شهد العام 2024، ارتفاعًا غير مسبوق في انتشار المعلومات المضللة، وزادت البحوث التي تحاول فهم أسباب الظاهرة. لتشير مجموعة بحوث نشرتها جمعية علم النفس الأميركية لرؤية جديدة مفادها أن المعلومات المضللة تنتشر ليس فقط لأن الناس يصدقون أو يثقون بالأكاذيب، بل لأنهم أحيانًا يبررون أخلاقيًا سلوكهم في المشاركة والتفاعل مع المحتوى الكاذب بشكلٍ غير واعِ.
تخيُّل إمكانية حدوث الكذبة يوّفر الشرعية الأخلاقية لانتشارها
توّضح مجموعة البحوث التي راجعها “مسبار” كيف تعتمد الأحكام الأخلاقية حول الكذب، ليس فقط عن ما يعرفه الناس من حقائق نتيجة خبراتهم بل على تصوّر الناس أن الكذبة قد تصبح حقيقة في المستقبل. في ست دراسات شملت 3,607 مشارك، تبيّن أن الناس يرون الكذب أقل سوءًا من الناحية الأخلاقية عندما يتخيلون أن هنالك إمكانية أن تصبح هذه الأكاذيب حقيقة مستقبلًا.
على سبيل المثال، إذا شارك شخص كذبة على وسائل التواصل الاجتماعي، تزعم أن منتجًا ما يجعل الشعر ينمو في يوم واحد، فإن الناس أو الناشر نفسه قد يعتبرون الكذبة أقل سوءًا إذا تخيلوا سيناريوهات مستقبلية يمكن أن تجعل هذا الأمر ممكنًا، مثل تقدم العلم.
هذا التأثير ظهر مع مشاركين من 59 دولة، عندما قيّموا أكاذيب حول منتجات استهلاكية ومهارات مهنية وقضايا سياسية. حيث كان التأثير أقوى عندما كان المشاركون يتصورون قبول فكرة أن الكذبة قد تصبح حقيقة، مما جعلهم أكثر ميلًا لمشاركة هذه الأكاذيب على وسائل التواصل الاجتماعي.
التفكير الاحتمالي يعزز تخيّل إمكانية تحقق الكذبة
تشير الأبحاث إلى أن الأشخاص عندما يتخيلون سيناريوهات مستقبلية تجعل الأكاذيب تبدو محتملة الحدوث، فإنهم يستخدمون ما يُعرف بالتفكير المسبق أو الاحتمالي (Prefactual Thinking). ووفقًا لدراسة من مجموعة البحوث، يمكن أن يصبح الناس أكثر تقبلًا للمعلومات الكاذبة باستخدام هذا النوع من التفكير لأنهم يرونها أقل سوءًا، حتى إذا لم تصدر منهم أو يشاركوها.
على سبيل المثال، إذا ادعى مسؤول سياسي ما أن مشروعًا معينًا سيوفر عددًا كبيرًا من الوظائف دون أن يوّفر دليلًا على ذلك وبالرغم من كون الادعاء صعب الحدوث منطقيًا، إلا أنه إذا طلب من الناس استخدام التفكير الاحتمالي وتخيل سيناريوهات تجعل هذا الادعاء ممكنًا مثل ازدهار الاقتصاد أو الحصول على استثمارات جديدة، فقد يرون الكذبة أقل سوءًا، وهنا قد يغلب عامل الخيال على المنطق في تقييم صحة المعلومات.
بهذا الأسلوب يبدأ الناس برؤية أن الكذبة هي أقل ضررًا لأنهم يركّزون على رؤية المعنى العام أو الهدف من الكذبة كأنه أقرب إلى الحقيقة. في نهاية المطاف يمنحهم هذا التخيل مبررًا أخلاقيًا لقبول الكذبة أو حتى مشاركتها مع الآخرين.
أمثلة واقعية على التفكير الاحتمالي
في عام 2022، ادعت إليزابيث هولمز، مؤسسة شركة ثيرانوس، أن تكنولوجيا شركتها يمكنها تطوير جهاز طبي يجري مجموعة واسعة من الفحوصات باستخدام قطرة دم واحدة، مما يعد بتغيير جذري في التشخيص الطبي. رغم أن هذه التكنولوجيا لم تكن موجودة، إلا أن الادعاءات جذبت الكثير من المستثمرين، ورفعت قيمة الشركة إلى 9 مليارات دولار في ذروتها، وجمعت أكثر من 700 مليون دولار كمساهمات.
كانت هولمز تعلم أن التكنولوجيا لا تعمل كما زعمت، لكنها استمرت في تقديم تقارير مضللة لجذب المزيد من الاستثمارات، معتقدة أن التقنية قد تصبح حقيقية مع الوقت والجهد. التفكير في إمكانية نجاح هذه التقنية ربما برّر لها وللآخرين إمكانية رؤية كذبتها أقل سوءًا أخلاقيًا، بحسب الدراسة.
كما أن احتمال وجود التكنولوجيا في المستقبل لا يجب أن يمنح الكذبة بشأن وجودها في الوقت الحالي المشروعية الأخلاقية. ولذلك في عام 2018، وُجهت لهولمز تُهم بالاحتيال، وتضليل المساهمين، وفي عام 2022، حكم عليها بالسجن 11 سنة و3 أشهر، ودفع 452 مليون دولار كتعويضات.
ادعاءات دونالد ترامب حول اختبار فايروس كورونا
في مارس 2020، صرح الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، بأن اختبارات الكشف عن فايروس كورونا ستكون متاحة لجميع الأميركيين، وهو أمر غير صحيح في ذلك الوقت.
لكن بحسب الدراسة فإن الكذبة أصبحت أقل سوءًا لأنه ربما تخيل البعض، آنذاك، إمكانية أن تنفذ إدارة ترامب استجابة ناجحة للأزمة، وهذا الادعاء قد يصبح حقيقة في المستقبل.
رفض الرئيس الأميركي دونالد ترامب لاحقًا تحمل المسؤولية عن تأخير اختبارات فايروس كورونا، وصرّح أن النظام الصحي الأميركي لم يكن مهيأً لمواجهة جائحة بهذا الحجم.
في دراسة شملت طلاب ماجستير إدارة الأعمال (MBA)، استخدمت سيناريوهات لأشخاص يدعون في سيرهم الذاتية امتلاكهم لمهارات تقنية لا يعرفونها في الحقيقة. طُلب من المجموعة التجريبية تخيل سيناريو مستقبلي يمكن أن يجعل الادّعاء صحيحًا، مثل تسجيل من ادعوا الخبرة في دورة تدريبية.
النتائج أظهرت أن المشاركين اعتبروا الكذب أقل سوءًا أخلاقيًا عند تخيل إمكانية حدوث الادعاء في المستقبل، مما يبرز تأثير التفكير الاحتمالي في تقليل إدانة الكذب أخلاقيًا، ومحاربته.
التفكير الاحتمالي يعوِّق جهود مكافحة التضليل
يتصدى التفكير الاحتمالي لجهود مكافحة المعلومات المضللة، كما ترى مجموعة البحوث، إذ يمكن أن يؤدي تخيّل تحول الكذب إلى حقيقة في المستقبل إلى المساهمة في التطبيع الاجتماعي والأخلاقي للناس مع المعلومات الكاذبة في الحاضر.
عندما يتخيل الناس كيف يمكن أن يصبح الكذب واقعيًا، فإنهم يرون معناه الأوسع كمسألة أكثر صدقًا، حتى وإن كانت تفاصيله الحالية غير دقيقة. الأمر الذي يزيد من احتمال تقبلهم ونشرهم للمعلومات الخاطئة.
تساهل الناس مع لا أخلاقية المعلومات الكاذبة يسهم في تعزيز عصر “ما بعد الحقيقة” الذي نواجه فيه تدفقًا مهولًا للمحتوى المضلل ومن شأن ذلك أن يضعف الثقة في المجتمع والمؤسسات، ويصبح الكذب مقبولًا بشكل أكبر وأقل خضوعًا للمساءلة حتى من قبل مؤسسات مراجعة المحتوى الكاذب.
كما أن هنالك إغراء يوفره هذا النوع من التفكير، إذ تشير النتائج إلى أن التخيّل والتفكير الاحتمالي يمنح الأفراد نوعًا من الحرية، والراحة لتبرير الكذب، مستندين إلى اعتقادهم بأن الجوهر أو المغزى من الكذبة قد يحمل بعض الحقيقة المستقبلية.
في الوقت ذاته، يخفف عنهم هذا الأسلوب العبء المعرفي الكبير الذي تتطلّبه عملية التحقق من المعلومات المضللة. إن فهم هذا التأثير يمكن أن يساعد في تطوير استراتيجيات أفضل لمكافحة الأخبار الزائفة وتعزيز التفكير النقدي بين الجمهور.
يُبرز البحث أهمية الوعي وكيفية تأثيره على الأحكام الأخلاقية، مشددًا على الحاجة إلى تعزيز التربية الإعلامية والفكرية لتقليل تأثيرات هذه الظاهرة على المجتمع.
إن التعامل مع المعلومات المضللة، يتطلب منا ليس فقط تمييز الحقائق من الأكاذيب، ولكن أيضًا فهم الطُرق التي يمكن أن يستخدمها الناس لتبرير الكذب، والعمل على تقويض هذه المبررات من خلال تعزيز النزاهة والشفافية في كل جوانب حياتنا.
اقرأ/ي أيضًا
كيف يستغل مروجو الأخبار الزائفة هفوات الانتباه لخداع المستخدمين؟
ما هي العوامل النفسية التي تساهم في تصديق الشائعات والمعلومات المضللة؟