نظرًا لتطورات عدة حدثت مؤخرًا، أصبح من الواضح أن التقدم التكنولوجي والتحولات الرقمية، ورغم فوائدها، جعلت من وسائل التواصل الاجتماعي بيئة خصبة لحملات الأخبار الزائفة وخطاب الكراهية، مما أدى إلى زيادة حدة الاستقطاب في المجتمعات، وتهديد التماسك الاجتماعي بشكل خطير.
يشير بحث حديث نُشر في سبتمبر/أيلول الجاري في مجلة Information Systems Frontiers، إلى أن المعلومات المضللة تعمل كوقود لخطاب الكراهية، مما يسهم بشكل مباشر في تعزيز الاستقطاب المجتمعي. ويُعرّف الاستقطاب في الأبحاث كظاهرة اجتماعية تُقسِّم المجتمع إلى فصائل متنازعة ذات قيم وهويات متعارضة، مما يشكل تهديدًا خطيرًا على السلام الاجتماعي حول العالم.
وتوضح الدراسة أن هناك ارتباطًا وثيقًا بين الأخبار الزائفة وخطاب الكراهية في تفاقم الاستقطاب، إذ تولّد الأخبار المضللة تصورات مشوّهة لدى الأفراد، في حين يعزز خطاب الكراهية تلك التصورات العدائية بشكل أكبر.
المنطقة العربية: الانقسامات وموجات المعلومات المضللة
في ظل الأزمات المتتالية والصعبة التي تشهدها المنطقة العربية، كالحرب الإسرائيلية على غزة وعلى لبنان، تحتاج هذه المجتمعات، إلى تضامن اجتماعي أكثر من أي وقت مضى. ولكن الاستقطاب السياسي، والانقسامات التي يغذيها انتشار المعلومات المضللة على نطاق واسع، يؤدي بشكل أو بآخر إلى عرقلة هذا التضامن وإضعاف قدرة المجتمعات والمؤسسات على مواجهة الأزمات بفعالية.
وفي الوقت الذي يجب أن تكون فيه المجتمعات موحدة لمواجهة التحديات المشتركة، يصبح الانقسام الداخلي عاملًا يفاقم من معاناتها، ويعزز استمرارية الأزمات، وحدتها. التحدي الأكبر كما تشير الدراسة يكمن في أن حملات التضليل لا تقتصر على توجيه الرأي العام وتغذية الاستقطاب، بل تعمل أيضًا على إضعاف الثقة بالمؤسسات التقليدية والمستقلة منها التي تحارب هذا الاستقطاب، مما يزيد من صعوبة مهمتها كبناء الجسور بين الأطراف المتنازعة.
تحقيقات عديدة لمسبار تكشف دور التضليل في تعزيز الاستقطاب والانقسامات
مع بدء الحرب الإسرائيلية على غزة منذُ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، ساهمت أطراف عديدة لعدة أهداف في تغذية خطاب الكراهية والاستقطاب.
لعبت صفحات إسرائيلية دورًا بارزًا في موجات التضليل، على سبيل المثال دأبت صفحة إسرائيل بالعربية التابعة للخارجية الإسرائيلية، مشاركة مقاطع فيديو ومنشورات بعضها مضلل، وبعضها صحيح، إلا أنها قد تكون ساهمت بشكل أو بآخر في حالة الاستقطاب والانقسام.
على سبيل المثال في يوليو 2024 كشف تحقيق لمسبار عن حملة إسرائيلية وظفت مسألة إعادة الاعمار في غزة لبث خطاب الكراهية ضد الفلسطينيين إلى جانب العرب، وساهمت الحملة في تعزيز الاستقطاب والتوجهات الحادة في الآراء قياسًا للتعليقات.
وفي سبتمبر/أيلول 2023 انتشرت حملة واسعة من الكراهية ضد السوريين في تركيا، كانت قد حركتها موجة من المعلومات المضللة، كشف مسبار عنها في تحقيق، وجاءت الحملة امتدادًا لحملة كانت قد سبقتها بعد أحداث الاعتداءات من قبل مواطنين أتراك على سوريين مقيمين في مدينة قيصري التركية، إذ تم تدمير وإحراق ممتلكات السوريين والاعتداء بالضرب عليهم، وعززت الأحداث حينها حالة الاستقطاب التي امتدت إلى حوادث كراهية وعنف.
وفي سبتمبر الجاري رصد مسبار أيضًا شبكة على وسائل التواصل الاجتماعي عملت على تعزيز الانقسامات بين الشعوب الخليجية، وقادت جهودًا لإعادة إحياء الروايات الخلافية القديمة، لإثارة التوتر من جديد، خاصة في فترة الحرب على غزة.
في الشهر نفسه، رصد مسبار في تقرير مراجعة حول كيفية مساهمة المعلومات المضللة على مواقع التواصل الاجتماعي في تأجيج العنف ضد اللاجئين السوريين في لبنان، وزاد من حدة الاستقطاب بين الفرقاء السياسيين في البلاد تجاه هذا الموضوع.
تزامنت العملية الإسرائيلية العسكرية على لبنان مع موجة من التضليل والانقسام
إلى جانب الأحداث السابقة التي استعرضها مسبار سابقًا في تحقيقات. رافق العدوان الإسرائيلي على لبنان، موجة واسعة من المعلومات المضللة وخطاب الكراهية مؤخرًا، مما أسهم بشكل ملحوظ في تعميق الانقسامات الاجتماعية، وذلك يمكن ملاحظته من خلال تصفح سريع للتعليقات على منشورات الأخبار المتعلقة بما يجري في لبنان.
برزت الظاهرة بشكل واضح مع التحذيرات التي أطلقتها جهات لبنانية عديدة من خطر الانجرار وراء هذه الموجة، إذ دعا الجيش اللبناني مؤخرًا في بيان له المواطنين إلى التمسك بالوحدة الوطنية في مواجهة ما وصفه بالمخططات التخريبية التي تستهدف السلم الأهلي. وأشار الجيش إلى أن إسرائيل متورطة في هذه المخططات لتعزيز الانقسامات بين مكونات المجتمع اللبناني.
كما ركّزت صفحات إسرائيلية مؤخرًا على بث منشورات بعضها صحيح وبعضها مضلل، وكانت المنشورات تستخدم تصريحات لأفراد وإعلاميين لبنانيين، يعارضون سياسة حزب الله الذي تشن عليه إسرائيل حملة عسكرية واسعة النطاق.
على سبيل المثال نشرت صفحة إسرائيل بالعربية منشورات مكثفة انتقت فيها تصريحات للبنانيين تخدم سرديتها، لكنها في نفس الوقت قد تقرأ بأنها مقاطع قد تعزز الانقسام بين اللبنانيين وخاصة في حالة الحرب. وكثيرًا ما تنتقى هذه المقاطع بأن يكون أصحابها ذوي نبرة حادة ونقدية لا تحتوي حلول عملية، إلى جانب أن بعضها مضلل، كالتصريحات التي نسبتها الصفحات الإسرائيلية الرسمية مؤخرًا للمغنية إليسا وزعمت فيها أنها أيدت فيها إسرائيل، مما أثار موجة من الشتائم والاتهامات ضدها.
خطاب التضليل والتعميم مع الاغتيالات الإسرائيلية لقيادات حزب الله
في 17 سبتمبر 2024، شهد لبنان سلسلة تفجيرات متزامنة، أسفرت عن إصابة المئات واستهدفت أجهزة اتصالات لاسلكية مفخخة البيجر (Pager)، التي استوردها حزب الله واستخدمها بشكل واسع. وقعت التفجيرات في مناطق متعددة، بما في ذلك جنوب لبنان وضاحية بيروت الجنوبية.
عقب الحادثة انتشرت معلومات مضللة حولها بسرعة، فعلى سبيل المثال فنّد مسبار مقطع فيديو مضلل ادعى ناشروه أنّه لسوريين في مدينة احتفلوا بتفجيرات البيجر في لبنان.
في 27 سبتمبر 2024، اغتيل الأمين العام لحزب الله، حسن نصر الله، إثر غارة جوية إسرائيلية استهدفت الضاحية الجنوبية في بيروت. تنوعت ردود الفعل على الحادثة، حيث انتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي مقاطع فيديو تظهر بعض السوريين يحتفلون باغتياله. بينما كانت بعض هذه المقاطع والصور صحيحة، كانت بعضها خاطئة، وتصاعدت بالتزامن مع ذلك موجة من خطاب الثأر والكراهية.
كما هو الحال مع حادثة انفجار أجهزة البيجر، انتشرت عدة ادعاءات مضللة، ومقاطع فيديو زُعم فيها أن لبنانيين يحتفلون، باغتيال حسن نصر الله، ليتبين أن بعض هذه المقاطع قديمة، والبعض الآخر منها ليس في السياق نفسه ولم تصور في لبنان.
حادثة اغتيال نصر الله استغلت بشكل واسع ومضلل من قبل إعلاميين
في مثال واضح على استغلال الحادثة، نشر الصحفي الإسرائيلي إيدي كوهين، مقاطع فيديو تظهر احتفالات بعض السوريين باغتيال حسن نصر الله، محاولًا تصوير السوريين كجماعة موحدة تشمت في مقتله.
ومع ذلك، فإن تعميم هذا الموقف ليشمل جميع السوريين هو تصوير مضلل للواقع. فخلق صورة موحدة عن موقف السوريين بعد الضربة يغذي الانقسام ويعزز موجات الكراهية، خاصة أن السوريين، يختلفون في مواقفهم وتوجهاتهم بناءً على خلفياتهم وتجاربهم الفردية، والسياق السوري وتعقيداته، والجدير بالذكر أن مسبار رصد مرات عدة منشورات مضللة كان قد نشرها كوهين على حسابه في منصة إكس وحققت تفاعلًا واسعًا.
في مثال آخر، انتشرت ادعاءات غير موثقة تزعم أن بعض السوريين في لبنان يزوّدون الجيش الإسرائيلي بمعلومات عن قيادات حزب الله لاغتيالهم. ففي 27 سبتمبر، نشر حساب جمال ريان، المذيع المعروف في قناة الجزيرة، والذي يمتلك أكثر من مليونين متابع، منشورًا مثيرًا للجدل أشار فيه إلى أن بعض السوريين المتضررين من تدخل حزب الله في الحرب السورية قد يقدّمون معلومات عن قادة الحزب إلى الجانب الإسرائيلي، سواء عن عمد أو غير عمد، بهدف تصفيتهم.
المنشور أثار موجة واسعة من ردود الفعل السلبية، وزاد من حالة الانقسام في المواقف تجاه العملية.
لاحقًا أصدر المذيع جمال ريان بيانًا أكد فيه أن حسابه الشخصي قد تم اختراقه، وأن التغريدات المنشورة حول السوريين كانت مزيفة وتهدف إلى إثارة الفتنة. ومع ذلك، أشارت العديد من الحسابات السورية إلى أن مثل هذه المنشورات التي تفتقر إلى الدليل، وتعمم صورة سلبية عن السوريين، قد تؤدي إلى موجات عنف ضدهم خاصة في لبنان، وتعزز حالة الانقسام في المنطقة.
وتكمن المشكلة في أنه في ظل هذا المناخ المشحون، قد تجد جهود تصحيح المعلومات وتفنيد التعميمات، والمعلومات المضللة، صعوبة في أهدافها وفي تحقيق التوازن المطلوب وتوضيح الحقائق، فالمعلومات المضللة من هذا النوع وكونها في كثير من الأحيان تتفق مع الأحكام المسبقة وآراء الأشخاص، تكون جذابة وسريعة الانتشار في مقابل جهود التصحيح.
الرقابة الحكومية والضغط الرسمي ليس الحل في مكافحة التضليل والكراهية
تناولت الدراسة الجهود التي تبذلها الحكومات لمكافحة الأخبار الزائفة وخطاب الكراهية والاستقطاب المجتمعي والسياسي عبر وسائل التواصل الاجتماعي والإنترنت. ورأى الباحثون أن الرقابة وخاصة الشق الرسمي منها على الإنترنت، هي خطوات قد تكون ضرورية للحد من انتشار المعلومات المضللة وخطاب الكراهية. ومع ذلك، فإن هذه الإجراءات نفسها قد تؤدي إلى تفاقم الاستقطاب، والانقسامات إذ يمكن أن تُعد اعتداءً على حرية التعبير وتزيد من تعميق الانقسامات داخل المجتمع.
توصي الدراسة بأن يكون هناك توازنًا حساسًا يجب تحقيقه بين الرقابة على المحتوى والمراقبة لضمان حماية المجتمعات من المعلومات المضللة وخطاب الكراهية، وبين الحفاظ على حرية التعبير، وتدفق المعلومات والتواصل المفتوح، وهو ما يتطلب نهج أكثر تعددية، وتشترك فيه جهات عديدة.
اقرأ/ي أيضًا
دور الاستقطاب الحزبي في ترويج الأخبار الزائفة
شبكة حسابات تروّج لمعلومات مضللة وخطاب كراهية بين الجمهور العربي