منذ سنوات مضت، نشرت ويكليكس بإدارة جوليان أسانج، وثائق مصدرها رسائل بريد إلكتروني مقرصنة، هزّت العالم، واتهمت هيلاري كلينتون بأنّها وراء خسارتها في الانتخابات الأميركية السابقة. هذه الحادثة جعلت من مفهوم التنقيب الإلكتروني الذي يوازي التنقيب عن المعادن والمواد الطبيعية الثمينة، مفهومًا خاضعًا للدراسات التكنولوجية الحديثة، وأحرز صيتًا كبيرًا بين الذين يشتغلون في الدّعاية، ليبرز سؤال هام حول كيفية التّنقيب الإعلاني بلغة تكنولوجية.
بدايةً لا بدَّ من توضيح بسيط لمصطلح التنقيب الإعلانيّ أو الدعائي، فهو يهتمّ بالمشاعر والمعلومات التي تُبث على الحائط الإلكتروني بهدف استغلالها للوصول إلى الأهداف المرجوة.
عملية البحث عن هذه الأفكار التي تخدم بشكلٍ خاص هدف خلق الدعاية، تحتاج إلى تقنيات متخصصة، تستطيع انتقاء المهمّ وتجاهل الذي لا قيمة لهُ بالنسبة لها. ويتطلب هذا الأمر خطوات متعددة كتلك التي يتبعها نظام التحليل الأمنيّ للشبكات الاجتماعية (intelligence Analyzer sociall) في جمع المعلومات المرادة، ثمّ حصر أفرادها وغربلتها، للوصول إلى قائمة نهائية بالبيانات المطلوبة التي يمكن استخدامها لأهداف مثل قيادة الجمهور بطريقة غير مباشرة، ما يؤدي إلى وقوع المستخدمين في شرك التضليل.
لذلك يتقاطع التنقيب الدعائي مع تحليل المشاعر وتنقيب الآراء، وقد يتطلب التنقيب بشكله الآلي تدخلًا بشريًا، يعمل على رصد كافة المشاعر والانفعالات المراد رصدها، بهدف الاستفادة منها فورًا، دون الحاجة للاعتماد الكلّي على تقنيات الذكاء الاصطناعي.
صناعة السلوكيات الاجتماعيّة
لا يختلف مفهوما "الجمع الاستخباراتي" و"التّنقيب الدعائي" في شيء من النّاحية التقنية، فالأخير لا ينضج إلّا بتقاطعه مع البحث وجمع المعلومات، وهي نفس الوسيلة المستخدمة في نشاط الجمع الاستخباراتي. لكنَّ الاختلاف يكمن فقط في الناحية الوظيفية.
إذا أردنا تعريفًا واضحًا لعملية الجمع الاستخباراتي عبر مواقع التواصل الاجتماعي، فمن الممكن أن نقول إنها "عملية مراقبة الأنشطة والسلوكيات على شبكة الإنترنت، من أجل الإحاطة بالمعلومات والبيانات الموجودة على الشبكات والتطبيقات الاجتماعية، بما يشمل بيانات الأفراد ومن يقفون خلفهم، ثمَّ جمعها وتحليلها، للوصول إلى فهم ومعرفة عامّة، أو مساندة مختلف الأنشطة الأخرى، كالاستهداف (Targeting).
وبالإشارة إلى جهد التحليل، يقول توماس نيسن إنَّ الأجهزة الاستخباراتية المختصّة تنفّذ عدّة أنواع، مثل: تحليل الاتجاهات والشبكات، والمضمون، والمشاعر، والمعلومات والجغرافيا (Geo-tag)، بحيث يمكن تسخير بعض نتائجها، بالتوازي مع نظام تحليل الجمهور المستهدف، في جهود الدعاية، وخاصة في مجالات تطوير المضمون الدعائي، أو تحديد الجمهور، أو التحكم في مدى وكثافة ورقعة انتشار الرسائل الدعائية.
في عام 2016، استغلت روسيا الاتحادية قدرتها الفائقة في الجمع الاستخباراتي، للتحقق من البيانات التي توفر المعلومات عن اتجاهات وميول الناخبين الأميركيين بهدف التأثير عليهم. بطريقة أخرى: سعت إلى تضليلهم بما يضمن تحقيق أهدافها، بترجيح كفة دونالد ترامب على منافسته آنذاك هيلاري كلينتون.
وكان أحد أبرز الأمثلة على التنقيب الدعائي ما قامت به شركة كامبريدج أناليتيكا من شراء بيانات مستخدمي موقع فيسبوك، للمساعدة في انتخاب الرئيس الأميركي دونالد ترامب، مستفيدة من قدراتها في مجال الذكاء الاصطناعي، وتطويرها نماذج قادرة على ترجمة تلك البيانات، وتحويلها إلى ملفات شخصية، استخدمت للتحكم في سلوكيات الناخبين.
إسرائيل في عصر التّنقيب الدعائي
في إسرائيل تتنوع الجهات الحكومية التي تمارس فعل الدعاية ويصعب على الجمهور القيام بها، خصوصًا وأنها تتطلب شرعية قانونية وإمكانات ضخمة. لذلك يقوم التنقيب الدعائي هناك على مبدأ التكامل والتقاطع في المهام، بشكلٍ يتسق وإدارة الدعاية المركزية، حيثُ توجد عدة أجهزة تنفيذية تهتم بجمع المعلومات، وتحليلها وتوظيفها بما يتناسب مع أهداف دعايتها السيبرانية.
في سياق متّصل، تقوم وزارة الشؤون الاستراتيجية والمعلومات الإسرائيلية بتحليل المواقع الاجتماعية، من حيث المحتوى، والبنية الشبكية والتكنولوجية، ورصد مراكز الثقل والتركيز، وتحديد الأفراد والمؤسسات والصفحات الناشطة، كما أنها تدرس أساليب وأنماط الحملات، بهدف تشكيل رؤية لمواجهتها، لتوظف هذه الجهود في دعايتها السيبرانية والميدانية، للتأثير على توجهات وسائل الإعلام الدولية وعلى مستخدمي مواقع التّواصل الاجتماعي.
وبحسب ما نقل موقع روسيا اليوم، تلقت إسرائيل في 2018، 37 مليون دولار لإنشاء مؤسسة تختص بنشر معلومات وأخبار تتناسب وسياسة إسرائيل بهدف تنفيذ "أنشطة وعي جمعي" على الشبكة العنكبوتية.
وفي عام 2014، إبان الحرب على غزة، قامت الروبوتات الاجتماعية، بالإضافة للعنصر البشري المؤيّد لإسرائيل، بتشويه الحقائق وتزييف صور فوتوغرافية خدمة لصورتها أمام الغرب، ونسبت اقتباسات مؤيدة لإسرائيل، ادعت أنها لشخصيات مشهورة، فضلًا عن استخدام التصيد بغرض توجيه الاتهامات لكلّ المعارضين لسياستها الاستيطانية.
استغلال المحتوى
تستغل بعض الصفحات الرسمية الإسرائيلية النّاطقة باللغة العربية على موقع فيسبوك، المحتوى الذي ينتجه المعارضون، من أجل تحقيق أهدافها الدعائية التي تتناسب مع مشروعها الاستيطاني. كما أنّها تسعى إلى استخدام آلية ممنهجة لاصطياد المحتوين المرئي والمكتوب، ومن ثمّ إعادة نشره على منصاتها بعد تعديله، أي تزييف المحتوى ليتوافق مع أهدافها السياسية.
هذه الاستراتيجية في التنقيب الدعائي تصب في تفسير مفهوم إنتاج الدعاية لذاتها، والذي يعني انتشار الموضوعات الدعائية بصورة تشعبية وغير منتظمة الاتجاه، بما يدفع الجمهور ليصبح فاعلًا في بنائها، لا مجرد متلقٍ لها.
وإلى جانب استغلالها للمحتوى، تسعى إسرائيل أيضًا إلى مشاركة المحتوى، ونعني بذلك: "عملية استدعاء لمحتوى صادر عن مستخدم آخر بغرض إظهاره على واجهة صفحة المستخدم الخاصّة".
وعادة ما ينشر المستخدمون هذا المحتوى في عملية تتبع مشاعرهم وما ينحازون إليه، بغض النظر عن صحة المحتوى.
ويمكن أيضًا للمُدفعِين سياسيًا، مشاركة محتوى يخدم أغراض الاحتلال، كتضليل الجمهور وتنفيذ عمليات تشهير بحقّ معارضيهم. والهدف الأساسي من مشاركة المحتوى هو استغلال دوافع المستخدمين بهدف تضليلهم وإخفاء الحقائق عنهم.
مواجهة السياسات التي تميّع الحقائق
لا يمكن إيقاف تأثيرات التنقيب الدعائي، خاصّة وأنّها ذات ارتباط واسع بالأفراد والمؤسسات وحتّى الدّول. لكن الأهم هو اتخاذ خطوة نحو دعم الأنشطة الثقافية الجماعية التي تسهم في تمكين الوعي لدى المستخدمين، بما يشمل دعاية أي دولة مُستغلة مثل إسرائيل، أو أي مؤسسة لها أهدافها التي تستغل لصالحها محتوى الجمهور.
ولأن التنقيب الدعائي يمثل خطورة كبيرة، كونه يستغل غياب الوعي لدى مستخدمي الشبكة العنكبوتية، ويؤثر على الحقيقة والوقائع المترتبة على الأحداث عامّة؛ فلا بدّ من دعوة للتعمق أكثر في المجال التكنولوجي لتجنب خدمة أطراف معينه والوقوع ضحية هفواتنا التّي تُستغل عكس مصلحتنا.
المصادر :
كتاب الدعاية على الشبكات الاجتماعية لحيدر إبراهيم المصدّر