايات بديلة.
وشكل سيطرة المعارضة المفاجئة على العاصمة دمشق وفرار رأس النظام إلى موسكو صدمة وحدثًا غير متوقع، حمل معه فجوة معلوماتية كبيرة تزامنت مع انهيار الجهاز الإعلامي الرسمي التابع للنظام، الذي كان يشكل المصدر شبه الوحيد للمعلومات داخل سوريا.
ومع انهيار المنظومة الإعلامية الرسمية، برزت حالة من الفوضى المعلوماتية، وتدفقت الشائعات والأخبار غير الموثوقة بشكل كبير، في وقت سعت فيه مختلف الأطراف المنخرطة وبشكل متسارع إلى فرض رواياتها الخاصة حول الماضي والحاضر والمستقبل.
كانت الفوضى المعلوماتية في سوريا أكثر تعقيدًا مقارنة بحالات أخرى، إذ اعتمد النظام على مدى عقود سياسة الرقابة المشددة وقمع الصحفيين والمعارضين، إلى جانب جهود ممنهجة في إخفاء الحقائق ومنع الوصول إلى المعلومات المستقلة، بحسب عدة تقارير دولية.
خصوصية الوضع السياسي والقيود التي فرضت على البيئة الإعلامية في سوريا، جعلت تدفق المعلومات خلال فترة تقدم المعارضة أو سقوط النظام مشوشًا ومتناقضًا، حيث كانت التفسيرات غير الدقيقة تسيطر على المشهد، مما عمّق حالة الارتباك وزاد من صعوبة الوصول إلى حقيقة ما يجري.
سجن صيدنايا مثال بارز للمعلومات المضللة وفوضى المعلومات
يشكّل سجن صيدنايا مثالًا بارزًا على تدفق المعلومات المضللة والفوضى الإعلامية خلال مرحلة سقوط النظام، وفنّد مسبار عشرات الادعاءات غير الصحيحة، حول السجن الذي لطالما اعتُبر رمزًا للقمع والانتهاكات في عهد النظام السوري، حيث وُثقت فيه حالات الإخفاء القسري والإعدامات الجماعية، وفقًا لتقارير دولية وشهادات موثوقة.
على مدى عقود، اعتمد النظام السوري سياسة التعتيم الإعلامي حول ما يجري داخل السجن، مما جعل المعلومات المتعلقة به شديدة الغموض ومعزولة عن العالم الخارجي، وعرضة لتفسيرات مختلفة. ومع انهيار النظام، ظهرت روايات متضاربة وموجة من المعلومات المضللة، حول مصير السجناء وظروفهم داخل السجن وادعاءات تثير القلق مثل نية النظام السوري تصفية المعتقلين داخل السجن قبل فقدانه السيطرة على البلاد.
مما فاقم من فوضى المعلومات، حقيقة أن السوريين ظلوا لعقود يفتقرون إلى معرفة دقيقة حول بنية السجن وظروف الاعتقال بداخله، فضلًا عن عدد الزنازين والمرافق المرتبطة به. وعندما وصلت قوات المعارضة إلى السجن، واجهت قواتها تحديات كبيرة تمثلت في عدم وجود خرائط لتصميم السجن أو مفاتيح الزنازين، كما لم تعثر على أي من العاملين السابقين في السجن ممن يمتلكون معلومات دقيقة عنه.
هذا الواقع فاقم القلق أيضًا وحالة عدم اليقين لدى أهالي المعتقلين أيضًا الذين كانوا يترقبون أخبارًا عن من يخصهم، ويبحثون عنهم أملًا في تحريرهم. ومع ذلك، لم تتمكن قوات المعارضة من العثور سوى على بضعة آلاف من السجناء، في حين تشير تقديرات منظمات حقوقية إلى أن عدد المخفيين قسرًا خلال سنوات الصراع تجاوز مئة ألف شخص، وهو ما أدى بدوره إلى تدفق متزايد للمعلومات المضللة، مع ضعف المصادر وعدم وجود جهات مسؤولة وموثوقة تشرح ما يجري.
في ظل هذا الغموض، انتشرت شائعات كثيرة حول وجود سجون سرية وأماكن خفية زُعم أن النظام خبأ فيها المعتقلين. ومع تدخل فرق الدفاع المدني السوري، بقيت الكثير من هذه المزاعم دون تأكيد فوري، بسبب صعوبة الوصول إلى أدلة ملموسة وموثوقة.
أين رأس النظام، هل يقاتل أم تنحى؟ هل هرب الجيش؟ ماذا يحدث؟
أدى الانهيار السريع لجيش النظام السوري أمام قوات المعارضة إلى حالة من الخوف والذعر في بعض الأوساط، وكان كثير من الجنود يقاتلون مع الجيش النظامي بشكل إجباري، ولم يصدر النظام لتوضيح ما يجري على الأرض سوى بيان واحد جاء على لسان وزير دفاعه خلال مؤتمر صحفي عقده في الخامس من ديسمبر/كانون الأول الجاري، ولم يكشف البيان عن حقيقة الأحداث على الأرض، بل فاقمت التطمينات التي لا تستند للواقع من غموض المشهد.
هذا الغموض وضع الناس في حالة من القلق وصعوبة في فهم ما يجري، خصوصًا مع غياب أي تصريحات واضحة من الرئيس المخلوع بشار الأسد أو المكتب الإعلامي الرسمي لرئاسة الجمهورية حول التطورات. بدلاً من ذلك، اكتفت التصريحات الرسمية بتطمينات عامة وغير واقعية تفيد بأن الرئيس يتابع عمله بشكل طبيعي من دمشق، في وقت كانت فيه قوات المعارضة قد وصلت إلى أطراف العاصمة.
في المقابل، عمد إعلام النظام إلى بث مشاهد تزعم أن الجيش النظامي ما زال يسيطر على الأرض ويستعيد المواقع التي خسرها، مما زاد من حالة الالتباس بين المواطنين. ومع اختفاء بشار الأسد وغياب التصريحات الرسمية لساعات، بدأت تنتشر شائعات تفيد بهروبه أو تحطم طائرته أو استمراره في القتال، مما ساهم في تأجيج الفوضى، وإثارة المخاوف حول سيناريو مرعب زعم فيه كثيرون أن الأسد سيقاتل حتى النهاية وسيتبع ذلك عدد كبير من الضحايا والدمار.
كما وجد جيش النظام نفسه في حالة ارتباك شديدة، حيث لم يتمكن العديد من عناصره من اتخاذ القرار، فهل ينشقون ويسلمون سلاحهم لقوات المعارضة أم يواجهون خطر الانتقام من قبل النظام في حال عصيان الأوامر، وهو الأمر الذي كان يجري خلال سنوات الحرب في سوريا. هذه الفوضى مع شح المعلومات تفاقمت مع فرار كبار الضباط واختفاء القنوات الرسمية للتواصل، تاركين كثير من العناصر والضباط الصغار في مواجهة مصير مجهول.
شائعات حول الانتقام الجماعي والحوادث الطائفية
يتسم المجتمع السوري بتنوع طائفي وعرقي، يشمل مجموعات دينية وإثنية متعددة. على مدى عقود، استغل النظام السوري هذا التنوع باتباع سياسة التخويف من البديل، مقدمًا نفسه كحامي الدولة المدنية والنظام العلماني. ومع اندلاع الاحتجاجات في عام 2011، كثّف النظام هذا الخطاب، محذرًا من فوضى طائفية محتملة وانتقام يستهدف الأقليات في حال سقوطه.
وساهمت بعض الأطراف المسلحة خلال سنوات الحرب في تعزيز سردية النظام من خلال تورطها في أعمال عنف ذات طابع طائفي مع انتقال الثورة السورية لثورة مسلحة.
نتيجة لذلك، عاش السوريون في حالة من الخوف من المستقبل المجهول والبديل المحتمل وهي الحالة التي سبقت انهيار النظام، وتشير تقارير المركز السوري للبحوث والسياسات أن تسييس الهويات الدينية والإثنية أدى لسنوات إلى تعميق الانقسامات داخل المجتمع السوري، الهويات التي استُخدمت كأدوات في الصراع، أدت إلى تفاقم التوترات وزيادة الاستقطاب بين مختلف المكونات، ولذا كان هنالك خطر كبير للمعلومات المضللة مع حالة الفوضى.
مع انهيار سيطرة النظام، سادت أجواء من التوتر والرعب، وظهرت مزاعم حول حالات انتقام، وإعدامات ميدانية ستقوم بها قوات المعارضة خاصة ضد النساء، بينما تداول المستخدمون مقاطع مصورة تُظهر أعمال عنف استهدفت الأقليات والطوائف المختلفة. في ظل هذا الوضع، عانى السوريون من غياب قنوات موثوقة للحصول على المعلومات، مما ساهم في تغذية خطاب الكراهية وانتشار المعلومات المضللة بشكل واسع.
تشير عدة تقارير أن حالة الذعر هذه قد تساهم في تأجيج العنف أيضًا في المجتمع، بما في ذلك العنف الموجه ضد الفئات الضعيفة والأقليات والمجموعات العرقية، التي كان من الواضح أنها لا تملك السلطة للدفاع عن نفسها في ظل حالة الفوضى.
وقد امتد تأثير المعلومات المضللة إلى المنظمات الإنسانية والطبية، مما أفقد الأشخاص الثقة في المعلومات التي يتلقونها، وتجنب كثير منهم تلقي الخدمات الأساسية التي لم يعد يعرف أماكن توزيعها. وانتشرت على وسائل التواصل الاجتماعي منشورات فاقمت حالة الذعر مثل "المستشفيات ممتلئة بالقتلى" "دخلت البلاد في حمام دم طويل"، وزعم أيضًا أن العديد من قوات وقيادات المعارضة التي سيطرت على البلاد كانت من فلول تنظيم داعش، وأنها تتحضر للانتقام من الناس.
عدم فعالية منصة إكس في سوريا وانقطاع القنوات الرسمية عزز الفجوة المعلوماتية
يعتمد شريحة كبيرة من السوريين على منصة فيسبوك كمصدر رئيسي للحصول على الأخبار، بالرغم من أهمية منصة إكس كمصدر إخباري خاصة خارج للمعلومات من خارج سوريا.
ركز النظام السوري السابق بشكل كبير على الصفحات الرسمية على فيسبوك لبث الأخبار للمواطنين، ويعود ذلك لعدة أسباب، أبرزها أن منصة إكس كانت تقيد إنشاء الحسابات في سوريا نتيجة للعقوبات الأمريكية وغيرها من الأسباب، ما جعل الكثير من السوريين غير قادرين على استخدام إكس بفعالية.
مع انهيار الجهاز الإعلامي للنظام الذي كان يدار أغلبه من مؤسسات حكومية، توقفت الصفحات الرسمية التابعة للنظام عن النشر، ولم تتمكن السلطات الجديدة من إنشاء حسابات موثوقة بسرعة على فيسبوك لتكون بديلًا عن تلك الصفحات المتوقفة. ورغم أن إدارة العمليات العسكرية التابعة للمعارضة بثت العديد من الأنباء عبر صفحاتها على منصة إكس، إلا أن هذه الأخبار لم تكن تصل بفعالية إلى شريحة واسعة من السوريين الذين لا يمتلكون حسابات على إكس.
إضافة إلى ذلك، لم يكن السوريون على دراية كافية بالصفحات الرسمية التابعة للمعارضة أثناء مرحلة سقوط النظام، حيث أنشئ الكثير منها أساسًا بعد إسقاط النظام. هذا الفراغ الإعلامي دفع بالسوريين إلى الاعتماد على مصادر غير رسمية على وسائل التواصل الاجتماعي للحصول على الأخبار والمعلومات، مما فتح الباب أمام انتشار الشائعات والمعلومات المضللة بشكل واسع.
تجدر الإشارة إلى أن وسائل التواصل الاجتماعي أصبحت البديل الأكثر شيوعًا في سوريا خلال تلك الفترة، نظرًا لصعوبة الوصول إلى القنوات التلفزيونية التقليدية بسبب الانقطاعات الطويلة في التيار الكهربائي وتدهور البنية التحتية الرقمية. بالإضافة إلى ذلك، لعبت هذه الوسائل دورًا مهمًا في توفير منصات للتعبير والتواصل، حيث استخدمها السوريون لنقل الأخبار والتفاعل مع الأحداث في سوريا مع اشتداد رقابة النظام السابق.
لمواجهة هذا التحدي لحظة سقوط النظام، ظهرت مبادرات غير رسمية هدفت إلى نقل المعلومات إلى الجمهور ومناقشة مسار الأحداث، مثل إنشاء صفحات ومجموعات محلية على وسائل التواصل الاجتماعي. ومع ذلك، فإن تأثير هذه المبادرات كان محدودًا بسبب غياب الدعم المؤسساتي القوي، وبطء وتيرة الانضمام إليها قياسًا بما يحتاجه الحدث.
غياب دور المجتمع المدني في سوريا فاقم فوضى المعلومات مع انهيار النظام
يلعب المجتمع المدني والمجتمعات المحلية المستقلة دورًا حيويًا في مكافحة التضليل الإعلامي وتعزيز الثقة بالمعلومات، خاصة في الأوقات التي تشهد انهيار الأنظمة أو غياب المؤسسات الرسمية الفاعلة. من خلال إنشاء منصات مخصصة للتحقق من الأخبار وتقديم المعلومات الموثوقة، تساهم هذه الهيئات في الحد من انتشار الشائعات وتعزيز الوعي الإعلامي.
كما توفر جهود المجتمع المدني قنوات اتصال بديلة تتيح نقل المعلومات بشكل مباشر وشفاف، ما يقلل الاعتماد على المصادر المركزية التي قد تكون منحازة أو مضللة. هذه الجهود تسهم في بناء مجتمع أكثر وعيًا وقادرًا على مواجهة التحديات المعلوماتية في أوقات الأزمات.
تشير تقارير عديدة بأنه على مدار عقود، عمل النظام السوري على تهميش المجتمع المدني وتقييد نشاطه بشتى الوسائل، حيث أخضع المنظمات الأهلية لرقابة صارمة، وحصر عملها في مجالات غير سياسية وغير مؤثرة، مثل تقديم الخدمات الاجتماعية تحت إشراف مباشر من الدولة.
كما استبدل النظام السابق وفقًا لتقارير المنظمات المستقلة بكيانات شكلية تابعة له، تُستخدم لترويج سياساته وتدعيم سلطته، ما أدى إلى تفريغ المجتمع المدني من دوره الحقيقي كوسيط بين الدولة والمجتمع. علاوة على ذلك، فرض النظام قوانين تعيق تشكيل الجمعيات المستقلة وحرية التجمع، وقمع أي مبادرات أهلية تسعى إلى تعزيز الحوار أو المساهمة في إصلاح المؤسسات.
هذا التهميش المُمنهج للمجتمع المدني أدى إلى غياب تنظيم شعبي قادر على إدارة المرحلة الانتقالية عند انهيار النظام، وترك فراغًا سياسيًا وإداريًا استغلته أطراف عديدة وقنوات نشر التضليل، مما أدى إلى تغذية الانقسامات المجتمعية، واستفحال التضليل الإعلامي. في ظل هذا الواقع، وجد السوريون أنفسهم أمام تحدٍ هائل ولحظة صعبة في فهم ما يجري.
تجربة انهيار النظام تؤكد ضرورة توفير سياسات مستقلة لمكافحة التضليل أثناء الأزمات
تُعدّ إدارة المعلومات المضللة أثناء الأزمات الكبرى تحديًا بالغ الأهمية، وتركّز العديد من المنصات والمؤسسات اليوم على إيجاد طرق يمكن من خلالها تطوير جهاز مستقل وقنوات بديلة تبقى فعالة أثناء الأزمات وخاصة في حالة الحروب والكوارث، وذلك على النحو الذي شهدناه مع المثال الأبرز المتمثل بظهور جائحة كوفيد-19 وما تبعه من فوضى معلوماتية، أدت إلى تفاقم الأوضاع وزيادة الارتباك بين الجمهور.
في السياق السوري، أدى تفاقم انتشار المعلومات المضللة مع انهيار النظام السابق إلى إظهار حاجة ملحّة لوجود مؤسسات أو منصات تحقق ومعلومات مستقلة عن الدولة. إذ يمكن لهذه المؤسسات أن تلعب دورًا حيويًا في مواجهة فوضى المعلومات وتقديم بدائل موثوقة تسهم في تعزيز وعي الجمهور ودعمه في مواجهة الأزمات.
اقرأ/ي أيضًا
كيف تؤثر المعلومات المضللة على السلم الأهلي في سوريا؟
أبرز الادعاءات التي طاولت بشار الأسد منذ عملية ردع العدوان حتى سقوط نظامه