من الواضح أنَّ الشبكة العنكبوتيّة الضّخمة، والتي بتنا نعيشُ داخلها، لها دور كبير في تشويه وجه الحقيقة ورفع أسهم الأوهام في حياة الخديعة والقضايا الزّائفة. فتدفّق المعلومات بغزارةٍ من الكيانات الافتراضية وإليها، وأثناء رحلة عبورها إلى العقول، دون الالتفات والتركيز إلى كيفية نشوء المعلومة أو الخبر، يتم اجترارها على أنّها الحقيقة الوحيدة والواقع الذي لا مفرّ منه. ومن موقعنا كضحايا للكهف الأفلاطوني الكبير فقدنا بوصلة تقييم واقعنا المصطنع بشكلٍ موضوعيّ ومحايد، لنكتشف لاحقًا أننا غارقون في بحر الواقعية الساذجة، تلك التي أصحبت محطّ دراسة حديثة وضرورية لعلم النفس الاجتماعي.
إنّ تبنّينا المتسرّع للأخبار والمعلومات يُوقعنا في فخّ التزييف والتّضليل، ويجعل منّا صيداً سهلًا لأهداف نجهلها تمامًا. فماذا لو استدعينا المغالطات المنطقية التي عرّفها الدكتور مصطفى عادل في كتابه "المغالطات المنطقية" على أنهّا "تلك الأنماط من الحجج الباطلة التي تتخذّ مظهر الحجج الجديدة" ووظفناها في خدمة مكافحة الأخبار الزّائفة؟
إنَّ غياب التفكير النّقدي، وعدم إخضاع الخطاب والكلمة وحتّى الفعل لحكم العقل، سيُوقعنا رهائن لسلطةٍ ما، قد تكون سلطةً سياسيّةً أو تكنولوجيّةً تدور في فلك العالم الرّقمي، لذلك يأتي كتابُ الدّكتور مصطفى ليدرّبنا على رصد المغالطة ثم تحليلها، وبالتالي تكون بمثابةِ حصانةٍ للقارئ/السّامع المتلقّي وضمانةً لعدم الوقوع في فخّ التضليل والتزييف.
- مغالطة الرنجة الحمراء
"يمكن للإعلام أن يقدّم أحداثًا من شأنها تحويل الأنظار وإلهاء المشاهدين، فللحواة والسّحرة مبدأ أول يتمثل في جذب الانتباه نحو شيء آخر غير الذي يقومون به".
- بيير بورديو
يذكرُ الدكتور مصطفى بأنَّ الرّنجة الحمراء (Red herring) هي تلك الحيلة التي يعود تاريخ استخدامها إلى المجرمين الفارّين من السّجون، إذ كانَ السجناء يستعينون بسمكة الرّنجة الحمراء لتشتيت انتباه الكلاب عنهم، فتطغى رائحة السّمكة على رائحتهِم وينجحون في الهروب.
أصبحت هذه الحيلة تُستخدم اليوم في وسائل الإعلام الحديثة خصوصًا السلطوية منها، أي تلك التابعة بمكنوناتها للسلطة، إذ يسلّط الإعلام الضّوء على قضايا يمكن أن تكون بذاتها مضللة، من أجل إشغال الرأي العام عن القضايا الهامّة، وهذه هي إحدى الاستراتيجيات العشر الذي يستخدمها الإعلام السلطوي – كما ذكر المفكر والفيلسوف الأميركيّ نعوم تشومسكي – إذ يجري عبر هذه الحيلة إلهاء الجموع عن القضية الأساس بقضية أخرى غير هامّة وربما تكون زائفة، فينساق الرأي العام بدوره ويتمّ تضليله.
ولا يخلو خطاب السياسيين من هذه الحيلة بهدف إخفاء الإخفاق والإهمال في أعمالهم، وتظهر هذه المغالطة بشكلٍ واضحٍ في مجتمعات العالم الثالث.
يقول مصطفى عادل:
"في مغالطة الرنجة الحمراء تنحرف الحجّة في اتجاه مختلف ولا تصل إلى شيء: فهي إمّا حيود خارج الموضوع diversionary irrelevance إلى موضوع آخر مثير انفعاليًا، وإمّا تمويه وسحابة تَعمية pettifogging. ليس هناك استدلال أخطأ هدفه، بل خداعٌ للمستمع واستهلاكٌ له وانحرافٌ عن الموضوع برمته إلى مسألة أخرى".
- المغالطة البهلوانية (مهاجمة رجل من قشّ)
يعود تاريخ المغالطة البهلوانية، إلى القرون الوسطى حين كان الجنود الأوروبيون يبارزون دمية على هيئة رجل محشو بالقشّ ليدرّبوا أنفسهم على خوض الحروب والانتصار على العدو الحقيقيّ. يظهر استخدام هذه المغالطة عند وسائل الإعلام والسلطات السياسية ورجال السياسة لتحقيق مآربهم وأهدافهم، فيتم اختراع حجة مزيّفة مقابل حجّة الخصم الحقيقية وتُنسب إليه، بعد ذلك يتمّ العمل على تهديمها. وهذا ما يظهر جليًا في كثير من الحوارات التلفزيونية والنقاشات الظاهرة على مواقع التواصل الاجتماعي، وأيضًا في حوارات رجال السياسة والسلطة، وبالتالي تكون النتيجة: انتصار مزيف على الخصم، إذ إنّ غياب جوهر القضية في تحريف حجّة الخصم عن سياقها واستخدام التعميم والاحتكام للمشاعر تؤدي جميعها إلى تضليل المشاهد/القارئ.
وقد يبيّن مصطفى عادل طرائق مختلفة لاستخدام هذه المغالطة في قوله "فقد تقدّمُ الجوانب الأضعف من نظرية الخصم وتتظاهر بأنّك تفنّد النظرية من كلّ جوانبها، وقد تقدم حجة الخصم في صورةٍ مضعّفةٍ أو مبسطةٍ، وقد تشوّه أو تحرّف حجة الخصم وتسيء تمثيلها، وقد تختلق شخصًا وهميًا تنسب إليه أقوالًا وأفعالًا وعقائدًا وتدّعي أنّه يمثّل الجماعة التي ينتمي إليها هذا الخصم".
على القارئ/المتلقي/المستمع إذًا، أن يكون ذكيّاً وقادرًا على جلب الحقيقة وسط المبالغة أو التقليل من الأهمية في الحوارات وفي المقالات التي تنشرها وسائل الإعلام، وحتى المناقشات التي يثيرها الصحافي والمواطن العادي على صفحات مواقع التواصل الاجتماعي.
- مغالطة انحياز التأييد (التأييد دون التفنيد)
يقع متصفّح مواقع التّواصل الاجتماعي ضحيّة تحيّزه التأييدي، خصوصًا حين يعتمد على جزءٍ من الخبر أو المعلومة، فيتبنّاه دون تفنيده ودون النظر إلى جوانب أخرى من وجهات نظرٍ متعدّدة، وعادة ما يبحث عن المعلومات التي تؤكد معتقداته متجاهلًا تلك التي تخالف رأيه فيحصر نفسه في الغرفة التي تُسمّى بغرفة الصدى. وقد يقع الصحافي أيضًا في هذا الفخّ حين ينحاز بتأييده إلى فرضية ما فيؤيدها ويكتب عنها بغض النظر عن صحتها.
يُعدّ انحياز التأييد جزءًا من الانحياز المعرفي يجب التغلب عليه وتحصين أنفسنا منه لئلا نقع في وهم اتخاذ المواقف أو القرارات العاطفية، وبالتالي علينا امتلاك الوعي الكافي والوسيلة الصحيحة للبحث عن المعلومة وتبنّيها.
وقد ذهب الفيلسوف النمساوي كارل بوبر إلى الاعتقاد بأنَّ الفرضية لا يمكن قبولها إلّا إذا كانت قابلة للتكذيب falsificationism وليس للتأييد، بمعنى أنّه يسهل إيجاد ما يؤيّد نظرية ما، لكن يصعب الاعتقاد بنظرية مضادة لها كوننا نميل دائمًا للأسهل والأسرع وما يحافظ على منطقة أماننا. والمنهج الصائب عند بوبر هو أن نفكر استنباطيًا ونسعى لتفنيد المعلومة والتفتيش عن التضاد، وهذا سيكون كافيًا لئلا ننساق إلى حقل التضليل.
- الاحتكام إلى الأكثرية
يبدأ مصطفى عادل فقرته بقول للفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت:
"إنَّ واقعًا أنَّ رأيًا ما قد انتشر على نطاق واسع ليس دليلًا البتّة على أنَّ هذا الرأي ليس باطلًا كل البطلان، والحقّ أنه بالنظر إلى سخف أغلبية بني الإنسان، فإنّه الأقرب إلى الاحتمال أن يكون الاعتقاد الواسع انتشاره اعتقادًا سخيفًا من أن يكون اعتقادًا معقولًا".
تُستخدم مغالطة الاحتكام إلى الأكثرية كأداةٍ لإقناع الجمهور كونهم يميلون إلى الأخذ بالأسهل والأكثر أمانًا، وعادةً ما يذهب الفرد الى الاعتقاد بما تعتقده الأكثرية وهذا ما يوقعه في فخّ الاحتكام بما تقوله/تؤمن به الجماعة بدلًا من الاحتكام للمنطق والعقل. وتكمن الخطورة اليوم في سرعة انتشار الأخبار وصعوبة ضبطها على مواقع التواصل الاجتماعي، فماذا لو كانت أخبارًا مضللة وزائفة، أيّ تداعياتٍِ سلبية ستلحق بالمجتمعات؟
يذكر مصطفى عادل أشكالًا متنوّعةً من مغالطة الاحتكام إلى الأكثرية، منها عربة الفرقة الموسيقية، وتعني ميلنا الغريزي للانضواء تحت جناح الجماعة. ويذكر أنَّ أصل التسمية يعود إلى المرشحين في الماضي الذين كانوا يجوبون المدينة وقوفًا على العربة لاستقطاب أكبر قدرٍ من الحشود لتأييدهم. ويلاحظ اليوم في مجال الإعلانات وجود ما يُعرف بتكنيك عربة الفرقة، ويتضمن هذا التكنيك ادعاءً بأنَّ أغلبية الناس يتخذون موقفًا أو اعتقادًا ما، وذلك لكي يتسنى إقناع الآخرين بتبني ذلك الموقف أو الاعتقاد به بهدف تضليلهم وتحقيق أهداف معينة.
- الألفاظ المُلقمة
يعرّف مصطفى عادل مصطلح "لفظة ملقمة" بالمحمّلةً بمتضمناتٍ انفعالية وتقويميّةٍ زائدة. ويؤكد بأنّ ليست كلّ لغةٍ مشحونةٍ هي لغة مغالِطة بالضرورة، إنما تأتي المغالطة حين يستخدم الفرد ألفاظًا مشحونة بدلًا من الحجة، وهذا ما ظهر جليًا في خطابات هتلر قديمًا وما زالت تظهر في خطابات السياسيين والزعماء المؤثرين.
- الاحتكام الى السلطة
يقع الفرد في مغالطة الاحتكام إلى السلطة عندما يتبنى فكرة أو معلومة لا مصدر لها ولا سند سوى السلطة، مهما كان شكلها، سواء إن كانت سلطة سياسية أو شركةً عملاقةً تستمد سلطتها من العالم الرقمي. تاريخيًا عُرفت السلطات بتلاعبها أحيانًا وفي نشرها للشائعات عندما يتطلب الواقع ذلك، فمثلًا لا يمكن نسيان ظاهرة هتلر الإعلامية حين كان له الدور الأساسي في تحريك الجمهور بما يخدم مصلحته التوسعية وأهدافه العسكرية، فكان خطيبًا بارعًا وماهرًا في التمثيل وفي استخدام إيماءات اليد من جهة؛ ومن جهة أخرى اشتغل غوبلز وزير الدعاية الألمانية على عقول العامة في حملاته الإعلانية والإعلامية المشهورة ومن أبرز مقولاته: "اكذب ثمّ اكذب حتّى تُصدّق".
وحاليًّا، تلعب مواقع التواصل الاجتماعي دورًا هامًّا في استخدام هذه المغالطة، لما لها من سلطةٍ واضحةٍ على الجموع، هذه السلطة التي تعزّزت في الآونة الأخيرة مع التطور السريع للتكنولوجيا.
يختم الدكتور مصطفى عادل فقرته بالتالي:
"مهما كان من شأن السلطة وهيبتها وجدواها، فهي في نهاية المطاف ليست معرفة من المنبع first hand بل معرفة بالوساطة second hand، وهي في نهاية المطاف معيارٌ غير أساسيّ وغير مباشر، بل مشتقّ من غيره ومتكئ على سواه. يعلمنا التاريخ قديمه وحديثه أنَّ السلطات تخطئ وتجهل وتتضارب وتصطرع، وتتخذّ في ذاتها معايير للحقّ متباينة مختلفة. ولذا فإنَّ المعرفة المستمدة من السلطة لا تعدو أن تكون ظنًّا ولا ترقى إلى أن تكون معرفة بالمعنى الدقيق للكلمة. يجدرُ بنا بعد كلّ شيءٍ أن نتجنب الاحتكام إلى السلطة ما استطعنا إلى ذلك من سبيل، وإن لَزم الاحتكام فلنشفعه بعرض البينة التي تستند إليها هذه السلطة بقدر ما يسعفنا الإلمام والفهم".
المصادر
كتاب المغالطات المنطقية لمصطفى عادل
لماذا نصدّق الأخبار الكاذبة والإشاعات في مواقع التواصل الاجتماعي؟