فجر يوم التاسع والعشرين من فبراير/شباط الجاري، دخلت شمال قطاع غزة المحاصر 30 شاحنة محمّلة بالمساعدات الإنسانية، قادمة من معبر كرم أبو سالم. وكان بانتظار الشاحنات عند محور النابلسي على شارع الرشيد الساحلي آلاف المواطنين الجوعى، الذين تدافعوا للحصول على أكياس طحين. وعلى مقربة منهم، وقفت دبابات الاحتلال الإسرائيلي تراقب عملية توصيل المساعدات، قبل أن تفتح النار على الجموع وتُوقع عشرات الضحايا، وفق حصيلة لا تزال مرشّحة للارتفاع.
لم يُنكر جيش الاحتلال الإسرائيلي في البداية ضلوعه فيما وصفه المكتب الإعلامي الحكومي الفلسطيني بـ "المجزرة المروعة"، التي أودت بحسب وزارة الصحة الفلسطينية في غزة بحياة 115 شخصًا على الأقل، لكنّه تراجع لاحقًا عن روايته وقدّم جملة مبرّرات تشير إلى تورطه المباشر وغير المباشر في الحادثة.
رواية إسرائيلية متضاربة حول مجزرة شارع الرشيد
نقلت وكالة رويترز عن مسؤول إسرائيلي، لم تذكر اسمه، قوله إنّ عشرات الفلسطينيين، ممن اجتاحوا شاحنات المساعدات عند تقاطع مدينة غزة، قُتلوا نتيجة التدافع والدهس. وأضاف المسؤول أنّه وبعد تقدّم الشاحنات شمالًا، اقترب أشخاص من قوات الاحتلال، التي شعرت بالخطر وفتحت النار وقتلت عددًا غير معروف منهم، في ردٍّ وصفه بالـ "محدود"، مُشكّكًا في مصداقية الأرقام التي أعلنتها وزارة الصحة الفلسطينية.
وأشارت صحيفة هآرتس الإسرائيلية، بالاستناد إلى ما قالت إنّه تحقيق أولي للجيش الإسرائيلي، إلى حادثتين، أولى قُتل فيها العشرات نتيجة التدافع والدهس، وحادثة ثانية اعترض فيها مسلّحون موكب الشاحنات عند حي الرمال ونهبوا حمولتها، بينما اقتربت الحشود من وحدات جيش الاحتلال في المنطقة، مما دفع هذه الأخيرة لإطلاق أعيرة تحذيرية في الهواء، من مسافة عشرة أمتار، قبل أن تشرع في التصويب نحو الأطراف السفلية لأولئك الذين واصلوا التقدم نحوها.
غير أنّ الرواية الإسرائيلية تغيّرت فيما بعد، إذ أنكر دانيال هاغاري، المتحدّث باسم الجيش الإسرائيلي، بشكل قاطع، أن يكون جنود الاحتلال قد أطلقوا النار باتجاه قافلة المساعدات. وقال هاغاري إنّ آلاف الغزيّين هجموا على الشاحنات وإنّ بعضهم بدأ في دفع آخرين ودعسهم بعنف حتى الموت ونهب الإمدادات الإنسانية.
وأكّد المتحدث وجود دبابات إسرائيلية "كانت تؤمّن الممر الإنساني" على حد قوله. وعرض في السياق لقطة جوية ظهرت فيها دبابة تتحرك على مسارٍ موازٍ لمسار إحدى الشاحنات، التي تجمّع حولها أشخاص وصفهم هاغاري بالعصابة.
وادّعى المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي، أنّ الدبابة رأت السكان وهم يتعرّضون للدعس وأنّها حاولت "بحذر" تفريق العصابة ببضع طلقات تحذيرية، قبل أن تتراجع بعد "خروج الوضع عن السيطرة"، بحسب تعبيره.
ولاحظ مسبار أنّ هاغاري استدل على تراجع الدبابات "الحذر" بمشاهد لم يعرضها. "هنا يمكنكم أن تروا كم كانوا حذرين عند تراجعهم. أعتقد بصفتي عسكريًا أنّهم تراجعوا بشكل آمن، وأنّهم خاطروا بحياتهم عندما لم يطلقوا النار على العصابة". هذا ما قاله هاغاري دون أنّ يعرض أيّ مشاهد أو لقطات جوية تُؤكّد ذلك.
المركز الأورومتوسطي يكذب رواية الاحتلال
خلصت تحقيقات أولية للمرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان، إلى مسؤولية الاحتلال الإسرائيلي عن مقتل عشرات الفلسطينيين، فجر أمس الخميس، أثناء استلامهم المساعدات الإنسانية غربي مدينة غزة.
وقال المرصد إنّ عشرات الضحايا أصيبوا بأعيرة نارية، بعد قيام دبابات الاحتلال بإطلاق النار بكثافة نحوهم. وأشار إلى أربعة دلائل على تورّط الجيش الإسرائيلي في استهداف المدنيين الجوعى، أولها آثار الإصابات على أجساد الضحايا والمصابين وأكياس الطحين وصناديق المساعدات الملطّخة بدمائهم، التي عاينها أحد باحثي المركز في مجمع الشفاء الطبي. بالإضافة إلى المقاطع التي نشرها شهود عيان، والتي يُسمع فيها صوت الرصاص، الذي أكّد الناجون أنّ مصدره هو دبابات الاحتلال المتمركزة باتجاه البحر.
وتحقّق المرصد من بصمة صوت الرصاص في مقاطع الفيديو، ووجد أنه أُطلق من سلاح آلي عياره 5.56 ملم يستخدمه الجيش الإسرائيلي.
كما رصد الأورومتوسّطي في لقطات جوية نشرها الاحتلال وجود دبابتين على الأقل، وجثث ومصابين على مسارها في حين لا تُظهر أيّ جثث على مسار الشاحنات.
مؤشرّات على هشاشة الروايات الإسرائيلية
راجع مسبار اللقطات الجوية التي نشرها الجيش الإسرائيلي وتأكد من وجود أشخاص ملقى بهم على الأرض على مسار الدبابة، فيما لم تُظهر المقاطع وجود أيّ مسلحين في المكان، خلافًا لما توصل إليه التحقيق الأولي لجيش الاحتلال. يعني ذلك أنّ الروايات الإسرائيلية، التي اتفقت، رغم اختلافها، على وجود خطر محدق بالجنود، لا تستند في الواقع إلى أيّ معطيات جدّية.
كما تتناقض الرواية الإسرائيلية، التي تشير إلى استهداف جيش الاحتلال الأطراف السفلية للمواطنين، مع حصيلة ميدانية تفيد بمقتل أزيد من 100 مدني فلسطيني وإصابة المئات من المواطنين الذين يجدون صعوبة بالغة في تلقي العلاج. إذ إنّ الوضع الصحي في القطاع “مأساوي” وفق وصف منظمة الصحة العالمية، التي أكدت أنّ جميع شرايين الحياة في القطاع انقطعت بشكل أو بآخر.
وأعلنت وزارة الصحة في غزة، عن عجز آخر مستشفيات شمالي قطاع، كمال عدوان، عن تقديم الخدمات المنقذة للحياة، بعدما انقطع عنه الوقود المستخدم في توليد الكهرباء. وأظهرت مقاطع فيديو المواطنين وطواقم الإسعاف وهم ينقلون الجثث والمصابين على متن عربات تجرها الحيوانات، بسبب عدم توفّر ما يكفي من مركبات الإسعاف لإجلاء الضحايا. ولا تزال بعض الجثث ملقاة على طريق الرشيد بسبب خطر الاستهداف المحتمل من قبل قوات الاحتلال، لكل من يحاول انتشالها.
يجعل الوضع الصحي المتدهور في قطاع غزة عمومًا وفي شماله خصوصًا، جميع أنواع الإصابات مُهدِّدة للحياة، في ظل غياب الحد الأدنى من الرعاية الصحية والتغذية السليمة وشروط النظافة.
وفي خطابه، أشار دانيال هاغاري إلى أنّ ليلة المجزرة كانت رابع ليلة توزّع فيها المساعدات على سكان شمال قطاع غزة، وأنّ ما حدث فجر الخميس غير مسبوق. يضعف ذلك أكثر حجة التدافع المقدمة من طرف الاحتلال، إذ لم تسجل منذ بدء دخول المساعدات حوادث مشابهة.
ويشار إلى أنّ الاحتلال هو من يتحمل كليًا مسؤولية تنظيم عمليات توزيع المساعدات وتحديد توقيت دخولها، بعدما سحب صلاحيات توزيعها وتأمين دخولها من وكالة غوث اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) وشرطة قطاع غزة.
إقرأ/ي أيضًا
الرواية الإسرائيلية حول مجزرة المستشفى المعمداني: من التبنّي إلى الإنكار
انتقائية شبكة سي إن إن في الحديث عن مجزرة جباليا ومساهمتها في نشر التضليل