` `

التصيّد الرقمي: حول معركة الحقيقة في عصر الخداع المتعمّد

التصيد في شكله الأصلي هو استخدام المنشورات والرسائل كطعم لدفع المستخدمين إلى التقاطه من خلال الرد عليه، دون أن يدري هؤلاء بأنهم تعرّضوا للخداع.
نور حطيط نور حطيط
تكنولوجيا
17 يوليو 2021
التصيّد الرقمي: حول معركة الحقيقة في عصر الخداع المتعمّد
يتميّز المتصيّد بشخصيته السّايكوباثية (Getty)

كيف يمكن للمستخدم أن يتنبّه للحقيقة في قارة رقمية عملاقة؟ لا سيّما وأنَّه في محصلة التطور التاريخي للتكنولوجيا برزت عوالم متنوعة كثيرة، منها ما هو حقيقي ومنها ما هو زائف. 

وكم صار سهلًا -في زمن التهويم المعلوماتي- أن يقع ذلك المستخدم فريسة التضليل، كونه لا يملك من عُدّة التدقيق وامتلاك المعرفة بالكتابة الإلكترونية، ومهارات النقد والتفكير المنطقي التي ستنجيه لاحقًا من شرك الحسابات والمواقع المخادعة. 

وإذا كان السؤال الأهم، اليوم، في عصر التكنولوجيا يدور حول فلك الحقيقة، فلا بدّ من فهم أساليب وتكتيكات الخداع؛ ليكون المستخدم على وعي تام بما يدور حوله، وليجترح المعرفة ولو القليلة منها، بمواقع التواصل الاجتماعي وتوابعها لتجنب الوقوع في فخّ التصيّد الإلكتروني. فما هو "التصيّد"؟ وكيف يتم استخدامه للإيقاع بنا؟

قصدية التّصيّد

إذا كانت "الإيتيقا" تتجلّى في الحياة الإنسانية المُعاشة بمجموعة من القيم التي تعبّر عن روح العصر، فإنَّ تطورها في العالم الرقمي تمظهَرَ على شاكلة محدّدات وطرق للوصول إلى الحقيقة. لذلك إنَّ أيَّ فعلٍ أو سلوكٍ لا أخلاقي، يمكن أن يقود إلى ضرْبٍ من التزييف والتضليل، ويجعل من الحقيقة هشّة، غير واضحة. وإنَّ أحد أهم السلوكيات اللاأخلاقية السلبية التي يجب تسليط الضوء عليها هي: التصيّد.

يعرّف الدكتور حيدر المصدّر في كتابه الدعاية على الشبكات الاجتماعية التصيّد بأنّه: “استخدام المنشورات والرسائل كطُعمٍ لدفع المستخدمين إلى التقاطه من خلال الردّ عليه، دون أن يدري هؤلاء بأنهم تعرضوا للخداع”. ويشير في معرض كتابه بأنَّ التصيد هو “سلوك يقوم بجرّ روّاد التواصل الاجتماعيّ إلى الحروب الوهمية ونشر الكراهية وخطاب العنف، عبر بثّه لسُموم التعليقات الاستفزازية لأهداف دعائية يقف التشهير على رأسها”.

ويَعتبر مصدّر التّصيد، ظاهرة تستفيد من خاصيّة التّفاعل، باستخدام محتوى مشحون بالعدائية من جانب، والعاطفة من جانب آخر، فيكون الهجوم مقصود بهدف إثارة استجابة شديدة من مجموعة مستخدمين لإثارة الجدل فيما بينهم، وبالتالي استدراجهم إلى معارك وهمية لا تنتهي. ويرى فيها تشويشًا متعمدًّا يحدث على الإنترنت في سياق خطاب اجتماعي بين مستخدمين، لا تربطهم علاقات في البيئة الحقيقية الفعلية.

ويستخلص نوعين من التصيد: الأول؛ متخفٍّ مجهول، فقد سمحت التكنولوجيا لسلوك التصيد بالانتشار خصوصًا وأنّها تتيح خاصيّة القدرة على إخفاء الهويّة وميزة السريّة التي يتم استغلالها من قِبل الشخص المُتصيّد، وعلى شكل مستخدم مجهول يستطيع هذا المتصيد أن ينشر التعليقات المضللة ويعمد إلى نشر الكراهية وزراعة الفتن. أمّا النوع الثاني فهو علنيّ مفتوح. وقد أشارت الصحافية والكاتبة HANNAN بأن النوع الثاني يساهم في نشر الشعبوية بمعناها السيء بين رواد التواصل الاجتماعي، ويقول المصدّر في هذا الصدد  إن “الشعبوية باتت تحمل قوّة إقناع تتعدى في كثير من الأحيان قدرة وجاذبية الحقيقة نفسها. ومع حالات الخلاف المستعر، تُعتبر الواقعية والدّقة ضربًا من المغامرة غير المحسوبة، فالقليل من المستخدمين يلتفتون إلى المنشورات الموضوعيّة المعمّقة وكثيرٌ منهم تستهويه منشورات وتعليقات قصيرة وتهكّمية”. ويضيف: "إن المنطق قد لا يستطيع تحصيل نتائج فعّالة خلال مواجهته للتصيد، والمُتصيّد المدعوم بجيش جرار قد يتمكّن من قيادة الشعبوية باتجاهات قد تتحول معها الحقيقة إلى زيف، والنقد إلى إساءة".

التّحايل الإلكتروني 

يتجاوز التصيّد حدود المستخدم العادي ليصل إلى بوابة السياسة. فمن جهة يتصيد الجمهور لرجال السياسة أو العكس ومن جهة أخرى يتصيد رجال السياسة لبعضهم، حتى أنَّ العديد من الوسائل الإعلامية التي تمّ توظيفها خدمة للأحزاب باتت تختفي بالتصيّد، خاصة تلك التي تعبث في خطابها مع المنافس السياسي فتهين وتضلل وتحط من قدره. 

ومن خصائص التصيد وفقًا لكتاب الدعاية الاجتماعية:

-الخداع والتصرف بطريقة مضللة، تؤثر بشكلٍ أو بآخر على العقل الإنسانيّ، الناقد والمنطقيّ ليصبح أكثر انفعالًا ومنساقًا نحو العواطف بغض النظر عن الحقائق التي تصبح مهددة بفعل بحر التضليل واللألاعيب التي يستخدمها المتصيّد.

-العدائية: عادةً ما يسعى المتصيد إلى نشر السموم والتعليقات العدائية لخلق جدل عقيم يؤثرّ على الصورة الواضحة للحقيقة، فيتقصّد مضايقة الآخرين ويدفعهم إلى ردود أفعال عاطفية بعيدة كل البعد عن المنطق.

- التشويش: يتضمن محتوى تافه وسخيف يهدف إلى جذب الانتباه، وبالتالي التشويش على النقاشات الأصلية المثمرة، وتتحول إلى جدل عقيم دون فائدة.

ويتميّز المتصيّد بشخصيته السّايكوباثية، التي تستغل حالة الانقسام على مواقع التواصل الاجتماعيّ، لتضلل الحقائق وتمارس العنصرية وتنشر الكراهية. وفي السياق عينه، ميّز الكاتب بين العديد من أنماط الشخصية التي يتميّز بها المتحايل، أبرزها:

-الشخصية الانتهازية: تُعتبر هذه الشخصية، استغلالية بالدرجة الأولى، تبحث عن القضايا التي تشكلّ منفذًا لها لتمرير أهدافها.

-الشخصية المخادعة أو المضللة: هي ثاني الأنماط التي تعجّ بها مواقع التواصل الاجتماعي، خاصّة فيسبوك، لدورها في استغلال المعلومات المضللة التي ترتبط بأحداث مشكوك في صحتّها، بهدف تحفيز خوف الجمهور، وبالتالي تحفيز مشاعر الكراهية. فعبر الاستفادة من الإشاعات والأخبار المزيّفة، تقوم هذه الشخصية باستدعاء مخاوف الأفراد، ليتمّ ربطها بجهة ما، كي تتم إحالته إلى سلوك تنافري.

-وأخيرًا شخصية المنتج: وتعمل على خلق مواد اتصالية تحرّض على العنف والكراهية، وهي مرتبطة بشخصية أخرى تسمّى "الموزّع"، التي تهتم بتوزيع هذه المواد ونشرها على مواقع التواصل الاجتماعيّ. ويرتبط هذان النوعان عادة بمؤسسات دعائية.

في التّلاعب وتفعيل الكراهية

ينتحل المتصيّد شخصية وهمية، ويعمد على نشر المعلومات المضللة واستغلال جهل المستخدمين لنشرها في كل المساحات الرقمية، ويمكن أن تؤدي استراتجية الخداع هذه، إلى ضرر واسع على نطاق المجتمع، من حيث محاولات المتصيد في التحريض على العنف وعلى الجدالات السيئة التي يمكن أن تؤدي إلى انقسامات اجتماعية. ومن أجل استغلال عاطفة الأفراد وإشعالها، يعمد المتصيد إلى استخدام استراتيجية الاهتمام، حيثُ يُظهر اهتمامًا بما يمرّ به المستخدمون.

أمّا استراتيجية الضحية التي يعتمدها المتصيّد فهي من الاستراتيجيات الأسهل والتي تحقق نجاحًا باهرًا في الوصول إلى أهدافه، فعبر الظهور كضحية يستغل عاطفة الجمهور وبالتالي يوجّه غضبهم وانفعالاتهم نحو جهات يسعى لإضرارها.

ويذكر المصدّر في كتابه وجود ست استراتيجيات تنفيذية غير مترابطة أو منسقّة، أقرب للتعبير عن أشكال للتصيّد، تتمثّلّ في:

  • الاستطراد مع المستخدمين: يتعمد المتصيد تضليل الفرد فيشغله عن الموضوعات الأساسية لأهداف تخصّه.
  • تفعيل الصدمات: يستخدم المتصيد أساليب صادمة، و خطابات ملتوية وكلامًا قاس ومنمقًا حسب الموقف، ممّا يؤدي إلى إثارة الصدمة في ذوات الجمهور.
  • استدعاء الكراهية والنفور: يركز المتصيّد على العاطفة، ويجرّ الكتل الشعبية إلى العنف، وعادة ما يتمّ استخدام هذه الاستراتيجية في الثورات لبخس ثقة الجمهور في تحقيق مطالبهم، وتحريف الخطابات والشعارات، خصوصًا وأنَّ مواقع التواصل الاجتماعيّ أتاحت لغير الملموس من الأحداث أن تصبح واقعًا يستجيب له الكثيرون.

يمكن لأيّ متصفّح لشبكات التواصل الاجتماعيّ أن يقع ضحية التصيّد الاحتيالي، ويُعدّ العقل النقدي أحد سُبل النجاة، فبطرده لكلّ الأفكار الدوغمائية، ومساءلته للحقائق التي تُعتبر مطلقة، يستطيع تجنب هجومات المتصيّدين، وآثارها النفسية والاجتماعية المترتبة على سلوكهم العدواني.

 

المصادر:

كتاب الدعاية على الشبكات الاجتماعية لحيدر المصدّر

الأكثر قراءة