` `

كيف وظفت المواد المفبركة حول السجون السورية في تقويض معاناة الضحايا وتشويه الحقائق؟

محمود حسن محمود حسن
سياسة
5 يناير 2025
كيف وظفت المواد المفبركة حول السجون السورية في تقويض معاناة الضحايا وتشويه الحقائق؟
نُشرت مقاطع مضللة لتخفيف فظاعة السجون في سوريا

سبق أن تناول “مسبار” في تقاريره خطورة نشر المعلومات المضللة والزائفة التي تشير إلى معاناة مرتبطة بقضايا مأساوية في الواقع، بهدف تضخيمها. وسلط الضوء على الأثر السلبي لهذه المواد على السرديات الأصلية للقضية وعلى المتلقي بشكل عام.

فمثلًا في سياق الحرب على غزة، أشارت عدة تقارير لمسبار إلى أن نشر المحتويات المفبركة قد يُستغل من جهات معادية تهدف إلى خلق موجة مضادة للتعاطف مع القضايا، عبر الطعن بصدقيتها، واستخدامها كذرائع لتقويض السرديات الأصلية، بالإشارة إلى أن التعاطف كان قائمًا على فبركات، ما يؤدي إلى تهميش المعاناة الحقيقية المصورة في المقاطع الموثوقة. وهو ما قد يسهم في تشكيل جمهور متردد أو محايد تجاه قضية عادلة وعميقة التأثير، ما يمثل خسارة كبيرة لقضية تستحق الإنصاف والدعم.

منذ سقوط نظام الرئيس المخلوع بشار الأسد وفقدان سيطرة قواته على السجون والفروع الأمنية ومراكز الاحتجاز، نشرت على مواقع التواصل الاجتماعي مقاطع مصورة تكشف حجم الانتهاكات التي ارتكبها النظام خلال فترة حكمه. رافقت هذه المشاهد محاولات لإعادة صياغة السرديات حول الجرائم المروعة التي وثقتها المنظمات الحقوقية على مدى سنوات.

مقاطع مضللة وظِّفَت لتخفيف فظاعة السجون في سوريا

لعل المثال الأبرز، يتمثل بتدفق المعلومات المضللة، بعد سيطرة قوات المعارضة على سجن صيدنايا، الذي وصفته منظمة العفو الدولية بـ“المسلخ البشري"، وكان نموذجًا على انتهاكات النظام السابق لحقوق الإنسان عبر أساليب تعذيب ممنهجة وعمليات قتل جماعي استهدفت آلاف المعتقلين.

مع سقوط السجن في قبضة فصائل المعارضة السورية في الثامن من ديسمبر/كانون الأول 2024، نشرت تسريبات ومقاطع مصورة، أثارت اهتمام الرأي العام العالمي وكشفت عن الانتهاكات داخله. 

إلا أن هذا الحدث استُغل من قبل بعض الجهات للترويج لمقاطع مضللة سبق أن تداولتها مستخدمون، بهدف إثارة الشكوك حول صدقية معاناة المعتقلين الفعلية، مما ساهم بالنظر لردود الفعل في التشويش على الروايات الأصلية وتقويض الجهود المبذولة لتوثيق الحقيقة.

مؤخرًا، انتشر مقطع فيديو يظهر مجموعة من النساء، زُعم أن قوات المعارضة حررتهن من مكان اعتقالهن السابق في السجن.

مقطع فيديو تحرير نساء
مقطع فيديو انتشر  في ليلة سقوط النظام في سوريا وزُعم أنه يظهر تحرير مجموعة من النساء كانوا في صيدنايا

وانتشرت روايات مختلفة حول صحة المقطع، وادعت بعض الحسابات أن المقطع غير صحيح وليس له علاقة بسجن صيدنايا. فيما أكدت بعضها أن صيدنايا هو سجن عسكري، ولا توجد فيه أقسام لاحتجاز النساء.

وأشار تحقيق مسبار في 12 ديسمبر 2024 بالاستناد إلى رابطة معتقلي ومفقودي صيدنايا، أن السجن مخصص فقط لاحتجاز الرجال، وبالتالي كان هنالك شكوك حول صحة المقطع المتداول.

تحقيق مسبار
أشار تحقيق مسبار في وقت سابق بالاستناد لرابطي معتقلي ومفقودي صيدنايا أن السجن مخصص للرجال

سرعان ما استغلّت حسابات على مواقع التواصل الاجتماعي المقطع المشكوك بصحته، وروّجت أنه دليل على تزييف الحقائق والمبالغة في تصوير معاناة المعتقلين في سجون النظام السوري. وقد أوحت تلك الحسابات، بشكل غير مباشر، بإنكار وجود انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان بحق المعتقلين، وهو ما يتضح من خلال منشورات أخرى لذات الحسابات تميل إلى تأييد نظام الأسد وتعارض سرديات السلطات الجديدة في سوريا.

كما قادت صفحات باللغة الإنجليزية، كانت منشوراتها السابقة تميل لتأييد النظام المخلوع، حملة ركّزت على نفي صحة الفيديو الذي يُظهر النساء فقط، بشكل مضلل قد يبدو أنه يهدف لتجميل صورة النظام السوري وتقليل حدة الانتقادات الموجهة إلى ممارساته، والطعن بالمشاهد الحقيقة للمعتقلين ممن حررتهم قوات المعارضة عند اقتحامها للسجن.

منشورات بالانجليزية حول صيدنايا
عدة صفحات شاركت بالإنجليزية منشورات حول زيف بعض مقاطع سجن صيدنايا

وسبق لمسبار أن كشف في تحقيق منفصل أن بعض الحسابات التي استغلّت مقطع الفيديو بطريقة غير مهنية، قامت بحملات أخرى تهدف إلى توظيف مقاطع مجتزأة وأخرى حقيقية لتلميع صورة النظام المخلوع.

في السياق، نشر مسبار في التاسع من ديسمبر 2024 تحقيقًا حول مقطع فيديو وصورة تداولتهما حسابات وصفحات على موقعي إكس وفيسبوك، زعمت أنهما يظهران أحد المعتقلين السوريين داخل زنزانة انفرادية في القسم الأحمر في سجن صيدنايا، وذلك عقب سيطرة فصائل المعارضة على السجن وإطلاقها سراح السجناء.

ووجد التحقيق أن الفيديو في الواقع يعود لمحاكاة فنية لزنزانة موجودة في أحد المتاحف في فيتنام، ولا علاقة له بسجن صيدنايا أو بالمعتقلين السوريين.

كما سبق لمسبار أن كشف في تقرير سلسلة من الادعاءات المتضاربة والمعلومات غير دقيقة حول عملية تحرير  المعتقلين من سجن صيدنايا، وهي ادعاءات قد تُستغل لتشويه الحقائق.

من هنا يمكن أن يؤدي نشر مقاطع غير صحيحة إلى إضعاف صدقية قصص الضحايا الحقيقيين. فعندما تُكتشف قصة مزيفة أو مبنية على معلومات غير صحيحة، قد يصبح من الصعب على الجمهور تصديق شهادات المعتقلين الحقيقيين الذين عانوا بالفعل ظروفًا قاسية، ما قد يؤدي إلى تجاهل معاناتهم أو التشكيك في صدقية قصصهم.

استغلال التضليل لتقويض التعاطف وتشويه الحقائق

تشير تقارير موثوقة، مثل تقرير منظمة العفو الدولية إلى أن سجن صيدنايا كان مسرحًا لجرائم فظيعة شملت التعذيب الممنهج والإعدام الجماعي، إذ قُتل ما لا يقل عن 13,000 معتقل بين عامي 2011 و2015. 

ومع ذلك، فإن انتشار الصور والمقاطع المزيفة على مواقع التواصل الاجتماعي لا يقتصر على تقويض صدقية الأدلة الحقيقية، بل يؤدي أيضًا إلى إثارة الشكوك حول معاناة الضحايا. وبحسب دراسة أجراها الباحثان كلير واردل وحسين ديرخشان، فإن التضليل الرقمي يعمل بشكل منهجي على تشويه الحقائق، مما يُضعف مشاعر التعاطف ويخلق بيئة تسهّل إنكار الجرائم الأصلية.

وتُظهر بعض الأبحاث الأكاديمية أن المعلومات المزيفة تُستخدم كأداة لإعادة صياغة السرديات، إذ تسعى بعض الأطراف المستفيدة من انتشار التضليل إلى تقديم الجرائم الحقيقية على أنها مجرد "حملات تشويه". ووضحت دراسة نشرتها مجلة "Science Advances" كيف أن التضليل الإعلامي يستخدم بكثرة لخلق ارتباك حول الأحداث الموثقة، ما يؤدي إلى تآكل الثقة في كل الروايات، سواء الحقيقية أو المزيفة.

يعد انتشار التضليل تحديًا حقيقيًا في مجال توثيق الانتهاكات، إذ إن سرعة انتشار المواد المزيفة تجعل من الصعب على المستخدمين التمييز بين الحقيقة والزيف، مما يضعف الصدقية العامة ويُستخدم بشكل مباشر من قبل الجهات التي تسعى إلى التعتيم على الجرائم أو تقويض المطالب بالمحاسبة. 

المواد المفبركة: عائق أمام دعم القضايا الإنسانية العادلة

حذّر مسبار في تقارير عدة من التأثيرات السلبية لنشر المناصرين للقضايا الإنسانية، مواد غير موثوقة أو مفبركة. فالرغبة في التهويل أو كسب التعاطف باستخدام محتوى غير دقيق قد تؤدي إلى استغلال تلك المواد لتشويه القضية وتقويض صدقيتها، حتى وإن كانت عدالة القضية في حد ذاتها كافية لكسب التضامن.

ووفقًا لتقارير سابقة نشرها مسبار، فإن الاكتفاء بنشر الحقائق المؤكدة وتجنب المبالغة أو استخدام محتوى مزيف، هو الخيار الأمثل لدعم القضايا العادلة. كما يُوصى بالتصدي للمواد المفبركة عبر فضحها ونفيها، بدلًا من الترويج لها أو المشاركة في نشرها، وذلك لتجنب الإضرار صدقية الضحايا الفعليين، وموثوقية قصصهم.

اقرأ/ي أيضًا

ماكنة كسر التعاطف.. استخدام صور مولدة بالذكاء الاصطناعي لوصف الأحداث الحقيقية

القصص المفبركة.. ماكينة هدم التعاطف

الأكثر قراءة