يواجه لبنان منذ سنوات سلسلة من الأزمات المتشابكة التي أثرت بعمق على نسيجه الاجتماعي والاقتصادي. وشهدت البلاد انهيارًا ماليًا حادًا، ترافق مع الوضع الأمني المتردي، وجائحة كوفيد-19، وانفجار مرفأ بيروت، ومؤخرًا الحرب الإسرائيلية على لبنان، ليصنّف البنك الدولي الأزمة المالية اللبنانية كواحدة من أشد الأزمات العالمية منذ منتصف القرن التاسع عشر.
ضمن هذه الظروف يستضيف لبنان عددًا كبيرًا من اللاجئين السوريين، يعيش 90% منهم تحت خط الفقر بحسب الأمم المتحدة، مما يزيد من حدة التنافس على الموارد المحدودة، ويفاقم التوترات بين اللاجئين والمجتمع المضيف.
رافق هذا المناخ الصعب، موجة واسعة من المعلومات المضللة، ورصد مسبار في تقارير سابقة عدة حملات مضللة، رافقت الأوضاع الصعبة التي يعشيها لبنان، منها حملات مضللة ضد اللاجئين السوريين، وحملات أدت فيها الأخبار الكاذبة لتعزيز حالة الاستقطاب والانقسام في البلاد.
المعلومات المضللة المرتبطة بالمساعدات المالية تهدد التماسك الاجتماعي في لبنان
مؤخرًا فحص تقرير معمق أعدته مؤسسة Key Aid Consulting بالتعاون مع CAMEALEON، دور المعلومات المضللة المرتبطة بالمساعدات المالية في التأثير على التماسك الاجتماعي في لبنان. التقرير أشار إلى أن المعلومات المضللة خصيصًا حول المساعدات النقدية والقسائم التي تقدمها المنظمات الإنسانية، كانت عاملًا رئيسًا في تأجيج التوترات وتهديد التماسك الاجتماعي للبنان.
يشير التقرير إلى أنّ الأزمات المتتالية للبنان أدت إلى انخفاض قيمة العملة اللبنانية، وتزايد معدلات الفقر بين السكان اللبنانيين، إذ يعيش نحو 75% من الأسر اللبنانية في الفقر. على الجانب الآخر، اللاجئون السوريون الذين يشكلون 1.5 مليون نسمة في لبنان، منهم نصف مسجلين رسميًا، يعانون أيضًا من ظروف معيشية قاسية بحسب تقارير الأمم المتحدة.
التوترات بين اللبنانيين واللاجئين تصاعدت مع زيادة الطلب على الموارد المحدودة مثل الكهرباء، المياه، والخدمات الصحية، وانتشرت سلسلة من المعلومات المضللة، والكاذبة مفادها أن اللاجئين يتلقون مساعدات إنسانية تفوق احتياجاتهم على حساب المجتمعات المضيفة.
المعلومات المضللة: محرك فاعل للانقسام الاجتماعي
المعلومات المضللة كانت وما زالت من أبرز الأسباب التي تغذي التوترات الاجتماعية في لبنان، وزادت من حدة الشائعات والوصمة الاجتماعية والأحكام المسبقة اتجاه الناس بعضهم البعض. وحدد التقرير ثماني موضوعات رئيسية ترتبط بالمساعدات النقدية والقسائم، والتي تؤثر على فهم أفراد المجتمع في لبنان وتصوراتهم حول اللاجئين والفئات الأخرى.
إشاعات حول التحيز في توزيع المساعدات وشعور اللبنانيين بالظلم الاجتماعي
يرى التقرير أن العديد من اللبنانيين يعتقدون أن اللاجئين السوريين يحصلون على مساعدات نقدية أكثر وأفضل جودة، مثل تسلمهم للمساعدات بالدولار، بينما يتلقى اللبنانيون مبالغ بالليرة اللبنانية. هذا الاعتقاد عزز الشعور بعدم العدالة، إلا أن الحقيقة تشير بحسب التقرير بأنه قبل مايو/أيار 2023، كانت المساعدات للسوريين تُصرف غالبًا بالليرة اللبنانية، ولكنها الآن تُصرف بالدولار للجميع.
شائعات ومعلومات مضللة حول التنافس في سوق العمل
يُنظر إلى اللاجئين السوريين كعوامل ضغط في سوق العمل، إذ يُعتقد أنهم يقبلون أجورًا أقل بفضل المساعدات التي يتلقونها، مما يخلق منافسة غير عادلة مع العمالة اللبنانية. ويشر التقرير أن الدراسات تُظهر أن المساعدات النقدية لا تؤثر بشكل كبير على سلوك العمل. المنافسة في سوق العمل بين اللبنانيين والسوريين ناتجة عن الأزمة الاقتصادية ونقص الوظائف، وليس بسبب تدفق المساعدات.
استغلال النظام والمزايا الاجتماعية وشائعات ثقافية
يرى التقرير أن هناك شائعات متداولة بكثرة تشير بأن الأسر السورية تلد أطفالًا أكثر للحصول على مساعدات أكبر، أو أن بعض الأسر اللبنانية تحاول تغيير ظروفها المعلنة لتتناسب مع معايير الاستحقاق، ويشير التقرير أنه لم يكن هنالك أي أدلة تدعم هذه الادعاءات، إذ إن نظام توزيع المساعدات يستخدم نماذج معقدة لتحديد المستحقين، مما يجعل التلاعب بالموضوع صعبًا.
نظريات مؤامرة تحيط بالخطاب حول اللاجئين السوريين
يشير التقرير أن هناك تصورات لا تستند لدليل تشير بأن المساعدات الإنسانية تُستخدم لتحقيق أهداف سياسية تهدف إلى إبقاء اللاجئين السوريين وتوطينهم في لبنان على المدى الطويل. ولكن التقرير يرى بأنه لا توجد أدلة تدعم هذه الادعاءات، وأن برامج المساعدات تهدف بشكل أساسي لتلبية الاحتياجات الإنسانية، وأن التمويل الدولي يركز على دعم الفئات الأكثر ضعفًا بغض النظر عن جنسيتهم.
كيف تنتشر المعلومات المضللة حول المساعدات المالية؟
كشف التقرير عن قنوات متعددة لنشر المعلومات المضللة حول المساعدات المالية منها:
التواصل المباشر: غالبًا ما تبدأ المعلومات المضللة خلال التفاعل بين المستفيدين والعمال الاجتماعيين. فنقص الشفافية في تفسير معايير المساعدات يجعل المستفيدين يفسرون الأمور بشكل خاطئ، مما يؤدي إلى نقل معلومات غير دقيقة.
وسائل التواصل الاجتماعي: منصات مثل فيسبوك وإكس وواتساب تلعب دورًا محوريًا في نشر الشائعات. إذ يتم تداول الرسائل بسرعة، مما يجعل التصورات الخاطئة تنتشر على نطاق واسع، مع صعوبة في تفنيدها بنفس السرعة.
وسائل الإعلام التقليدي: ذكر التقرير بأن بعض وسائل الإعلام المحلية تروج لتقارير منحازة تتناول اللاجئين السوريين بطريقة تؤجج المشاعر السلبية وتدعم الشائعات.
تأثير مباشر للمعلومات المضللة على التماسك الاجتماعي في لبنان
كشف التقرير أن انتشار المعلومات المضللة في لبنان خاصة فيما يتعلق بالمساعدات النقدية، خلّف آثارًا عميقة على النسيج الاجتماعي، إذ ساهم في تقويض التماسك المجتمعي وتعزيز الانقسامات، سواء من خلال أحداث ملموسة أو تأثيرات معنوية زادت من ضعف الأمن الاجتماعي والثقة بين أفراد المجتمع والمؤسسات.
وأسفرت المعلومات المضللة مثلًا عن تصاعد وتيرة العنف بين اللبنانيين والسوريين، حيث وقعت حوادث عديدة تخللها تدمير ممتلكات اللاجئين واعتداءات مباشرة. بالإضافة إلى ذلك، غذّت الشائعات بيئة مشحونة بخطاب الكراهية، سواء عبر وسائل التواصل الاجتماعي أو وسائل الإعلام، مما عزز التوتر بين فئات المجتمع المختلفة.
لم تتوقف التداعيات عند هذا الحد، إذ دفعت بعض الأفراد إلى تبني ممارسات ملتوية، كتزييف المعلومات الشخصية، بهدف تحسين فرص الحصول على المساعدات، ما أدى بدوره إلى تعقيد العمليات الإدارية وتعميق فجوة الثقة بين المجتمعات المحلية والجهات الداعمة.
كيف يمكن مواجهة أزمة المعلومات المضللة في لبنان؟
أوصى التقرير بمجموعة من التدابير العملية لمعالجة تأثير المعلومات المضللة وتعزيز التماسك الاجتماعي في لبنان.
تشمل هذه التدابير تعزيز الشفافية من خلال قيام المنظمات الإنسانية بتوضيح معايير الاستحقاق وآليات توزيع المساعدات، باستخدام أدوات مثل جلسات التوعية والرسائل المباشرة لتقليل سوء الفهم وتعزيز الفهم المشترك. كما أكد على أهمية التواصل الفعّال من خلال الاستماع لمخاوف المجتمعات المحلية والرد عليها بوضوح، مما يسهم في بناء الثقة وإغلاق دائرة التغذية الراجعة.
إضافة إلى ذلك، دعا التقرير إلى إقامة شراكات مع وسائل الإعلام المستقلة والموثوقة لدحض الشائعات ونشر المعلومات الدقيقة، واستثمار التكنولوجيا عبر تطوير منصة رقمية مركزية تقدم معلومات شاملة ومحدثة حول المساعدات لتوجيه الأفراد بشكل أفضل والحد من اعتمادهم على مصادر غير موثوقة. وشدد على أهمية إنشاء منصات متخصصة للتحقق من المعلومات تعمل كمرجع موثوق لمراجعة الشائعات وتصحيحها.
وفي إطار بناء القدرة على مقاومة المعلومات المضللة، اقترح التقرير تنظيم ورش عمل مجتمعية لتعزيز استراتيجيات الكشف عن المعلومات المضللة ومقاومتها قبل انتشارها. يمكن لهذه الورش أن تعرض أمثلة شائعة على الأخبار الزائفة وأساليب التضليل، مما يساعد المشاركين على التعرف عليها بشكل أفضل.
كما يمكن دمج هذه الجهود مع أدوات رقمية مثل روبوتات محادثة تعمل بالذكاء الاصطناعي مصممة خصيصًا للسوريين واللبنانيين، لتعرض المستخدمين لسيناريوهات متنوعة وتزودهم بمهارات التعامل مع مختلف أنواع المعلومات. وأقر التقرير بأن استخدام التقنيات الجديدة يحمل فوائد، ولكنه ينطوي أيضًا على مخاطر، مما يجعل النهج الهجين الذي يجمع بين التدخل البشري والأدوات التكنولوجية ضرورة لتقليل هذه المخاطر وتحقيق تأثير إيجابي مستدام.
اقرأ/ي أيضًا
حملة UNDO تستهدف السوريين في لبنان بمعلومات مضللة وقصص مُختلقة
آخرها الحرب على لبنان: الأخبار الزائفة تعزز حالة الانقسام والاستقطاب السياسي خلال الأزمات