الآراء الواردة في هذا المقال لا تُعبّر بالضرورة عن رأي "مسبار".
شهدت الأيام الأخيرة في القدس وفي عدة مناطق في فلسطين، مواجهات بين قوات شرطة الاحتلال وجيشهِ مع المدنيين الفلسطينيين، الذين خرجوا معترضين ومحتجين بدايةً على تركيب الحواجز الحديدية في منطقة باب العامود، وتكررت مع انطلاق عملية تهجير أهالي حي الشيخ جراح في القدس المحتلة، ثم اقتحام المستوطنين للمسجد الأقصى، وهجوم قوات الاحتلال على المُصلين في شهر رمضان ومحاولتها إخلاء المسجد الأقصى من المعتكفين فيه.
بدأت المواجهات بين شباب مدني أعزل وغير مسلح، وشرطة وجيش الاحتلال الذين استخدموا قنابل الصوت والغاز والرصاصات المطاطية، ما أدّى إلى إصابة أكثر من 700 فلسطيني في القدس والأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1948 وباقي مدن الضفة الغربية، وتسببت في فقدان عدد كبير من الشبان لبصرهم.
في الأثناء انطلقت حملة رقمية لإنقاذ حي الشيخ جراح، وأضحى وسم “هاشتاغ” #أنقذوا_حي_الشيخ_جراح من الوسوم الأعلى والأكثر تداولًا في عددٍ كبير من الدول مثل الولايات المُتحدة وألمانيا وأستراليا وفرنسا وأغلب الدول العربية، وشارك في الحملة عددٌ كبير من المشاهير والممثلين والمغنيين العالميين وساهمت رسائلهم في وصول قضية أهالي الشيخ جراح إلى الملايين حول العالم.
كما حققت الحملة الرقمية عبر وسائل التواصل الاجتماعي بكل أدواتهِ، وخصوصًا البث المُباشر من خلال موقع إنستغرام، نجاحًا إعلاميًا كبيرًا، حيث لم تكن دولة الاحتلال قادرة على عرض سرديتها بطريقة مُبررة، سواءً في حي الشيخ جراح أو في المواجهات المُشتعلة، ولم تكن أي من الصحف العالمية تُغطي الأحداث حق التغطية.
في العاشر من مايو/أيار 2021، وبعد اشتعال المواجهات في كافة أرجاء فلسطين، ودخول شق المقاومة من قطاع غزة على الخط، استغلت المنافذ الإعلامية الكُبرى الحدث لعرض سردية الاحتلال، ولتنقل صورة عكسية لميدان المواجهة، من كونها بدأت ضد شباب عُزّل إلى مواجهة صاروخية وعملية عسكرية جويّة من غزة.
هذه المنافذ الإخبارية، لم تنقل الأحداث كما هي على أرض الواقع، بل لجأت إلى أساليب معينة في صياغة العناوين والأخبار، لتعرض سردية الاحتلال أو على الأقل لتتجنب عرض الأخبار كما هي، في محاولة منها للتأثير على الرأي العام العالمي، الذي كان يُتابع السردية مُباشرة على أرض الواقع، دون تأثير أي مؤسسة أو حزب أو قيادة.
ونشر "مسبار" عددًا من المواد التي حاول من خلالها تعريف المصطلحات الشائعة في عالم الأخبار الزائفة Fake News مثل الأخبار الخاطئة Disinformation والأخبار المغلوطة Misinformation والانحياز Bias والانحياز التأكيدي Confirmation Bias.
وحاولت بعض المواقع والوكالات الإخبارية التلاعب بالعناوين الإخبارية وصياغة الأخبار على مواقعها وعلى مواقع التواصل الاجتماعي عند نشرها، للتأثير على الرأي العام.
رويترز
"فلسطينيون يرمون الحجارة على سيارة إسرائيلية، ويتسببون في اصطدامها، في وقت غليان الأحداث في القُدس".
نَلحظ في هذه التغريدة وفي هذا الاختصار للأحداث محاولة تغيير السردية لما يحصل على أرض الواقع، مع فصل الحادثة عن سياقها في القدس، إذ كان المستوطنون يهاجمون الفلسطينيين العزل في الحرم القدسي وحي الشيخ جراح محاولين استفزازهم، وبهذه الصياغة يصير التركيز على الحدث وحده، دون الأحداث المؤدية إليهِ، وأيضًا، مع اقتطاع كامل في وصف الخبر إلى أنّ سائق السيارة حاول دهس الفلسطينيين في الشارع، وكيف أنّ شرطة الاحتلال هرعت إلى حماية المستوطن ورفعت السلاح في وجه المدنيين العُزل في الشارع.
أسوشيتد برس
أما وكالة الأنباء الأميركية أسوشيتد برس، وفي تغطيتها للتصعيد على قطاع غزّة، استخدمت كلمات تُبرئ الاحتلال من فعل القصف في محاولتها توصيف قتل 24 فلسطينيًّا منهم 9 أطفال في القطاع.
وجاء الخبر على حسابي تويتر العربي والإنجليزي للوكالة كالآتي:
"قتل ما لا يقل عن 20 شخصًا، بينهم تسعة أطفال، في غزة خلال قتال مع القوات الإسرائيلية، حسبما أفاد به مسؤولون في وزارة الصحة بقطاع غزة، ولم تُدل الوزارة بتفاصيل حول أسباب الوفاة".
نُلاحظ هنا أنّ صياغة الخبر، لا تُلقي بمسؤولية قتل الأطفال على قوات الاحتلال، وتحاول تبرئته أولًا بالقول إنّ أسباب الوفاة غير موجودة، وثانيًا بإشارتها إلى أنّ موت الفلسطينيين، كان قد حصل في "قتال" بين الفلسطينيين والإسرائيليين، ووضع الاثنين على قدم سواء، في حين أنّ قوات الاحتلال استهدفت عددًا من الأماكن في قطاع غزة بالطائرات الحربية وطائرات الاستطلاع، وأدى هذا القصف إلى استشهاد 32 فلسطينيًّا حتى هذه اللحظة بينهم 10 أطفال وامرأة، فيما أصيب أكثر من 220 مواطنًا.
وفي خبرٍ آخر، يُناقض الخبر الأول، تنشر أسوشيتد برس، أنّ 28 فلسطينيًا يموتون بسبب ضرب إسرائيل لحماس، وهنا تستخدم الوكالة كلمات مثل Die بدلًا من Killed في وصف غارات الاحتلال، أمّا في وصفها لأثر صواريخ المقاومة الفلسطينية، فهي تستخدم الصياغة التالية "الصواريخ تقتل إسرائيلييْن Rockets Kill 2 Israelis"، وتبدأ صياغة العنوان أولًا بذكر صواريخ المقاومة الفلسطينية، قبل ذكرها لغارات الاحتلال، التي قتلت عددًا أكبر من الفلسطينيين.
ويأتي هذا الترتيب في المعلومات في محاولة إظهار أنّ إسرائيل في حالة دفاع عن نفسها، وليست في حالة مواجهة مع سُكان أصليين يعيشون تحت الاحتلال. والأهم من ذلك كله، تحاول المنصات الإعلامية إظهار أنّ المواجهة العسكرية فقط ضد حماس، وبالتالي تكون مُبررة، خصوصًا في تصويرها على أنّها حركة إرهابية في السياق الأوروبي والأميركي، وهذا النشر، يهدف إلى محاولة نقل ميدان الصراع إلى غزة فقط بدلًا من الجبهات المشتعلة ضد قوات الاحتلال في جميع أنحاء فلسطين.
وفي إطار نفس التلاعب بالكلمات، نشرت وكالة دويتشه فيله الألمانية على موقعها على تويتر الآتي:
“مسؤولون في وزارة الصحة الفلسطينية في قطاع غزة يقولون إنّ 20 شخصًا، من ضمنهم تسعة أطفال، قتلوا في قتال مع إسرائيل”.
وجاء الخبر بعد زيادة التصعيد ضد قطاع غزة، وسعت الوكالة الألمانية لتغيير الحقيقة قصدًا، وهو ما يسمى بالـ Disinformation، إذ يُظهر الوصف المرفق للخبر أنّ الفلسطينيين في غزة وقوات الاحتلال في حالة قتالٍ متساوٍ، وأنهم يتواجهون بقوة متوازية، في حين أنّ قوات الاحتلال تشن غارات جوية على مواقع ومنازل ومراكز مدنية في قطاع غزة، وهو ما يتسبب في قتل الأطفال.
ذا نيويورك تايمز
تكمن أهمية الكلمات وصياغتها في السياق الإخباري ومقدار تكثيفها لأهميتها وأثرها على القارئ على مواقع التواصل الاجتماعي، الذي يكتفي غالبًا بقراءة العناوين أو التغريدات السريعة بدلًا من الاطلاع على الأخبار الكاملة.
ونشرت صحيفة ذا نيويورك تايمز الأميركية خبرًا عاجلًا مفاده "أطلقت ميليشيات في غزّة الصواريخ على إسرائيل، والشرطة تُحارب المحتجين الفلسطينيين في القدس، في تصعيد مُفاجئ، ما يربك إسرائيل".
جميع العناوين والأخبار التي سبق وذكرناها، تُحاول وضع قوات الاحتلال في موضع "المفعول بهِ" وذلك بتغيير مواضع الكلمات واختيارها، فصحيفة ذا نيويورك تايمز هنا، تُسمي الفلسطينيين في غزة وقوات المقاومة فيها على أنهم "ميليشيات"، وتسمي ما يحصل في القدس "قتالًا"، وهو ما يغير في الوقائع، بما يخدم انحياز هذه الصحف مع رواية وسردية دولة الاحتلال.
كل فعل تغيير في الحقيقة وتبديل في ترتيب حدوثها، هو تلاعب بها، في محاولة تأثير مقصودة على الرأي العام. وفي الوقت الذي تدعي فيه بعض الوكالات أعلاه محاربتها للأخبار الزائفة بكل أشكالها، نراها اليوم، تكتب وتنشر وتروّج هذه الأخبار ومنحازة لطرفٍ دون آخر، وباختلال إعلامي مُتخبط لتبرير قتل المدنيين والأطفال في فلسطين وقطاع غزّة.
المراجع: