يوم الخميس الفائت، الرابع والعشرين من شهر فبراير/شباط الجاري، علا صوت الحرب فوق كلّ الأصوات، وشقّت الآليات الحربيّة طريقها بحرًا وبرًّا وجوًّا، نحو كييف، ترجمةً عمليّةً لإعلان الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، عن بدء الحرب الروسيّة على أوكرانيا. وأصبحت الحرب الدائرة في ذلك الجزء الشرقي من أوروبا، حديث الإعلام وشغله الشاغل.
انتقل مراسلو القنوات والصحف والإذاعات من مختلف أصقاع الأرض، إلى جبهات القتال المتعددة والنقاط الساخنة، لتغطية المعارك الدائرة هناك، ونقْلِ معاناة المواطنين الأوكرانيين والمقيمين في أوكرانيا. ووثّقوا لحظات فرارهم إلى مناطق داخلية بعيدة عن أماكن النزاع، أو غربًا باتجاه بولندا، التي فتحت حدودها لاستقبال اللاجئين الجدد، إضافة إلى بلدان أخرى.
واكتسب اللاجئون الجدد تعاطف العالم أجمع، إلّا أنّ عددًا من العاملين في وسائل إعلاميّة غربيّة أو ناطقة بلغة أجنبية، اختار أن يرسم صورة مختلفة للاجئين القادمين من أوكرانيا، يُمايِزهم فيها عن لاجئين قدِموا سابقًا من بلدان في الشرق الأوسط ووسط وجنوب آسيا، مثل سورية والعراق وأفغانستان، مُجريًا مقارنة بين "نوعين من اللاجئين".
وعكست هذه المقاربة التي ظهرت على قنوات وصحف غربيّة مختلفة، نقاط تلاقي كثيرة بين اللاجئين الأوكرانيين والشعوب الغربية، هي في نظر أولئك الإعلاميين مدعاة للتعاطف، لا يتشارك معهم فيها لاجئون من دول "العالم الثالث". وتشمل هذه العناصر، التشابه في الشكل الخارجي والدين والثقافة ونمط الحياة والحضارة، بين الأوكرانيين والغربيين الآخرين؛ أمّا شعوب الدول الأخرى فهي فقيرة، غير متحضّرة، ولا تستحّق التعاطف، وفق ما تُضمره السردية المطروحة في بعض الأمثلة التي سنستعرضها لاحقًا بالتفصيل.
ويَصحُّ وصفُ هذه المقاربة على أنّها عنصريّة، إذا ما استندنا إلى نظرية الآخر (Othering theory) التي تبلورت كمفهوم رئيس في نظرية ما بعد الاستعمار (Post-Colonialism)، التي تدخل في التحليلات النقدية للعنصرية.
وتُعرَّف نظرية الآخر على أنّها عملية تشكّل فيها مواضيع مختلفة وأخرى مهيمنة، أي الموضوعات الموجودة في مواقع اجتماعية قوية وتلك المرتبطة بها في ظروف مماثلة لها، من خلال الممارسات الخطابية (أولالدي وفلهو، نظرية الآخر ونتائجها: في استكشاف المفهوم). وتحمل هذه النظرية أبعادًا فلسفية، بدأت في القرن السابع عشر مع الفيلسوف الألماني فريدريك هيغل، الذي رأى أنّ مفهوم الذات يستدعي وجود الآخر التأسيسي، باعتباره الكيان المقابل المطلوب لتعريف الذات.
كما تحمل أبعادًا سيكولوجية وأخلاقية ونقديّة عبّر عنها الفيلسوف الفرنسي من أصل جزائري، جاك دريدا، الذي اعتبر منطق التبادلية (الآخر) سلبيًا، بشكل خاص في مجال الجغرافيا البشرية، كونه يَحرم "الآخر صاحب الحقّ" من الأولوية الأخلاقية في تقرير المصير إلى جانب الإمبراطورية التي تستعمره، باعتباره شخصًا له حقّ المشاركة في الخطاب الجيوسياسي المتعلّق بوطنه الأم. ودريدا الذي كان أوّل من اعتمد مفهوم الآخر لأول مرّة بطريقة منهجية عام 1985، عالج القضية بهدف الدعوة إلى ضرورة التعددية والانفتاح على المجتمعات الأخرى.
من هذا المنطلق، لعلّه بات من الممكن فهم كيفية نسج صورة اللاجئ الأشقر صاحب العيون الزرقاء في عدد من السرديات الغربية المتداولة، دون التعميم بطبيعة الحال. فهذه السرديّة قائمة على ربط الآخر بالذات وكل ما يُشبِهها. وفي المقابل، رفض الاختلاف والتمايز. ومثال على ذلك، ما ورد على لسان نائب المدعي العام الأوكراني السابق، ديفيد ساكفاريليدزي، لقناة بي بي سي، يوم السبت 26 فبراير الجاري، أنّه كان من الصعب عليه مشاهدة الأشخاص ذوي البشرة البيضاء وهم يفرُّون من الصراع، قائلًا "إنّه أمر مؤثر للغاية بالنسبة لي أن أرى أوروبيين بعيون زرقاء وشعر أشقر يُقتلون"، ليجيبه المذيع "أنا أتفهم هذه المشاعر وبالطبع أحترمها". وينطبق الأمر نفسه على قول مراسلة قناة NBC News، كيلي كوبيلا، على الهواء مباشرة أنّ "هؤلاء ليسوا لاجئين من سورية، هؤلاء لاجئون من أوكرانيا.. إنّهم مسيحيون، إنّهم بيض، إنّهم يشبهوننا للغاية".
هذه الممارسات الخطابيّة، هي ممارسات لها تداعيات على الرأي العام والمُتلقي، فهي تساهم في جذبه نحو مفاهيم خاطئة متعلّقة به وبالآخر، وبنظرته إلى الدائرة الأوسع من حدود بيته ووطنه. هذه المفاهيم التي تنبثق بداية من الموروثات المغلوطة التي يحملها الصحفي معه إلى عمله، وتشقّ طريقها من خلال المنبر الذي يستخدمه، لتدخل إلى بيوت الناس وعقولهم، فهم يصدّقون ويتبنّون هذه المعلومات المغلوطة عن الآخر المختلف الذي لا يستحقّ التعاطف، لأنّه لا يشبه الصورة النمطية للشكل المثالي، للشكل الذي يتماشى مع سرديّة الأقوى التي تفرض حضورها بالقوة وتهمّش كل ما هو مختلف عنها.
وتعود الحرب على أوكرانيا اليوم، لتفرض البحث في الصورة النمطية التي لطالما بلورها الغرب عن الشرق من خلال تراكم السرديّات المضلّلة وخلق مفاهيم غير حقيقية ومركّبة لا تعكس الواقع، والحديث عنها وتفكيك عناصرها من جديد. وهنا، لابدّ من استحضار الراحل إدوارد سعيد، الأستاذ الجامعي في جامعة كولومبيا ومؤسس دراسات ما بعد الاستعمار.
ويقول ديرك غريغوري، في كتابه "الحاضر الاستعماري: أفغانستان وفلسطين والعراق" (2004، ص. 24)، "إنّ بناء إطار مفاهيمي حول مفهوم "نحن مقابل هم"، يكمن في التظاهر بأنّ الهمّ الرئيسي هو معرفي وطبيعي -من ناحية أنّ حضارتنا معروفة ومقبولة، وحضارتهم مختلفة وغريبة-، بينما الحقيقة هي أنّ الإطار الذي يفصلنا عنهم هو أمر عدواني، مركّب، وظرفي".
وفي ذلك يقصد غريغوري أنّ الاختلاف الذي يتم الترويج له بين الحضارتين الغربية والشرقية، هو ذريعة تحمل في طيّاتها أهدافًا استعمارية وآنية تهدف إلى تشريع استباحة الآخر لأنه مختلف. وبالتالي، دون دراسة الاستشراق كخطاب، لا يمكن فهم الانضباط المنظَّم والواسع الذي استطاعت الثقافة الأوروبية من خلاله إدارة، بل حتّى وإنتاج الشرق سياسيًّا واجتماعيًّا وعسكريًّا وعقائديًّا، خلال فترة ما بعد عصر التنوير. ومثال على ذلك، المقارنة التي أجراها كبير مراسلي شبكة سي بي إس، تشارلي داجاتا، في كييف، يوم الجمعة الفائت، بين العراق وأفغانستان من جهة، والبلدان الأوروبية "المتحضّرة" من جهة ثانية، "هذا ليس مكانًا، مع كل الاحترام، مثل العراق أو أفغانستان، اللتين شهدتا صراعًا مستمرًا منذ عقود. هذه مدينة متحضِّرة نسبيًا، وأوروبية نسبيًا -ولا بدّ لي من اختيار هذه الكلمات بعناية أيضًا– لا تتوقّع حصول هذا الأمر في مكان مثل هذه المدينة..". كذلك، قال مراسل قناة آي تي في البريطانية في بولندا "هذه ليست دولة نامية في العالم الثالث؛ هذه هي أوروبا".
من خلال هذه المشهديّة المتجسّدة في تصفِّح ملامح اللاجئ الأوكراني الأوروبي واللاجئ الشرق أوسطي، إذا صحّ التعبير، نجد ببساطة أنّ اللاجئ أيضًا، في صلب المعاناة التي يعيشها من تهجير ورعب وقلق، يأتي حسب "الكاتالوغ"، لاجئ “a la carte”، يعمد الإعلام إلى تركيب الصورة الفضلى له، ومفاضلة صاحب معاناة على صاحب معاناة آخر، لأنّه "الآخر"، ومواصفاته لا تتماشى مع التركيبة التي صمّمتها السردية المهيمنة له. فيقول إدواد سعيد في كتابه “الاستشراق-Orientalism”، الذي كتب معظمه عام 1975 ونُشر عام 1979، إنّ "الشرق لم يكن وليس حتّى هذه اللحظة موضوعًا حرًا بسبب الاستشراق، بشقيه الفكري أو العملي. هذا لا يعني أنّ الاستشراق يحدِّد من جانب واحد، ما يمكن قوله حول الشرق، ولكنّه شبكة المصالح الكاملة التي يتمّ جلبها حتمًا، للتأثير على أيّ مناسبة يكون فيها هذا الكيان الغريب -الشرق- موضع تساؤل".
وبالعودة إلى التغطية الإعلامية في السنوات الأخيرة الفائتة، يتضّح أنّ معالجة قضية اللاجئين اليوم لا تختلف كثيرًا عن طرح قضايا سابقة مماثلة، اعتُبرت قضية رأي عام في وقت من الأوقات.
ويمكن ملاحظة حوادث كثيرة يطغى عليها الطابع نفسه والإطار ذاته، مثل قضية الطفلة الفلسطينيّة، عهد التميمي، التي شغلت الإعلام الغربي قبل العربي، منذ سنوات قليلة، بجرأتها ومواجتها للجيش الإسرائيلي الذي اعتقل والدتها، إلّا أنّ عهد، فتاة شقراء ذات عيون زرقاء، تشبه في ملامحها أصحاب السردية المهيمنة. وبالتالي فهي تستحقّ التعاطف، ليس لأنّها فلسطينيّة تتعرّض للعنف في أشكاله المختلفة، بل لامتلاكها العناصر التي تتيح لها حقّ الحصول على التضامن. ويتوفّر السياق نفسه، لتغطية تعرّض ذوي البشرة السوداء لحوادث عنصرية غالبًا ما تكون على يد الشرطة، مثل التي وقعت في أميركا وإسبانيا، في السنوات الفائتة.
وفي الطرح أعلاه، لا يمكن التعميم على جميع النماذج الإعلامية، فدائمًا تبقى أصوات تحترف التغطية بموضوعية وإنسانية بالدرجة الأولى، دون اللجوء إلى التفرقة والتمييز بين الأفراد والجماعات والفئات المهمشّة بين بعضها البعض. فبعضها يعتذر عند وقوع الخطأ، على سبيل المثال قناة الجزيرة الناطقة باللغة الانجليزية، رفضت خطاب أحد مذيعيها حول موضوع اللاجئين ولم تخجل من الاعتذار والقول إنّه خالف القواعد المهنيّة عندما فصل بين لاجئي أوكرانيا واللاجئين من العراق وأفغانستان. وقالت من خلال تغريدة لها، إنّها تبحث في أخذ التدابير الملائمة بحقّه.
وأخيرًا، في الوقت الذي ترى آراء قديمة أنّ التعبير عن التمثيل الإعلامي هو أنّه انعكاس للواقع أو تشويه له، يعتبره المنظّر ستيوارت هول، أنّه عملية تركيبية للواقع، تتبلور بعد تعرّضها لعوامل عدّة. فبرأيه الإعلام يمثّل الأشخاص والمواقف والقضايا، وفي تمثيله لهم يعطيهم المعنى الذي يريد، وهذا المعنى لا يجسّد الحقيقة، بما أنّه مركّب على قياس أصحاب القوّة. وعلى هذا الأساس، المشاهد والخطابات والنصوص التي نراها ونقرأها في الإعلام اليوم، في مقاربتها لقضية اللاجئين ليست سوى انعكاسٍ لكيفية تمثيل هذه الفئات بعيون أصحاب القرار والقوة.
اقرأ/ي أيضًا:
التعتيم الإعلامي كأداة للتضليل وطمس الحقائق والهوية
أبرز الأخبار المضلّلة التي انتشرت حول الأزمة الأوكرانيّة
المصادر:
ستوارت هول Representation and the Media
ديرك غريغوري The Colonial Present: Afghanistan. Palestine. Iraq
ماري إيف مورين Mosaic - University of Manitoba
جاك ديريدا Divison of Philosophy, Art and Critical Thought The European Graduate School
سون أفوتروب جنسين Aalborg University
أوسكار توماس أولالدي وأستريد فلهو Innsbruck University
ذي واشنطن بوست سارة اليسون وترافيس آندوز