` `

كيف يؤدي استغلال القصص الحقيقية وتعديلها في الأعمال الفنية إلى تشويهها وتضليل الجمهور؟

وئام صاحب وئام صاحب
ثقافة وفن
28 نوفمبر 2024
كيف يؤدي استغلال القصص الحقيقية وتعديلها في الأعمال الفنية إلى تشويهها وتضليل الجمهور؟
غياب الدقة عن أعمال فنية مبنية على قصص حقيقية يشوهها (Getty)

في عالم الفن، تُعد تصنيفات مثل "مبني على قصة حقيقية" أو "مستوحى من قصة حقيقية" أدوات تسويقية قوية لجذب اهتمام الجمهور، لأنها تضفي على العمل الفني مصداقية أكبر وتؤثر بشكل أعمق على المشاعر. 

وفقًا لدراسة نشرت عام 2017، بعنوان “مبني على قصة حقيقية: جعل الناس يصدقون ما لا يصدق”. حلل الباحثون (كريستين دييل، جوزيف سي نونيس، فرانشيسكا فالسيسيا)، تفاعل الجمهور مع القصص المعاد صياغتها فنيًا، ولوحظ أن التصنيف "مبني على قصة حقيقية" يمكن أن يُساهم في تعزيز مصداقية العمل ويؤدي إلى استجابة إيجابية من قبل الجمهور، خاصة عندما تكون القصة غير شائعة أو تحتوي على أحداث غير معتادة.

دراسة حول تأثير استناد القصص على أحداث حقيقية في تصديقها من قبل الجمهور
دراسة حول تأثير استناد القصص على أحداث حقيقية في تصديقها من قبل الجمهور

وفي التفريق بين المصطلحين، تشير الناقدة السينمائية آن هورناداي إلى أنه بينما يحيل مصطلح "مستوحى" إلى حرية في إحداث تغييرات في العمل الفني، فإن وسمه بـ "مبني على قصة حقيقية" يعبر عن التزام أكبر بالدقة.
ومع ذلك، فإن هذه الوسوم لا تحول تمامًا دون طرح إشكاليات إعادة صياغة الواقع فنيًا، فبعض الأعمال المبنية على قصص حقيقية تتضمن تفاصيل تختلف عن الواقع، ولا تلتزم تمامًا بالدقة، مما يشوّهه بدلًا من حفظه. ولا يختلف الأمر مع تلك "المستوحاة من قصص حقيقية"، إذ يغلب أحيانًا، فيها الجانب الخيالي على الواقعي إلى درجة تضليل الجمهور. وفي كثير من الأحيان، يتم نشر المواد الترويجية للعمل الفني دون الإشارة إلى درجة ارتباطه بالواقع، ما قد يؤدي إلى إعادة تشكيل الفهم العام للأحداث والسياقات لدى الجمهور.

لا تقتصر عملية إعادة محاكاة الواقع وتعديله على الأفلام السينمائية فحسب، بل تنتشر هذه الممارسة عبر قوالب وأشكال فنية مختلفة. نستعرض نماذج منها.

اللوحات الفنية

عادةً ما تعكس اللوحات الفنية مشاهد واقعية لمعارك وأحداث تاريخية شهيرة، وقد لا يتم تصويرها بالدقة المطلوبة بالضرورة. من أمثلة ذلك لوحة "نابليون يعبر جبال الألب (Napoleon Crossing the Alps)" لجاك لوي دافيد (1801)، والتي تُعد من أشهر اللوحات التي تمثل نابليون بونابرت. وهي تستند إلى حدث حقيقي وتوثق حلقة شهيرة من الحملة الإيطالية الثانية (1799-1800) بقيادة بونابرت ضد النمساويين، حيث قرر نابليون عبور جبال الألب في ظروف مناخية قاسية باستخدام ممر سانت برنارد، مفاجئًا خصومه. وقد حقق انتصارًا في معركة مارينغو في 14 يونيو 1800.
تُظهر اللوحة بونابرت في شكل أسطوري مهيب، وفي صورة المنتصر البطل.

لكن في لوحة بول ديلاروش (1848) ظهر بونابرت وهو يعبر جبال الألب على بغل وبمساعدة مرشد. ولم يكن ملفوفًا بعباءة تذروها الرياح، بل كان يرتدي معطفًا بسيطًا. ويمكن ملاحظة التناقض بين اللوحتين.

صورة متعلقة توضيحية
لوحة "نابليون يعبر جبال الألب (Napoleon Crossing the Alps)"/ جاك لوي دافيد 1801
صورة متعلقة توضيحية
لوحة أخرى لعبور نابليون جبال الألب/ بول ديلاروش (1848)

الكتب والروايات المبنية على قصص حقيقية

بينما من المتوقع أن تكون الروايات خيالية أو مستوحاة من قصص حقيقية جرى تعديلها، فإن كتب السيرة الذاتية أو المذكرات تُعد تصريحًا مسبقًا بأن ما تحتويه هو الحقيقة الموثقة لتجارب عايشتها الشخصيات. وبالتالي، فإن أي تعديل في الأحداث يُعتبر تشويهًا متعمدًا للحقيقة من شأنه تضليل الجمهور.

مثال على ذلك كتاب "مليون قطعة صغيرة" الذي نُشر عام 2003 ضمن تصنيف المذكرات لجيمس فراي. في الكتاب، يصف فراي بالتفصيل تجاربه المروعة مع الإدمان على المخدرات والكحول ووقته في مركز العلاج. وقد اختارته أوبرا وينفري لنادي الكتاب الشهير الذي تبثه على الهواء، مما جعله يتصدر قوائم أفضل الكتب مبيعًا.

في أكتوبر 2005، ظهر فراي في برنامج “The Oprah Winfrey Show” للترويج لكتابه، الذي قالت وينفري سابقًا إنها "لم تستطع التوقف عن قراءته"، واصفة إياه بأنه "مذكرات مؤلمة للغاية وصادقة للغاية...".

لكن تحقيقًا صحفيًا أثبت أن فراي قد بالغ وزوّر أجزاء كبيرة من الكتاب، ما دفع أوبرا إلى استضافته مرة أخرى. خلال المقابلة، واجهته مباشرة بأنه "خان ملايين القراء" وأنها شعرت بأنها "خُدعت" بالادعاءات الواردة في كتابه. وقد اعترف فراي بأنه قام بتغيير وتزييف تفاصيل قصته.

صورة متعلقة توضيحية
كتاب "مليون قطعة صغيرة"

الدوافع الكامنة وراء تغيير القصص الحقيقية

هناك عدة أسباب قد تدفع صناع الفن إلى تحريف الحقائق أو تغيير تفاصيل الأحداث الحقيقية في أعمالهم، لكنها تختلف في درجة تشويه الواقع وتضليل الجمهور.

تعمل الأعمال الفنية عادةً في أسواق تنافسية تهتم بالمحتوى الجاذب الذي يثير انتباه المشاهدين، مما يستدعي إضافة لمسات فنية لزيادة الإثارة، قد تصل أحيانًا إلى تشويه الحقيقة وتضليل الجمهور.

على نحو أكثر تعقيدا تأتي الأجندات الفكرية والسياسية لتضغط على القصة الأصلية، وتعمل على تغييرها بما يتناسب مع وجهات نظر سياسية أو فكرية معينة، ففي المثال السابق تم تصوير نابليون في ثوب البطل الذي لا يهزم دون الإشارة إلى بعض الجوانب الإنسانية المرتبطة بالنقص البشري.

في بعض الأحيان لا تعود أسباب تغيير الأحداث إلى دوافع مقصودة، فقصور البحث قد يلعب دورًا مهمًا في إغفال بعض التفاصيل أو منحها زخمًا أكبر، إذ من الممكن أن يرتكب صناع العمل بعض الأخطاء البحثية للاعتماد على مصادر غير دقيقة، أو قد لا تتوفر مصادر كافية في حال تناوله قصصًا قديمة، مثل ما حدث مع المسلسل المصري "الملك" عام 2021، والذي تم إيقافه لمراجعته تاريخيًّا.

صورة متعلقة توضيحية
توقف العمل على مسلسل الملك لمراجعته تاريخيًّا

التأثير السلبي ومستويات التضليل للقصص الحقيقية المعاد صياغتها فنيًّا

تتباين مستويات التضليل بحسب طبيعة التغييرات التي تم إحداثها في القصة الأصلية، ففي الأمثلة السابقة لاحظنا أن بعض الأعمال الفنية تم تعديلها لأغراض درامية أو تحريرية كإضفاء بعض الإثارة أو تبسيط بعض التفاصيل، وهي تغييرات يمكن التنبؤ بمحدودية تأثيراتها على رؤية الواقع. بينما عندما يتم تغيير القصة بشكل جذري أو تكييفها بحسب إيديولوجيات معينة، سيتسبب ذلك في تشويه الحقائق وتضليل الجمهور. 

ومن مظاهر هذا التضليل، تعزيز الصورة النمطية التي يتبناها الجمهور بالفعل، فبدل أن يكون العمل الفني دقيقًا في عرض القصص الحقيقية لتصحيح المفاهيم المغلوطة وكسر الصور النمطية الخاطئة، قد تلعب عملية تحريف القصص دورًا عكسيًّا عن طريق تعزيز الأفكار المسبقة، مما قد يعيق التفكير النقدي.

من التأثيرات السلبية التي يمكن ملاحظتها أيضًا هي تشويه الإدراك العام أو الذاكرة الجماعية، خاصة في الأعمال التي توثق أحداثًا تاريخية. فقد يتلقى الجمهور خاصة من غير المتخصصين أو الشباب، الرسالة الفنية كحقيقة مطلقة، مما يخلق فهمًا مشوهًا للأحداث أو الشخصيات. 

إذ كشف النقاد أنّ فيلم “Braveheart” الذي أنتج عام 1995، صَور أحداثًا ومشاهد لم تجر في الواقع غالبًا، على غرار لقاء ويليام والس مع الأميرة إيزابيلا، وطلاء الوجه الأزرق الذي لم يكن يستخدم في ذلك العصر. واعتبروا أنّ الزي الاسكتلندي التقليدي الذي ارتداه الممثلون، لم يكن دارجًا، حينها.

أما فيلم الجانب الأعمى The Blind Side" 2009"، وهو فيلم درامي مقتبس عن قصة حقيقية للاعب كرة القدم الأميركي مايكل أوهر، والذي احتضنه زوجان ثريان من البيض عندما كان مراهقًا وساعداه في شق طريقه نحو النجاح الرياضي، فقد رفع اللاعب دعوى قضائية على العائلة، وزعم أنّها كذبت بشأن تبنيه ووضعته بدلًا من ذلك تحت وصاية، مكنتهم من السيطرة على أمواله وأهم قراراته. 

كما اتهمهم بعدم تمكينه من الأموال التي كسبوها من الفيلم، وأشار إلى أنه قد تم تصويره كشخص سلبي وغبي. 

وأصدر قاضي محكمة الميراث بولاية تينيسي حكمًا بحل وصاية عائلة “توهي” التي دامت قرابة 20 عامًا على أوهر في سبتمبر/أيلول 2023. وبقيت القضية قيد النظر لمعالجة مزاعم أوهر.

إلى جانب الجدل القانوني، تعرض الفيلم لانتقادات واسعة لتكريسه الصور النمطية العنصرية. يرى نقاد أن الفيلم يعزز فكرة أن الرياضيين السود، مثل أوهر، لا يمكنهم النجاح إلا بمساعدة "محسنين بيض أثرياء" مثل عائلة توهي. هذا النوع من السرد يعيد إنتاج التحيزات الثقافية ويعزز الفجوة العرقية بدلًا من تحديها.

ماهي حدود تعديل القصص الحقيقية لطرحها في الأعمال الفنية؟

من الشائع في مجال صناعة الفن إحداث تغييرات على بنية العمل الفني المقتبس عن قصص أو أحداث حقيقية، بل وتُعتبر هذه التغييرات ضرورية في بعض الحالات لإيصال الأفكار المطلوبة. مع ذلك، تقع هذه العملية في منطقة شائكة بين إشكالية الإبداع والمسؤولية الأخلاقية تجاه أصحاب القصة من جهة والجمهور من جهة أخرى. إذ قد يجد صانع العمل نفسه في مواجهة مأزق قانوني بسبب تغييرات يعترض عليها أصحاب القصة. 

من ناحية أخرى، قد تؤدي تلك التغييرات إلى تشويه الحقيقة وتضليل الجمهور، ما قد يتسبب في رفض العمل أو إلغائه إذا تم اكتشاف الحقائق لاحقًا.
يساعد التصريح الدقيق والمسبق بتصنيف العمل ودرجة ارتباطه بالواقع على تجنب هذه المعضلة الأخلاقية. فالتنويه إلى التعديلات التي تم إجراؤها يُساهم في توعية الجمهور ومنعهم من التسليم التام بالقصة كما هي. 

كما أن وضع إخلاء مسؤولية في بداية أو نهاية العمل لتوضيح الفرق بين الحقيقة والخيال يُعزز الشفافية. ففي الأمثلة السابقة تم الإشارة إلى التعديلات التي تم اعتمادها في مسلسل تشرنوبل في نهايته. كذلك، في الطبعات التالية من كتاب "مليون قطعة صغيرة"، أضاف جيمس فراي ملاحظة اعترف فيها بتغيير أجزاء من قصته، وتم تغيير تصنيفه من مذكرات إلى خيال.

يقع على عاتق الجمهور أيضًا تحري الحقيقة من خلال الاطلاع على التفاصيل الحقيقية للقصة الأصلية، بدل الانسياق خلف ما يمليه صناع العمل وتبني النسخة الفنية كما هي دون تمحيص.

اقرأ/ي أيضًا

هل استقر صبري سعد في هولندا بعد مشاركته في فيلم همام في أمستردام؟

هل حول آصف عزيز مبنى تروكاديرو في لندن إلى مسجد؟

الأكثر قراءة