يُقبل العالم على أزمات مناخية وبالنظر إلى حجمها وتزايد سرعة قدومها في الآونة الأخيرة، لم يعد بالإمكان إنكار خطورتها أو تجاهلها، ذلك أنَّ كلفتها البشرية والمادية في المستقبل القريب ستكون باهظة، إذا لم يتمّ إيجاد الحلول المناسبة، وسماع الأصوات المنادية بضرورة التعامل معها سواء من العلماء المختصين بعلوم البيئة والجيولوجيا والأكاديميين والنشطاء وغيرهم.
لن نشرح مسببات الأزمات المناخية التي تعصف بالأرض، ولن نتطرق إلى دور الإنسان في هذه الأزمات إلّا من ناحية نفسية وسلوكية، وسنعرّج تباعًا على الآليات النفسية التي تؤدي إلى إنكار وتشويه الواقع وعدم مواجهة خطر التغيرات المناخية، كالتحيزات المعرفية والتمسك بالمعتقدات.
وسنتحدث عن أهمية تثقيف مدققي الحقائق لذاتهم وللآخرين، لمواجهة جميع حالات الإنكار والتحيزات بمختلف أشكالها. كما سنخوض بشكل خاص في وثائقي نشرته قناة دويتشه فيله يحمل عنوان "لماذا لا يستطيع دماغنا فهم التغير المناخي؟" لفهم علاقة التحيزات بزيادة خطورة الأزمات المناخية التي تعصف بالعالم، والتي يعرضها الوثائقي بشكل واضح ومنهجيّ.
إنكار أزمة المناخ وتشويه الواقع
ظهرت العديد من السلوكيات التي تشير إلى الانحيازات المعرفية في قضية مكافحة التغير المناخيّ، ويمكن ملاحظة كيف تؤدي هذه الانحيازات إلى تضليل الأفراد، إذ يكشف أندرياس كابيس عالم الأعصاب والخبير في الانحياز المعرفي، في الوثائقي، عن مدى تواؤم عقولنا مع الواقع.
يطرح كابيس بعض الأسئلة على المشاركين في تجربة بغرض إنجاز دراسة علمية: من منكم يظنّ أن لديه فرصة أفضل من غيره في الزواج من شخص ثري؟ أو لتربية طفل موهوب؟ أو للحفاظ على لياقته في السنوات العشر القادمة؟ ليبدي الجميع موافقتهم.
يوضح الوثائقي أنه بالنسبة للأحداث الإيجابية يعتقد معظم الناس أنَّ لديهم فرصة أكبر من غيرهم في تحقيق أفضل أداء، لكن حين يتعلق الأمر بأحداث سلبية فإنَّ الأمر يكون عكس ذلك تمامًا.
يتابع كابيس ويسأل: من منكم يعتقد أن لديه فرصة أقل من المتوسط للإصابة بالسرطان؟ أن يتم اقتياده إلى المحكمة؟ ويظهر من خلال إجاباتهم أنهم أفضل من المتوسط! وإحصائيًا هذا مستحيل، لأنه يمثل انحيازًا ووهمًا. ويسمي العلماء هذا الانحياز " انحياز للتفاؤل".
إنَّ الانحياز للتفاؤل متجذّر في الرؤية ما بعد الإنسانية والتي تدعو لاستخدام العقل والتقنيات العلمية الحديثة، لتطوير الإنسان. ذلك أنَّ الأفراد لديهم ثقة مطلقة بالتكنولوجيا لحل الأمور الأكثر تعقيدًا في العالم. ويعتقد البعض أنَّ الهندسة الجيولوجية، على سبيل المثال، المستخدمة اليوم كإحدى التقنيات لمكافحة التغير المناخيّ ستنقذ المناخ وتحلّ المشكلة. وبحسب دراسة مركز ADEME حول التمثيلات الاجتماعية للتغير المناخي، فإنَّ الرؤية تذهب أبعد من ذلك، حيث يعتقد الأفراد أنه يمكن استعمار الفضاء، إذا لم يعد كوكب الأرض صالحًا للحياة، في هذا الصدد تقول المهندسة الجيولوجية إيمي دهان، إنه "خيال بشري مستحيل".
وتبيّن عالمة الاجتماع والفيلسوفة دومينيك ميدا في الوثائقيّ بأنَّ أطرنا المعرفية هي جميع التصورات التي نعيش معها منذ زمن طويل جدًا، ومثال ذلك فكرة أنَّ البشر متفوقون على الطبيعة، وأنًّ الطبيعة لا بدّ أن تتغير بغض النظر عن الخسائر، ما دام ذلك سيصب في مصلحتنا.
لذلك ،الإيمان بالعبقرية البشرية يُشعر الفرد بالحصانة تجاه الكوارث والأزمات البيئية المتطرفة، التي بدأت بالتصاعد في الفترات الأخيرة.
وفي سياق متصل، يشير كلّ من كاكلامانو، وجونز وويب ووكر، الدكتور والأستاذان في جامعة ديربي في المملكة المتحدة، إلى ما يُعرف بـ الـcroyances compensatoires vertes CCV أي "معتقدات تعويضية خضراء"، ويُعرّف هذا التحيز المعرفي، بأنَّ السلوكيات الإيجابية المسؤولة تجاه البيئة، مثل إعادة التدوير تُعوّض السلوكيات غير المسؤولة التي تشكل خطرًا عليها مثل عدم استخدام المواصلات العامّة للتنقل، وبناءً على ذلك فإن الأفراد يذهبون لتبرير سلوكياتهم غير المسؤولة والمضرة بالبيئة عبر ممارسة بعض السلوكيات المسؤولة. فمثلًا يمكن لأي شخص أن يشعر بالارتياح في استخدامه للمياه، عندما يفكر بأنَّ المياه المستخدمة تأتي من مياه الأمطار. وهذا التقييم الخاطئ يقود الأفراد إلى الاستخدام الجائر للموارد الطبيعية.
الاستقطاب
يعمل الأستاذ في علم النفس المعرفي ستيفان ليفاندوفسكي مع مركز الأبحاث التابع للمفوضية الأوروبية على فهم الكيفية التي "تحافظ فيها التقنيات الرقمية على الشك في شأن التغير المناخي، وتزيد منه".
وفي الوثائقيّ يبين ليفاندوفسكي دور الإنترنت في إنكار الناس للتغير المناخي وفي تصديق الشائعات والأخبار المضللة. ويقول ليفاندوفسكي في هذا الصدد: لو رجعنا مئة عام إلى الوراء وقلنا أمام مجموعة من الأشخاص أنَّ الأرض مسطحة، هل سيصدقنا أحد؟ بالطبع لا.
أمّا اليوم، بواسطة الإنترنت، نستطيع ضخّ هذه المعلومة المضللة في كل مكان، والعثور على أشخاص مُؤيدين للفكرة، بل وتساعد الخوارزميات على استقطابهم وجمعهم مع بعضهم البعض.
تظهر أبحاث علم النفس، كيف يتمسّك الأفراد بمعتقد ما، إلى الحدّ الذي يتوقعون أن الآخرين يمثلون نفس الرأي أيضًا. فلو اعتقد الفرد أن الآخرين يؤمنون بكون الأرض مسطحة، فإنَّ ذلك سيزيد ثقة الفرد في التمسك باعتقاده وعدم تقبل الرأي الذي يخالفه وهذه من أحد الأمور التي عززتها مواقع التواصل الاجتماعيّ.
أجرى الدكتور ستيفان دراسة على التعليقات المنشورة على مواقع علمية جادة ورسمية تناقش مسألة تغير المناخ، كما يعرض لنا الوثائقي، ووجد أن معظمها مضللة وناقدة. وأكّد أنه على الرغم من سهولة دحض هذه التعليقات من قبل العلماء والصحفيين إلّا أنّ لها تأثيرات نفسية عميقة جدًا.
فقد كشف استبيانًا قُدّم لـ 400 مشارك، أنَّ هذه التعليقات تشوّه المعلومات المنشورة.
دور مدققي الحقائق في مسألة التغير المناخيّ
أصبحَ تزييف الحقائق، سمة في حقل التغير المناخيّ وفي خطابات السياسيين المناهضين لإنقاذ الطبيعة. لهذا بات واجبًا على كل الصحفيين ومدققي الحقائق أن يحرصوا على فضح المعلومات المضللة، والأخبار والمعلومات الزائفة المتعلقة بالتغيرات المناخية وخاصة الصادرة عن الشخصيات العامة، وتجنب الوقوع في فخ التحيزات النفسية وخاصة ما يُعرف بالإدراك الانتقائي، والذي يعني اختزال القضايا بمعلومات انتقائية لا تعرض الحقيقة، فليس التثقيف والوعي بمفاهيم الانحيازات والتعامل معها هنا، رفاهية لأي صحفي يحارب المعلومات المضللة بالصفوف الأولى.
المصادر