بعد ستة أشهر فقط، من توليها منصب رئيسة جامعة هارفارد، استقالت كلودين جاي من منصبها بعد مزاعم بالسرقة الأدبية وكردّ فعل على ما وُصف بأنه "استجابة غير كافية لمعاداة السامية المتنامية في الحرم الجامعي". وفي خطاب استقالتها، أشارت إلى هجمات شخصية "يغذيها العداء العنصري"، وذكرت أنها ترغب في التصرف من أجل "المصالح الفضلى" لمجتمع هارفارد وتمكينه من التغلب على التوترات الحالية التي أثارتها الحرب الإسرائيلية على غزة.
وجاءت استقالة جاي في أعقاب ضغوط متزايدة عليها للتنحي بعد جلسة استماع في الكونغرس حول معاداة السامية في الحرم الجامعي، في الرابع من ديسمبر/كانون الأول من العام الفائت. إذ اتهمتها عضوة الكونغرس إليز ستيفانيك جاي بعدم تطبيق إجراءات قواعد سلوك الطلاب لوقف ما وصفته بالخطاب المعادي للسامية في الحرم الجامعي.
وادعت ستيفانيك أنه باسم حرية التعبير، عملت جامعة هارفارد على تمكين لغة الكراهية والتهديدات ضد الشعب اليهودي. وركزت ستيفانيك على عبارات مثل “الانتفاضة” و”من النهر إلى البحر” التي تم ترديدها في المسيرات المؤيدة لفلسطين في حرم هارفارد الجامعي. ويرى البعض، ومن بينهم ستيفانيك، أن هذه التصريحات تحرض على العنف ضد الشعب اليهودي. ومع ذلك، فإن أولئك الذين يستخدمون هذه العبارات يؤكدون أن دعم فلسطين لا ينبغي الخلط بينه وبين معاداة السامية.
ومع ذلك، دافع زملاء جاي في جامعة هارفارد عنها. ففي 11 ديسمبر، وقّع أكثر من 700 من أعضاء هيئة التدريس في جامعة هارفارد على رسالة تحث على مقاومة الضغوط الخارجية لعزل جاي. لكن ذلك لم يفلح، وكتبت جاي في خطاب استقالتها "لقد أصبح من الواضح أنه من مصلحة جامعة هارفارد أن أستقيل، حتى يتمكن مجتمعنا من اجتياز هذه اللحظة المليئة بالتحدي الاستثنائي مع التركيز على المؤسسة بدلًا من أي فرد".
يأتي ذلك ضمن ضغوط متزايدة يتعرّض لها الأكاديميين عمومًا، وجامعة هارفارد خصوصًا، الذين يظهرون تعاطفًا مع الفلسطينيين أو انتقادًا لسياسات وممارسات إسرائيل. ووراء ذلك، تقف منظمة ضغط تدعى "مهمة كناري"، تُعنى بوضع قوائم سوداء للطلاب والأساتذة المتعاطفين مع الفلسطينيين، تنشر فيها بياناتهم وأقوالهم وتتهمهم فيها بمعاداة السامية، بهدف تقويض مستقبلهم المهني، بطريقة تشبه ما تفعله منظمة "كاميرا" مع الصحافيين.
وتوفر المنظمة قائمة سوداء تضم آلاف الأسماء، وتُقسم لأربعة أقسام، الطلاب والأساتذة والمحترفين في مختلف المجالات والمؤسسات، وتشمل الأخيرة مواقع إعلامية مثل "موندويز" و"إلكترونيك انتفاضة"، ومنظمات مثل منظمة المقاطعة (BDS) ومنظمة "الصوت اليهودي من أجل السلام". ولكل اسم موجود ضمن قوائم مهمة كناري التي تتحدث ويُضاف إليها أسماء بشكلٍ يومي، ملف فيه كافة التفاصيل المهنية وعدد من التفاصيل الخاصة.
ما هي منظمة “مهمة كناري”؟
في صفحة التعريف الخاصة بالمنظمة على موقعها الإلكتروني، تدّعي أنها توثق بيانات "الأفراد والمنظمات التي تروج لكراهية اليهود في الولايات المتحدة وإسرائيل في حرم جامعات أميركا الشمالية وخارجها عبر الطيف السياسي بأكمله، بما في ذلك اليمين المتطرف واليسار المتطرف والناشطين المناهضين لإسرائيل". بالإضافة إلى مكافحة أنشطة المنظمات المنخرطة في حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات التي تصفها بـ "المعادية للسامية".
ومنذ منتصف أكتوبر/تشرين الأول 2023، يُلاحظ في أعلى الصفحة الرئيسية للموقع الإلكتروني للمؤسسة لافتة رقمية كُتب عليها "طلاب هارفارد وبنسلفانيا يبررون مجزرة حماس"، وفي الصفحة التي يقود إليها النقر على اللافتة تقول المنظمة إن "جامعة هارفارد تخضع للتدقيق بسبب ردّها على بيان أصدرته لجنة التضامن مع فلسطين في الجامعة (PSC)"، والذي اتهم إسرائيل بارتكاب أعمال العنف وبأن هجمات السابع من أكتوبر لم تأتِ من فراغ. وتضيف المنظمة أن قرار الجامعة بتشكيل فريق عمل لدعم الموقعين بدلًا من معالجة محتوى البيان أثار تساؤلات جدية حول "أولويات الإدارة".
كما تطرقت المنظمة لشخص رئيسة الجامعة كلودين جاي بالقول إن إدانتها لمعاداة السامية وإنشاء مجلس استشاري لمكافحة معاداة السامية في الحرم الجامعي هي إجراءات "طال انتظارها"، وأنها لم تدخل حيز التنفيذ إلا بعد إلحاق ضرر كبير بالمجتمع اليهودي وسمعة الجامعة، "مما يسلط الضوء على الحاجة إلى قيادة استباقية وليس رد فعل في حماية الطلاب اليهود". ونشرت بيانات الاتصال برئيسة الجامعة، بما فيها رقم الهاتف والبريد الإلكتروني، بشكلٍ علني "لمن يريد الاتصال بها"، بالإضافة إلى أسماء الهيئات الطلابية التي وقّعت على بيان لجنة التضامن مع فلسطين.
كيف تضايق مهمة كناري المُدرجين على قوائمها؟
يقول الصحافي أوين راي في صحيفة ماساتشوستس ديلي كوليجيان "لا تتوقف المهمة عند إنشاء ملفات شخصية للقادة الطلابيين (المنتقدين لإسرائيل)". ففي حالة بيان لجنة التضامن مع فلسطين، قام الأشخاص الذين يقفون وراء منظمة مهمة كناري بتوثيق بيانات أي شخص شارك ولو عن بعد في نشر الرسالة. على سبيل المثال، أحد الطلاب المدرجين في القائمة السوداء للمنظمة كان عضوًا في رابطة الطلاب الباكستانيين الذي وقّع على البيان، ما يعني أن "العضوية في نادٍ ثقافي كانت كافية لتصنيفهم كمعادين للسامية كارهين لليهود"، بحسب راي.
وكان طالب آخر قد وُضع على القائمة السوداء لكونه عضوًا في رابطة طلاب القانون في جنوب آسيا (SALSA)، التي وقعت على البيان أيضًا.
لم يكتفِ عملاء مهمة كناري بالتشهير عبر الإنترنت وإدراج الأسماء في القائمة السوداء، بل شاركوا أيضًا في التخويف الجسدي. في جامعة جورج واشنطن الأميركية في عام 2018، عشية التصويت على قرار الحكومة الطلابية الذي يدعو الجامعة إلى سحب استثماراتها من الشركات التي تستفيد من الانتهاكات الإسرائيلية لحقوق الإنسان الفلسطيني، ظهر فجأة رجلان قويان يرتديان ملابس الكناري الصفراء في بهو الجامعة؛ المبنى الذي كان من المقرر أن يجري فيه التصويت.
كان هدفهم تعزيز منشورات مهمة كناري التي تم نُشرت في جميع أنحاء الحرم الجامعي على نطاقٍ واسع لنصح الطلاب بالتصويت ضد القرار ومهاجمة النشطاء الطلابيين بالقول "لا توجد أسرار. سنعرف تصويتك وسنتصرف وفقًا لذلك”، بحسب شاهدة العيان آبي بروك، وهي طالبة يهودية كانت نشطة في المجموعات المؤيدة للفلسطينيين في الجامعة. إذ وجدت أن الحدث “مرعب للغاية بشكل لا يصدق.. هذان الرجلان مكتملا النمو، مفتولي العضلات يرتديان أزياء الطيور هذه، ويتبختران”. قالت إنها أثناء عودتها إلى المنزل في تلك الليلة، كانت حريصة على مراقبة من يمشي ورائها.
قصص مشابهة لضحايا مهمة كناري
تعمل مهمة كناري كمصدر استخباراتي رئيسي لوزارة الشؤون الاستراتيجية. ولا تقتصر مهمتها على إسكات المعارضة المناهضة لإسرائيل فحسب، إذ تستخدم قائمة الأسماء الخاصة بها أيضًا لمنع هؤلاء الأفراد من دخول إسرائيل وكذلك الأراضي الفلسطينية ومحاولة زيارة عائلاتهم، بما في ذلك اليهود والفلسطينيين والأساتذة والطلاب.
ويُعتقد أن موقع المنظمة يُستخدم من قبل السلطات الحكومية الإسرائيلية لأغراض جمع المعلومات الاستخبارية. ولا يقتصر أثر استخدامها على حدود الجغرافيا الإسرائيلية، إذ تهدد حرية التعبير في الولايات المتحدة كذلك، فبحسب تحقيق أجراه موقع "ذا إنترسبت"، فإن مكتب التحقيقات الفيدرالي استخدم القائمة السوداء الخاصة بمهمة كناري أيضًا لاستجواب الأفراد بشأن نشاطاتهم.
ومن بين الذين تعرضوا لمضايقات بسبب وجودهم على القائمة لارا القاسم، وهي طالبة أميركية من أصل فلسطيني تبلغ من العمر 22 عامًا، كانت تخطط للدراسة في برنامج الماجستير في الجامعة العبرية في القدس. وعلى الرغم من أنها كانت تملك تأشيرة صالحة، فقد تم جرها للاستجواب بعد وقت قصير من هبوطها في مطار تل أبيب، بحسب قصتها التي كشفت عنها صحيفة هآرتس اليومية الإسرائيلية.
خلال هذه العملية، أرسلت وزارة الشؤون الاستراتيجية وثيقة تحمل علامة "حساسة". وقد احتوت على ملف تعريفي من مهمة كناري يسرد جريمتها: "لقد عملت كرئيسة فرع محلي لمنظمة طلاب من أجل العدالة في فلسطين بجامعة فلوريدا. والأسوأ من ذلك أن فرعها دعا إلى مقاطعة بعض أنواع الحمّص الإسرائيلي". وبعد ذلك، احتُجزت لأسابيع في انتظار إجراءات الترحيل. ولكن بعد رسالة احتجاج وقعها أكثر من 300 أستاذ وأكاديمي آخر من الولايات المتحدة ومن جميع أنحاء العالم حينها، رفضوا جميع أشكال التنميط العنصري، وافقت محكمة إسرائيلية على استئنافها لدخول البلاد.
وكانت الضحية الأخرى كاثرين فرانكي، الأستاذة في كلية الحقوق بجامعة كولومبيا، التي كانت ذات يوم عضوًا في اللجنة التوجيهية للمجلس الاستشاري الأكاديمي لمنظمة الصوت اليهودي من أجل السلام. عند هبوطها في تل أبيب، أطلعها أحد المسؤولين في المطار على ما يبدو أنه الملف التعريفي الخاص بها في مهمة كناري. وبعد احتجازها لمدة 14 ساعة، تم ترحيلها وإبلاغها بأنها ستُمنع نهائيًا من دخول البلاد، بحسب صحيفة "ذا فورورد".
ويعد تسرب محتوى قوائم مهمة كناري إلى الملفات الرسمية سببًا كبيرًا لقلق الأشخاص المدرجين في صفحاتها. إذ تحكي سمية عوض، وهي ناشطة طلابية فلسطينية في جامعة كولومبيا تعيش في الولايات المتحدة، تشعر بالقلق من أن إدراجها في قائمة مهمة كناري السوداء يهدد وضعها كمهاجرة. ومثل العديد من الفلسطينيين الآخرين، فإن إدراجهم في الموقع يمكن أن يسمح للجيش الإسرائيلي، الذي يتحكم في الوصول إلى الأراضي الفلسطينية، بمنع الدخول إلى بلادهم فعليًا، حتى لأسباب غير ضارة مثل الزيارات العائلية، كما حدث في عدد من القصص التي ذكرتها صحيفة هآرتس في تقرير عام 2018.
وفي حالة عوض التي تحكي قصتها مع القائمة لموقع "ذا إنترسبت"، لا تقتصر المخاوف على الحدود التي تسيطر عليها إسرائيل فحسب، فقد أصبحت قلقة أيضًا بشأن التأثير المحتمل لإدراجها في القائمة السوداء حتى على قضية الهجرة الخاصة بها إلى الولايات المتحدة. بالنسبة للعديد من الأشخاص من الأقليات الذين يخضعون بالفعل لتدقيق قاسٍ من قبل السلطات، أو الذين لا يحملون الجنسية الأميركية، فإن إدراجهم في القائمة السوداء يمكن أن يشكل تهديدًا مرعبًا لقدرتهم على العيش في الولايات المتحدة.
تقول عوض: "في وقت لاحق، عندما كنت أتقدم بطلب الهجرة، لاحظت أن الصفحة الخاصة بي في موقع مهمة كناري تستخدم كلمات مخيفة لا علاقة لها بي مثل (متعاطفة مع الإرهاب وحماس)، و(معاداة السامية). كان ذلك أول ما يظهر عندما بحثت عن نفسي في غوغل. لقد أصبحت قلقة للغاية بشأن القائمة السوداء بعد ذلك، وكنت خائفة إذا رفضوا وضعي كمهاجرة في وقت ما دون أن يخبروني حتى أن هذا هو السبب".
لا شيء في الملف الشخصي لعوض، والذي يتضمن اتهامات بدعم الحركة التي يقودها الفلسطينيون لمقاطعة إسرائيل وسحب الاستثمارات منها وفرض عقوبات عليها و"شيطنة إسرائيل" بحسب المنظمة، يشير إلى أنها شاركت في أي وقت مضى في نشاط غير قانوني أو حتى تبنت آراء يمكن اعتبارها عنيفة أو متطرفة أو معادية للسامية. وينطبق الشيء نفسه على العديد من الأشخاص الآخرين المُدرجين في القائمة، والذين رووا قصصهم للعديد من وسائل الإعلام. ومع ذلك، يستخدم الموقع مغالطة "الذنب بالتداعي" التي يحاول ربطهم بادعاءات وتهم منبوذة دوليًا.
الإذلال للإزالة من قوائم مهمة كناري
بمجرد إدراج الاسم في القائمة السوداء لمهمة كناري، يكاد يكون من المستحيل إزالته منها. يكتب أوين راي: "إنهم ينشرون المعلومات الشخصية ويحتفظون بها فوق رؤوس الناس. إنه ابتزاز سياسي، إنه سلوك بائس ويثبّط الخطاب السياسي".
وبحسب شهادات الأفراد الذين أُدرجوا على قوائم مهمة كناري، فإن إزالتهم منها تتطلب خوض عملية أخذ وردّ مع منظمي المهمة، حيث يكتبون شهادة يعتذرون فيها عن نشاطهم السابق ويتبرؤون منه. ضُمّن عدد من هذه الشهادات المجهولة في موقع المنظمة ضمن صفحة تسمى "طيور الكناري السابقين"، وتضم رسائل من أُناسٍ أُدرجوا ضمن قوائم المهمة وأُزيلوا منها لاحقًا.
تطغى على تلك الرسائل المنشورة مشاعر الندم والاعتذار، كما تُظهر سلسلة من رسائل البريد الإلكتروني التي تسبق الإزالة، والتي حصل عليها موقع "ذا إنترسبت"، إجبار شخص أُدرج اسمه ضمن القائمة على العودة وحذف منشورات "مناهضة لإسرائيل" على وسائل التواصل الاجتماعي تعود لسنوات، قبل تقديم بيان يتبرأ فيه من وجهات نظره السابقة ويعد بعدم الانخراط في النشاط المؤيد للفلسطينيين مرة أخرى.
وعلى الرغم من المخاوف بشأن الإدراج على القائمة السوداء، لم يقبل عدد من الذين أُدرجت أسماؤهم عليها بهذا النوع من العروض، وبقيت ملفاتهم موجودة على موقع مهمة كناري حتى اليوم.
اقرأ/ي أيضًا
دور رابطة مكافحة التشهير في إسكات الأصوات المناهضة لإسرائيل
مركز اتصالات السلام: أداة بروباغندا ذات رداء سلمي تموّلها لوبيات إسرائيلية