` `

أشكال البروبغندا المختلفة في الحرب الروسية الأوكرانية بعد مرور شهر على بدئها

كفاء مساعد كفاء مساعد
سياسة
24 مارس 2022
أشكال البروبغندا المختلفة في الحرب الروسية الأوكرانية بعد مرور شهر على بدئها
الصورة لمظاهرة ضد بوتين في هولندا (Getty)

فاسيلي زيتسيف، قنّاص روسي قتل عشرات النازيين في معركة ستالينغراد، في روسيا، خلال الاجتياح الألماني لها في الحرب العالمية الثانية. حوّل الحزب الشيوعي بقيادة ستالين حينها، زيتسيف إلى بطل قومي؛ اسمه وصورته تصدَّرا الصحف، وإنجازاته كُتبت لها الأغاني، من أجل خلق الرعب في قلب ألمانيا النازية وإلهام أقرانه من الروس للقتال والدفاع عن بلدهم في وجه جيش هتلر. وفاسيلي هي شخصيّة أدّاها الممثّل البريطاني جود لو، في فيلم "العدو على الأبواب" للمخرج الفرنسي جون جاك أنود. استند الفيلم إلى كتاب "العدو عند البوابات: معركة ستالينغراد" للكاتب ويليام كريج، القائم على قصة واقعية من اجتياح ألمانيا لروسيا ومعركة ستالينغراد بين عامي 1942 و1943. وعُرض في دور السينما عام 2001، في محاولةٍ لتسليط الضوء على دور الدعاية الإعلامية في تحقيق الانتصارات زمن الحروب.

صورة متعلقة توضيحية

نستشهد بهذا الفيلم لنبحث في أشكال الدعاية الإعلامية، اليوم، في الحرب الروسية على أوكرانيا، بعد مرور شهر على اندلاعها في 24 فبراير/شباط الفائت. فما أشبه "شبح كييف" الطيّار الشبح الذي أسقط العديد من الطائرات الحربية الروسية، وفق رواية القوّات المسلّحة الأوكرانية الشهر الفائت، بفاسيلي الرجل العادي، الذي حوّلته بروبغندا الحزب الشيوعي إلى أيقونة وقدوة في البطولة والشجاعة. 

الشهر الفائت، نشرت القوات المسلّحة الأوكرانية صورةً لطيّار مجهول الهوية يرتدي قناعًا داكنًا يخفي وجهه، وهو يجلس في قمرة قيادة طائرته من نوع MiG-29. وأرفقت الصورة بتعليق موجّه للجيش الروسي "مرحبًا أيّها المحتل، أنا قادم لآخذ روحك". وأصبح شبح كييف أيقونة الحرب الأوكرانية. تحدّثت عنه وسائل الإعلام المحلية والدولية. وشغل مواقع التواصل الاجتماعي، بقدرته الخارقة على إلحاق الخسائر في صفوف الروس، إلّا أنّه بعد التحقّق من الخبر تبيّن أنّ شبح كييف ليس إلّا أسطورة ولا وجود له على الإطلاق. خرج حينها من رماد اليأس الأوكراني النابع من التفاوت في موازين القوى، وتبعثر الرماد مع انكشاف الحقيقة. وقالت القوات المسلّحة الأوكرانية إنّها اختلقت قصة شبح كييف لأنّها أرادت منح الشعب الأوكراني الأمل والعزيمة لمتابعة القتال، وفي الوقت نفسه إخافة الروس.

صورة متعلقة توضيحية

إذًا، أحد أبرز أشكال البروبغندا التي تستخدمها أوكرانيا في حربها مع روسيا تتجسّد في خلق الشخصيات الأسطوريّة وإلباسها ثوب القوّة والبطولة والتضحية من أجل إعطاء الشعب الأوكراني الأمل في نصر مرتقب وتحفيزه على الاستمرار في القتال أو أقلّه الاستمرار في الصمود ,والمحافظة على وحدته. وفي هذا الخصوص، يشرح الباحث في العلوم السياسيّة، هارولد لازويل في نظريته حول البروبغندا السياسيّة التي وضعها منذ عام 1927، أنّه عندما يواجه الأشخاص العاديون تهديدات يوميّة وقويّة تمسّ حياتهم، فإنّهم يلجأون إلى الدعاية من أجل الطمأنينة وكوسيلة للتغلب على هذه التهديدات. 

ويقول لازويل إنّ الركود الاقتصادي والصراع السياسي المتصاعد قد ينتج عنه فصل معظم الناس عن الواقع واضطراب أفكارهم ورؤيتهم للأمور، ما يعيق قدرتهم على التمييز بين الحقيقة والتزييف، وهذا الأمر يجعلهم عرضة لأشكال الدعاية المختلفة. ومن هنا، لُحظَ خلال هذه الحرب تضخيم أوكرانيا لأرقام الخسائر في صفوف الروس من قتلى وعتاد، خلال الشهر الفائت، وتسليطها الضوء على وسائل المقاومة المختلفة للناس العاديين الذين صُوّروا يعدّون المتفجرات اليدوية ويجمعون الزجاجات الحارقة لصناعة المولوتوف. مع العلم أنّ هذه الوسائل البدائية غير مجدية مع الأسلحة الثقيلة الموجودة بحوزة الروس، ولكن تبنّيها في الحملات الدعائية كفيل في إبقاء المقاومة مستمرة.

صورة متعلقة توضيحية
أوكرانيون يصنعون المولوتوف

كما لجأت الدعاية الأوكرانية إلى المقارنة بين الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي والرئيس الروسي فلاديمير بوتين. ففي الوقت الذي يظهر زيلينسكي في مقاطع فيديو يصوّرها من العاصمة الأوكرانية كييف، قريبًا من الناس وأفراد حكومته، يبقى الرئيس الروسي بعيدًا عن الأنظار، يجتمع مع مستشاريه على طاولات ذات مسافات بعيدة، بما يحمل ذلك من دلالات حول اختلاف شخصيتي الرجلين.

من جهة ثانية، عمد الغرب إلى عزل المعتدي الروسي وتجريده من جميع الصفات الإنسانية، وتكثيف الحملة الدعائية في هذا الإطار. ونتائج هذه البروبغندا لم تُترجم فقط في  التصدي للجيش الروسي بصفته المعتدي على السيادة الأوكرانية، بل ذهبت إلى التعرّض للناطقين باللغة الروسية في أوكرانيا وفق ما نشرت تقارير إخبارية، إلّا أنّ تحليلات لخطاب الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي الذي وجّهه إلى الروس، تشير إلى أنّ هذا الخطاب الذي دعا فيه إلى السلام، يعتبر خطوة مهمة في وجه اتهامات بوتين له بقمع الناطقين باللغة الروسية في أوكرانيا. علمًا أنّ الروسية هي اللغة الأم للرئيس الأوكراني.

وأحد تداعيات البروبغندا الغربية، هو تحويل الحرب العسكرية إلى حرب فكرية وأكاديميّة ورياضيّة، ومعاقبة شعب بأكمله بسبب سياسة رئيسه والنظام الحاكم فيه. فليس وحده بوتين من تمّت عزلته في هذه الحرب، إنّما الشعب الروسي بأكمله. فقد اتّجهت جامعة بيكوكا في مدينة ميلانو الإيطالية إلى إيقاف تدريس أدب الكاتب الروسي فيودور دويستوفسكي ضمن إحدى الدورات التي تقدّمها، لتتراجع بعد أن انتشر مقطع فيديو للأستاذ المحاضر، باولو نوري، ينتقد فيه قرار الجامعة. كذلك حظر موقع  كورسيرا الذي يقدّم موادّ مجانية للطلاب، إضافة إلى خيارات أكاديمية أخرى. وحرم كلّ من الاتحاد الدولي لكرة القدم (فيفا) والاتحاد الأوروبي لكرة القدم (يويفا) روسيا من المنافسة في البطولات الدوليّة. وهنا يكمن الحدّ الفاصل بين الدعاية الهادفة إلى رفع معنويات شعب يعاني مرارة الحرب وتوحيده وتحفيزه على النضال والمقاومة في سبيل حريته وسيادة بلده، وبين تحويل الدعاية إلى خطاب كراهية تتخطى الأنظمة المعادية لتمسّ أشخاصًا لا ذنب لهم سوى أنّهم حملوا جنسية بلدٍ معينٍ أو يتكلّمون لغته.

من جهتها، حملت روسيا أيديولوجيتّها على أجندةٍ حافلةٍ أيضًا بموادّ دعائية ذات أهداف مغايرة لتلك التي تبنّتها أوكرانيا حول هذه الحرب الدائرة. وبدأت حملتها في المقام الأوّل بتبرير أسباب شنّها الحرب على أوكرانيا وإقناع العالم والروس أنّ لها مبررات مقنعة لخوض هذه الحرب، محاوِلة من خلال اتباع استراتيجية دعائية منتظمة إضفاء طابع الشرعية على حربها. وخلال الحرب، تركّزت البروبغندا لديها على نقطتين، هما التركيز على تحقيقها لأهدافها العسكرية وتكذيب أي إشارة إلى خسائرها في الحرب، خصوصًا إثر ظهور أدائها الضعيف بعد مرور أسبوع على بدء الحرب؛ وتلميع صورتها بشكل مستمر من خلال دحض أيّ اتهام لها بارتكاب جرائم حرب في أوكرانيا بعد قصفها لمواقع مدنية متعدّدة.

وفي سبيل تبرير حربها، روّجت موسكو إلى ضرورة حماية حدودها من العدو المحتمل على هذه الحدود، في حال انضمام أوكرانيا لحلف الناتو. ويمكن ربط هذا المبرّر الدعائي بما يُسمّى بمفهوم "قانون العدو الجنائي" أو "علم عقاب العدو" (enemy  penology)، وهو مفهوم طوّره الأستاذ الجامعي في القانون الجنائي الألماني، غوانثر جايكوبز. ووفقًا للمنظّر ميشال فوكو، "قانون العدو الجنائي" ليس ظاهرة فردية، بل هو برنامج مثبت ومعتمد كاستراتيجية لحلِّ المشاكل الأمنية المعاصرة. ونجمت عنه تحوّلات في مفهوم الدولة الدستورية، بما أنّه يتحدّى مبادئها السارية حتى الآن، ويعيد ترتيب العلاقة بين العنف والحقّ. يحدث هذا التحوّل خلسة، أي أنّ ظاهره غير باطنه وينطوي على التضليل المبطّن لأن الاستراتيجيات الأمنية التي تروّج له لا تبدو عنيفة، بل وقائية، على الرغم من استخدامها للعنف. وتقول الباحثة سوزان كرازمان، في بحث نشرته عام 2007، بعنوان "العدو على الحدود: نقد برنامج لصالح دولة وقائية" إنّ هذه النظرية تستند إلى ترسيم الحدود بين عدو مهدِّد وسكان يجب حمايتهم. وتعتبر علم عقاب الأعداء نموذجًا للميول السائدة في السياسات الأمنية، يمتدّ على طول الطريق إلى غوانتنامو. وبالتالي، يشرّع الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين لنفسه خوض هذه الحرب، من خلال الترويج إلى كون دولته هي دولة وقائية لا عدائية، وحربه هي حرب أمنية تهدف إلى حماية حدوده.

كذلك جنحت موسكو إلى الترويج للرابط الديني بين روسيا وأوكرانيا لإضفاء صفة الشرعية على حربها. واستخدم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، الديانة المسيحية الأرثوذكسية لتبرير حربه على أوكرانيا، كونها بالنسبة للبطريركية الأرثوذكسية الروسية تُعتبر بلدًا واحدًا تحت سقف كنيسة واحدة. ففي عام 988 ميلادي، كان فلاديمير ملك روسيا أوّل من اعتنق المسيحية. واستدعى مدينة كييف بأكملها إلى ضفاف نهر الدنيبر، من أجل المعمودية الجماعية، لتولد بعدها روسيا الأم المقدّسة. وفي عام 2019، انفصلت الكنيسة الأوكرانية عن الكنيسة الروسية وأعلنت استقلالها، إلّا أنّ بوتين والكنيسة الروسية لم يتقبّلا هذا الواقع، إذ إنّ كييف بالنسبة للمسيحيين الأرثوذكس هي أشبه بالقدس، وفق المؤرخة الأميركية، ديانا باتلر باس. وبالتالي، التركيز على هذه النقطة في البروبغندا الروسية، كفيل بالنسبة لبوتين في استجلاب التعاطف مع الحرب على أوكرانيا لاسترجاع "الأرض الضالة" وفق المفهوم الروسي.

وخلال هذه الحرب، يمارس النظام الروسي في حملته الدعائية رقابة مشدّدة على الأخبار والمعلومات والعبارات والمصطلحات من أجل نقل الصورة التي يرغب في تمريرها إلى الروس بغضّ النظر عن صدقيتها من عدمها. فقد منع استخدام كلمة "حرب" في توصيف حربه على أوكرانيا وفرض استخدام مصطلح "عملية عسكرية خاصّة"، ولجأ بشكل تلقائي إلى اعتبار صور الآليات العسكرية الروسية المُدمَّرة في أوكرانيا بأنّها أخبار زائفة، لأنّها تظهر تكبّد قوّاته خسائر فادحة في هذه الحرب. أوليست استراتيجية الدعاية وفق هارولد لازويل، قائمة على مصطلحات ثقافية تمّت صياغتها من خلال استخدام لغة التحفيز والاستجابة؟ وبالتالي، يمكن القول إن الداعية، أي النظام الروسي في هذه الحالة، يهتم بالإكثار من تلك المحفّزات التي تحسب على أفضل وجه بهدف استحضار الاستجابات المطلوبة، ولإبطال المحفّزات التي من المُحتمل أن تحرّض على ما هو غير مرغوب فيه، أي إظهار روسيا بوجه المعتدي على سيادة أوكرانيا وارتكابها لجرائم حرب. 

وخدمة لأهدافها الدعائية، جنّدت موسكو الإعلام الوطني الروسي الذي يسيطر عليه الكرملين، لنقل الرواية الرسمية فقط دون سواها، ممارِسةً سياسةً قمعيةً على الإعلام الروسي للتعتيم على الأحداث الجارية. وهذا ما دفع العديد من الصحفيين في الإعلام الرسمي الروسي إلى تقديم استقالاتهم بعد بدء الحرب الروسية على أوكرانيا. وقامت المحرّرة  في القناة الأولى للتلفزيون الحكومي الروسي، مارينا أوفسياننيكوفا، باقتحام نشرة الأخبار المسائية الرئيسية على الهواء مباشرة، لتندّد بالحرب على أوكرانيا وتطالب بإيقافها. ورفعت لافتة أمام الكاميرا، تحمل توقيع “روس ضدّ الحرب”، وكُتب عليها “لا للحرب، لا تصدقوا البروبغندا، إنهم يكذبون عليكم”.

صورة متعلقة توضيحية

وركّزت روسيا جهودها الدعائية على نفي التهم الموجّهة إليها بارتكاب جرائم حرب في أوكرانيا، من قبل رئيس السياسات الخارجية في الاتحاد الأوروبي جوزيف بوريل، والرئيس الأميركي، جو بايدن، الذي وصف الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين بمجرم حرب. وتتركز التهم في ارتكاب جرائم حرب خصوصًا في مدينة ماريوبول البحرية، حيث قُتل مئات المدنيين، وقصفت فيها على سبيل المثال لا الحصر، مستشفى للولادة. ووصفت القنوات الروسية الرسمية صور القتلى من المدنيين والمنازل المدمَّرة بأنّها إمّا صور زائفة ووهمية أو ناجمة عن قصف الأوكرانيين لأنفسهم، ضمن استراتيجيّتها الدعائية.

كذلك، تنقل القنوات التلفزيونية الروسيّة صورةً عن الحرب الدائرة مغايرة تمامًا لما يراه الناس خارج روسيا؛ فعلى هذه المحطّات التلفزيونيّة، يُصَوّر الروس على أنّهم الأخيار خلال هذه الحرب، تمامًا مثل حالهم عندما كانوا يقاتلون ألمانيا النازية في الحرب العالمية الثانية. ومهمّتهم من خلال هذه الحرب تكمن في تحرير الأراضي الأوكرانية التي استولى عليها النازيون الجدد بتمويل من الغرب المهيمن، وفق الرواية الروسية التي يروّج لها على الدوام. 

ومن هنا، الحرب الروسية على أوكرانيا هي حرب أبعد من الصراع المسلّح. تتصارع فيها أيديولوجيّات دعائية مختلفة تستند على الأخبار المضلّلة والزائفة. ويبرز في هذه الحملات صراع قوى "الخير والشرّ" ومفهوما "الحقّ والباطل"، وتتنافس الأقطاب العالمية لخلق مفاهيم جديدة ومختلفة في توصيف كلّ طرف وإظهار نقاط قوّته ومحاولة إخفاء نقاط ضعفه من أجل إبقاء المعنويات مرتفعة وأخذ الحرب إلى المنحى الذي يريد. فالبروبغندا ليست وليدة الحرب الروسية على أوكرانيا، جذورها تعود إلى الحرب العالمية الأولى عندما ساهمت لجنة تحمل خطابًا هادفًا إلى إقناع الولايات المتحدة في دخول الحرب مع الحلفاء وترجيح كفّتهم فيها. وبعدها في الحرب العالمية الثانية، عندما أسّس هتلر وزارة خاصة للبروبغندا وعيّن غوبلز وزيرًا لها. فالحرب العسكرية دون دعم الجمهور من خلال "غسل دماغه" إذا صحّ القول، هي حرب خاسرة، والإعلام حتّى هذه اللحظة هو الوسيلة الأقوى في تمرير هذه الرسائل وإرسائها على أنّها واقع لا شريك له.

اقرأ/ي أيضًا:

لاجئونا ولاجئوهم: نزوح الأوكرانيين يُحيي خطاب الاستشراق في تغطية الإعلام الغربي

روسيا تتّهم الولايات المتحدة الأميركية بتمويل أبحاث لأسلحة بيولوجية في أوكرانيا

المصادر:

سوزان كراسمان -مجلة العقاب والمجتمع

هارولد لازويل - تقنية البربغندا في الحرب العالمية

صحيفة ماركا

هارولد لازويل - نظرية البوبغندا السياسية - مجلة مراجعة العلوم السياسية الأميركية

هارولد لازويل- استراتيجية البروبغتدا السوفيتية

الجزيرة

الجزيرة

Enemy at the Gates

اقرأ أيضاً

الأكثر قراءة