في ظل الأزمات المتتالية، حتى للأشخاص ذوي الخلفية الإعلامية، قد يكون الهرب أو تجاهل الأخبار الزائفة مُهمة صعبة بالنسبة إليهم، وهذا لقدرتها أحياناً على اختراق الأخبار الحقيقية والحقائق والمعلومات، لتصل إلى عقولنا، وتدفعنا إلى نشرها أو الترويج لها أو حتى الحديث عنها بالحد الأدنى. في بداية جائحة فايروس كورونا المستجد (كوفيد-19)، نشرتُ رابطاً على إحدى المجموعات، فقط لأنَّ الخبر بدا حقيقياً ومتوافقاً مع مجموعة أخبار أخرى، ولكن صديقاً لي أخبرني بأنَّ المعلومات في الرابط مُضللة ولا حقيقة فيها! كيف تخترق الأخبار الزائفة أذهاننا إذن؟ وكيف يمكننا محاولة مقاومتها بالقدر المُستطاع؟ نحاول في هذه المادة من "مسبار" أن نوضح الدينامية التي تتحرك بها الأخبار/المعلومات الزائفة وكيف تؤثّر مهما كان حجمها.
نعيش الآن في عصر المعلومات وعصر الـBig Data""، وعلى الرغم من امتلاء الإنترنت بالمعلومات الحقيقية، إلا أنَّ كمية الأخبار الزائفة المطلوبة لتحقيق اضطراب، أقل من الأخبار الحقيقية بكثير، فخبر واحد كفيل بتغيير نتيجة انتخابات مثلاً أو على طريقة تعامل الناس في أوقات المصائب والملمّات. على سبيل المثال، نشر معلومة طبية زائفة واحدة كفيل بأن يودي بحياة الكثير من البشر، خصوصاً لو خرج هذا الخبر في ثوبٍ احترافي.
السؤال مرة أخرى: ما الذي يمكننا فعله لتجنب الأخبار الزائفة قبل أن تتمكن مواقع التواصل الاجتماعي والمؤسسات الإعلامية الرسمية من تناول المشكلة؟
من وجهة نظر سيكولوجية، الخطوة الأولى في التجنب تكمن في فهم كيفية اختراق هذه الأخبار أذهاننا. يمكننا التعامل مع هذا عبر استكشاف طريقة عمل الذاكرة وكيف يتم التلاعب بالذكريات في أدمغتنا للتأثير على تصديقنا للمعلومات المنشورة.
فهم وجهة النظر أعلاه يساعدنا على تحديد بعض النصائح والنقاط التي يمكن استخدامها لتعرف ما إذا كنت تقرأ خبراً زائفاً أو حقيقيًّا، والحديث عن هذه النصائح لم يعد أمراً كماليًّا، بل ضروريًّا فِي عصر الـInfodemic أو عصر وباء المعلومات، إذ يتم إغراق الإنترنت بكميات مهولة من المعلومات غير الحقيقية وخلطها بالحقيقي؛ لتوليد ذلك الحس عند الناس بعدم التصديق والشك، وبالتالي يفقد الناس قدرتهم على تصديق أيِّ شيء مهما كان حقيقيًّا أو عاطفيًّا أو مؤثراً، وقد تحدثنا في "مسبار" سابقاً عن دور الأخبار الزائفة في تبليد العاطفة وتحييدها.
التلاعب في الذاكرة للتأثير على الوعي
تعتمد الأخبار الزائفة غالباً على ما يُعرف في علم النفس باسم "الإحالات الذاكرية الخاطئة" ومعناها أن نربط بين حدثٍ ما بشيء آخر ليس له علاقة أو ارتباط، أو أن نتذكر أمراً -في الذاكرة- في وقت ما، دون أن نعرف مصدره أو سبب التذكر (إحالة خاطئة).
تعد "الإحالات الذاكرية الخاطئة" إحدى أهم أسباب نجاح الحملات الإعلانية وفعاليتها عالميًّا. فنحن عندما نذهب إلى السوق، ونرى مُنتج معجون الأسنان من ماركة مُعينة، ونشعر معه بالألفة والمعرفة السابقة، ما يدفعنا لشرائه، دون معرفة أنَّ سبب هذه الألفة هو الإعلانات المتكررة على التلفاز مثلًا، وليست ألفة أو ذكرى خاصة بنا (بالمعنى الحرفي للكلمة).
عمدت دراسة إلى استكشاف عناوين الأخبار الزائفة المنشورة قُبيل الانتخابات الأميركية عام 2016. وجد الباحثون أنَّ عنواناً واحداً مثل: "ترامب يُرسل طائرته الخاصة لنقل 200 جندي مارين عالقين" كان كافياً لدفع الناس لتصديق محتواه، مع العلم أنه تم إثبات زيف الخبر. استمر تأثير الخبر لأسبوع على الأقل، بل كانت مواقع التحقق من الأخبار تستخدم العنوان نفسه أو ما يشبه (عنوان مضلل)، وحتى الأشخاص الذين كانوا يكون في الخبر، استمروا في نشرهِ.
يمكن للتعرض المستمر للخبر نفسه أن يحوّل الوعي بهِ من كونهِ خاطئاً/مُضللاً ليصير صحيحاً (الوعي بهِ، ولكنه يبقى خاطئاً)، حيث يصنع التكرار وهماً بإجماع كبير يمكن أن يؤدّي إلى ذكرى جماعية خاطئة، وهي ظاهرة تعرف في علم النفس بـ "تـأثير مانديلا" وقد جاء اسم هذا الظاهرة من أنَّ مجموعة كبيرة من الناس تتذكر تفاصيل وفاة "نيلسون مانديلا" في ثمانينيات القرن الفائت، حين كان في السجن رغم أنه مات في عام 2013.
لا يكون الأمر مؤذياً عندما يتذكر الناس جماعيًّا ذكرى خاطئة مُسلية أو ممتعة مثل كلمات الأغاني القديمة، كأغنية محمد منير "شجر المزطرح" بدلًا من "شجر الموز طرح"ـ ولكن تكون له عواقب وخيمة عندما يساهم الحس الكاذب عند الناس في زيادة تفشي مرض الحصبة أو فايروس كورونا المستجد في عصرنا.
لقد حقق العلماء في ما إذا كان التضليل المستهدف يمكن أن يعزز من السلوك الصحي. يقال أنَّ الحميات الغذائية القائمة على الذاكرة الزائفة لتجارب الطعام يمكن أن تشجع الناس على تجنب الأطعمة الدهنية والكحول وحتى إقناعهم بحب نبتة الهليون.
قد يكون الأشخاص المبدعون ذوي القدرة القوية على ربط الكلمات المختلفة معرضون بشكل خاص للذكريات الزائفة. قد يكون بعض الأشخاص أكثر عرضة من غيرهم لتصديق الأخبار الزائفة أيضاً، ولكن الجميع معرضون لها دون تمييز.
كيف يمكن للانحيازات الإدراكية والمعرفية أن تؤثر على تعزيز الأخبار الزائفة
التحيز/الانحياز يعني الكيفية التي تؤثر بها مشاعرنا ونظرتنا للعالم على ترميز الذاكرة واسترجاعها. قد نود أن نفكر في ذاكرتنا على أنها أمين المحفوظات الذي يحفظ الأحداث بعناية، ولكن في بعض الأحيان يتحول دوره إلى راوٍ للقصص. تتشكل ذكرياتنا من خلال معتقداتنا ويمكن أن تعمل الذاكرة بطريقة أخرى لصيانة رواية ما، لتبقى متسقة في أذهاننا بدلاً من التوثيق الدقيق لها.
خير مثال على الانحياز أعلاه هو "التعرض الانتقائي": ميلنا للبحث عن معلومات تعزز وترسخ معتقداتنا ومعلوماتنا المسبقة وتجنب المعلومات التي تجعل هذه المعتقدات موضع شك وتساؤل، ويكون هذا جليًّا أحياناً في انحيازنا لمرجع مُعين دون غيره للمعلومات في نقل رواية ما أو تغطية إخبارية معينة. وهذا التأثير مدعوم بدليل أنَّ جماهير الأخبار التلفزيونية متحزّبون ومتحيّزون بشكل كبير ويعيشون في عوالمهم الخاصة، إذ يستمعون لنفس الأخبار والأشخاص ويقرؤون نفس الكتب.
كان يُعتقَد أنّ المجتمعات عبر الإنترنت تظهر نفس السلوك مما يساهم في انتشار الأخبار المزيفة، ولكن تبين أنَّ هذا ليس إلا أسطورة. غالباً ما يدخل مواقع الأخبار السياسية زوارٌ من خلفيات أيديولوجية متنوعة، وبالتالي، من المرجّح أن نجد العوالم المنغلقة للجماهير موجودة في الحياة الواقعية أكثر من الإنترنت.
عقولنا مُبرمجة لافتراض أنَّ الأخبار والمعلومات التي نقرأها وتتجانس مع ما نعتقد على أنها نشأت من مصدر موثوق. ولكن هل نحن أكثر ميلاً لتذكر المعلومات التي تعزز معتقداتنا؟ ربما الحال ليس كذلك. يتذكر الأشخاص ذوي المعتقدات القوية أموراً ذات صلة بمعتقداتهم ولكنهم يتذكرون المعلومات المتعارضة أيضاً. يحدث هذا لأنَّ الناس مفطورين على الدفاع عن معتقداتهم ضد الآراء المتعارضة.
"أصداء المعتقدات" هي ظاهرة ذات صلة تسلط الضوء على صعوبة تصحيح المعلومات الخاطئة. غالباً ما تُصمَّم الأخبار الزائفة لتكون ملفتة للانتباه. يمكن للمعلومات الخاطئة الاستمرار في تشكيل مواقف الناس حتى بعد فقدانها لمصداقيتها، لأنها تنتج رد فعل عاطفي حيوي وتعتمد على سردياتنا القائمة. في حين أنَّ التصحيحات لها تأثير عاطفي أصغر بكثير، خاصة إذا كانت مرتبطة بتفاصيل السياسات، وعليه، ينبغي أن تكون مصممة لتلبية الرغبة السردية لدينا وفعالة في مسح أثر المعلومات الخاطئة.
نصائح لمقاومة الأخبار الزائفة
كما أشرتُ في مقدمة المقالة، حسب الطريقة التي تعمل بها ذاكرتنا، فقد يكون مستحيلاً أحياناً مقاومة وتجنب الأخبار الزائفة، ولكن هناك نصائح لمحاولة كسر هذا المستحيل، إذ علينا أن نبدأ التفكير بعقلية العالِم. يُلزمنا هذا بتبني الأساليب التشكيكية وعقلية التساؤل المُحفَّزَة بالفضول، وإدراك تحيزاتنا الخاصة؛ ولعل هذه الأسئلة تساعدنا في تحقيق ذلك:
- ما نوع المحتوى؟ يعتمد الكثير من الناس على وسائل التواصل الاجتماعي ومجمعات الأخبار بوصفها مصدراً رئيساً للأخبار. من خلال التفكير في ما إذا كانت المعلومات أخباراً أو رأياً أو حتى دعابة، يمكن أن يساعد ذلك في تركيب المعلومات بشكل أفضل في الذاكرة.
- أين نُشرَ؟ يعد الانتباه إلى مكان نشر المعلومات أمرًا بالغ الأهمية لتوثيق مصدر المعلومات في الذاكرة. إذا كان هناك شيء مهم، فستناقشه مجموعة متنوعة من المصادر، لذا من المهم الانتباه إلى هذه التفاصيل.
- من المستفيد؟ التفكير في من سيستفيد منك عند تصديقك للمحتوى يساعد في توثيق مصدر تلك المعلومات في الذاكرة. يمكن أن يساعدنا أيضًا في التفكير في مصالحنا الخاصة وما إذا كانت تحيزاتنا الشخصية لها دور أم لا.
يميل بعض الناس إلى أن يكونوا أكثر عرضة للأخبار المزيفة لأنهم أكثر قبولًا للادعاءات الضعيفة، ولكن يمكننا أن نسعى جاهدين لنكون أكثر تفكيرًا وفضولًا في انفتاحنا من خلال الانتباه إلى مصدر المعلومات ومساءلة معرفتنا الخاصة ما إذا كنا غير قادرين على تذكر سياق ذكرياتنا.
المصادر