يُعدُّ مُصطلح الأخبار الزائفة جديداً نسبياً، إلا أنه يُمثِّل أحد أكبر مُهدِّدات النقاش الحر والديمقراطية. وبقدر ما نعتقد أننا جيّدون في اكتشاف الأخبار الزائفة، والتشكيك فيما نسمعه، إلا أننا في النهاية عرضة لأي معلومات تدفعنا لاتخاذ قرار يبدو صحيحاً بالنسبة لنا، حتى إذا كان خاطئاً على المدى الطويل. لكن كيف تعمل الأخبار الزائفة؟ هل يُقدّم علم الأعصاب أية إجابة؟ وكيف يمكن للبحوث أن تفهم تعرّض الناس للتضليل؟ وهل يُمكن الحديث عن عواطف زائفة، أو تفكير زائف، تمرُّ من خلاله الأخبار الزائفة؟ والأهم من ذلك: هل يُمكن للعواطف نفسها أن تحمينا من التضليل؟
نعرفُ أنه زائف.. لكنه يُعجبنا
صحيحٌ أنّ شركات مثل فيسبوك وغوغل، تتخذُ بعض الخطوات للحدِّ من التضليل السياسي، لكن مع سعي دونالد ترامب لإعادة انتخابه عام 2020، يبدو أننا سنشاهد عدداً كبيراً من المعلومات الزائفة أو المضللة، كما في المرّة السابقة. إذ يُمكن لأي شخص، نشر أيّ ادّعاء يريده عبر مواقع التواصل الاجتماعي، بصرفِ النظر عن صحته. والسؤال هنا: إلى أي مدى يؤمن الناس بما يقرؤونه عبر الإنترنت؟ وما هو تأثير التضليل حقًّا؟ لو جربنا أن نسأل الناس، ستجيب الغالبية بأنها لا تثقُ بالأخبار التي يرونها عبر وسائل التواصل الاجتماعي. ووجدت دراسة أنّ 43٪ من مستخدمي مواقع التواصل الاجتماعي اعترفوا بمشاركة محتوى غير دقيق بأنفسهم. لذلك، يُدركُ الناس من حيث المبدأ، أنّ المعلومات الزائفة شائعة على الإنترنت. لكن لو سألنا الناس، أين اكتسبوا "الحقائق" التي تدعم آرائهم السياسية، ستكون إجابتهم: وسائل التواصل الاجتماعي! يظهرُ أنّ مصدر المعلومات السياسية للعديد من الأشخاص أقل أهميةً، مقارنةً بكيفية ملاءمته لآراءهم الحالية.
لفت الانتباه
أوّل ما تقوم به الأخبار الزائفة هو لفت انتباهنا، لهذا نجدها تنطوي على الإثارة غالباً. وقد لاحظَ عالما النفس بينكوك وراند، أنّ إحدى أسباب نجاح الادّعاءات الحزبية المُفرطة، هو غرابتها. وتُعدُّ "الإثارة" مفهوماً ضروريًّا لفهم الأساس العصبي للسلوك، لأنّ الإثارة تلعبُ دوراً في كافة مراحل المُعالجة العصبية. كما أظهرَت علوم الأعصاب الحسيّة أنّ المعلومات غير المتوقعة، هي التي يمكنها فقط الوصول إلى مراحل عليا من المعالجة، في حين تقلُّ الاستجابات العصبية للمعلومات الّتي تعرّضنا لها مُسبقاً، أي تكوّنت لدينا ذاكرة حولها. ترتبطُ الإثارة بالتحفيز، حيث يرتبطُ الناقل العصبي الدوبامين (Dopamine) بتحقيق الرضا، والأشياء الجديدة تملكُ قدرة أكثر على تحقيقه. وتُشير الدراسات إلى أنّ قدرة الحُصّين (أحد مكونات الدماغ) على خلقِ اتصالات متشابكة بين الخلايا العصبية، تزدادُ بفعلِ الإثارة.
أخبار زائفة.. ذاكرة كاذبة
تجري عملية التّعلم وتشكيل الذاكرة أثناء النوم – بوصفه الإطار الزمني المحدود لدمجِ المعلومات المُكتسبة في النّسق اليومي – ولذلك يتكيّفُ الدماغ في تحديد أولويات المعلومات المُخزّنة، والتي تحظى المعلومات المُستفزّة عاطفيًّا فيه، بأقوى فرص البقاء في الذاكرة، وبذلك تُعزّز الأخبار الزائفة جاذبيتها إثر ارتباطها بتشكيل الذاكرة. فقد بيّنت دراسة أنّ التعرّض إلى البروباغندا قد تُثيرُ ذكريات زائفة. ومثال ذلك، إحدى أكبر تجارب الذاكرة الكاذبة (False Memory) التي جرت في إيرلندا قبل أسبوع من استفتاء الإجهاض عام 2008، حيث عبّر نصف المشاركين عن ذاكرة كاذبة تجاه حدث مُلفّق على الأقل، وأكثر من ثلث المشاركين عبّروا كأنها ذاكرة شاهد عيان. وخَلصت التجربة إلى أنّ الناخبين هم الأكثر عرضةً لتشكيل ذاكرة كاذبة حول الأخبار الزائفة التي تتوافق مع معتقداتهم، خاصةً في حالات القدرة المعرفية/الإدراكية المنخفضة.
التوسّلات العاطفية
إنّ قدرة الأخبار الزائفة على جذب انتباهنا، ومن ثم الاستيلاء على دوائر التعلم والذاكرة لدينا، تُساعد في شرح نجاحها. إلا أنّ سرّ قوتها يكمنُ في قدرتها على جذبِ عواطفنا. تُظهر الدراسات، أنّ النص يحظى بانتشارٍ أوسع عندما يحتوي على درجة عالية من العواطف الأخلاقية. وغالباً ما تكون القرارات مدفوعة بعاطفة عميقة يَصعبُ تحديدها، ففي عملية إصدار الحكم، يتشاور الأشخاص أو يشيرون إلى معجم عاطفي، يحمل جميع الإشارات الإيجابية والسلبية المرتبطة – شعوريًّا أو لاشعوريًّا – بسياقٍ معين.
يعتمدُ الناس على قدراتهم في التأطير المرجعي للمعلومات عاطفيًّا، بحيث تجمعُ بين الحقائق والمشاعر، فالمشاعر الإيجابية أو السلبية تجاه الأشخاص والأشياء والأفكار، تنشأ أسرع من الأفكار الواعية. فمجرد التعرّض لعنوان خبر زائف، يزيدُ من الاعتقاد بهذا العنوان، لذا فإنّ تصفّح مواقع التواصل الاجتماعي المحمّلة بمحتوى مُستفز عاطفيًّا، يُغيّر طريقة رؤيتنا للعالم واتخاذ القرارات السياسية. إنّ الإثارة والقناعة العاطفية التي تملكها الأخبار الزائفة، والطريقة التي تتفاعل بها هذه الخصائص مع إطار ذكرياتنا، تفوق القدرات التحليلية لأدمغتنا. وفي غياب أي منظور موثوق للواقع، فإنه محكومٌ علينا بالتنقل في هوياتنا ومعتقداتنا السياسية تحت رحمة وظائف الدماغ الأساسية.
تفكير زائف
وجدت الأبحاث في استفتاء خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي والانتخابات العامة لعام 2017، أنّ الناخبين غالباً ما اتخذوا قراراتهم بناءً على حجج زائفة للغاية. مثلاً، جادلَ أحد الناخبين بأن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، سيوقف استيلاء الشركات الأجنبية على السوق البريطاني. وكذلك، تحدث أحد الناخبين عن عمليات ترحيل جماعي لأي مقيم غير بريطاني، في حال غادرت بريطانيا الاتحاد، وهي سياسة متطرفة أكثر مما قدمه السياسيون خلال الحملة. والخيط المشترك بينهما، أنهما حصلا على المعلومات لدعم حججهم من مواقع التواصل الاجتماعي. لكن، كيف يمكننا تفسير هذا التناقض، بين الإدراك بأنّ وسائل التواصل الاجتماعي مليئة بالمعلومات الزائفة، ومع ذلك الاعتماد عليها لتكوين آراء سياسية؟ يتطلبُ ذلك النظر إلى ما أصبح يُعرف بـ"بيئة ما بعد الحقيقة"، والتي تنطوي على التشكيك في جميع المصادر الرسمية للأخبار، والاعتماد على المعتقدات والتحيّزات المُتشكلة من الأحكام المسبقة العميقة، والبحث عن معلومات تؤكد التحيّز بدلاً من التفكير النقدي.
يحكمُ الناس على المعلومات، بناءً على قابليتهم لتصديقها بدلاً من دعمها بالأدلة. ولا يُمكن الإجابة على رفض التفكير النقدي، بانعدام ثقة الناس العاديين بمصادر النخبة: السياسيين والصحافيين. وفي ذلك، يُقدم علم النفس بعض الإجابات، فبناءً على سلسلة تجارب، يُجادل كلٌ من كانيمان وتويرسكي أنّ الذكاء ليس له تأثير يذكر على إصدار أحكام غير واعية. تُظهر اختبارات الذكاء قدرة الحجّة المنطقية، إلّا أنّه لا يُمكن التنبؤ أنها ستُفعّل في كل لحظة نحتاجها، فلنأخذ على هذه الحالة مثال الانتخابات.
في الحملات الانتخابية، يُقدم كل سياسي رواية معينة لسياساته أو حول خصومه، والناخبُ بدوره يدرك أن كل واحد من هؤلاء السياسيين يحاول إقناعه، فيحتفظُ بشكّ تجاههم. وكما هو معلوم، فإنّ الناخب العادي لديه حياته المزدحمة: وظيفة، عائلة، فواتير يجب دفعها، والمئات من القضايا المُلحّة. وهو يُدرك أهمية التصويت واتخاذ القرار الصحيح، إلا أنه يريد إجابة بسيطة على هذا اللغز القديم: من الذي يستحق صوتي؟ لذلك، بدلاً من إجراء تحليل نقدي لكل حجّة يواجهها، فإنه يبحث عن قضايا محددة يعتقد أنها تدقُّ مسماراً بين السياسيين المتنافسين. وهذه هي البيئة التي تكون فيها الأخبار الزائفة والتضليل على أشدّها.
الحقائق ليست كافية
نظراً لأن الحقائق ومعرفة الخبراء تُرفض مراراً لأنها "أخبار زائفة" أو تغرق في طوفان "الحقائق البديلة"، فإنّ تقديم المزيد من الحقائق لا يكون ناجعاً ضدّ السياسيين والأشخاص الذين يُظهرون مقاومة للحقائق التي تتعارض مع تحيزاتهم أو مشاعرهم. وفقاً لصحيفة واشنطن بوست، أدلى دونالد ترامب بأكثر من 12 ألف تصريح كاذب أو مضلل منذ أن أصبح رئيساً للولايات المتحدة. ورغم ذلك، فإنه ما يزال يتمتعُ بشعبية هائلة مع قاعدته السياسية، التي تُنشّط من خلال خطاباته العاطفية والعدوانية. ويبدو أنّ الحقائق الأوّلية غير قادرة على تغيير رأيهم. وكذلك الأمر في المملكة المتحدة، إذ يتبنى رئيس الوزراء بوريس جونسون نهجاً مماثلاً، فرغم الإجراءات التّي تُثيرُ الاستفهامات حولها، بما فيها التأجيل غير القانوني للبرلمان، إلا أنّه يواصلُ تحريك مؤيديه السياسيين بجاذبيته الظاهرة، وخطابه العدواني.
في حين يبدو أنّه من الممكن تحدّي سياسات ما بعد الحقيقة (Post-truth Politics)، عن طريق البحث الكمّي والبيانات الإحصائية والحقائق، فمن غير المرجح أن يكون ذلك كافياً دوماً، على الأقل عند مواجهة المشاكل المجتمعية العاطفية، مثل خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي أو التغيّر المناخي. وعليه، في الوقت الذي يعاني فيه النقاش العام حول العالم من تصادم بين الحقائق و"الحقائق البديلة"، يجب على الخبراء إيجاد طرق جديدة للوصول إلى الناس.
قبل سؤال الحقائق: كيف يشعر الناس؟
هل يمكن للبحوث الاجتماعية الكيفية أن تصلَ إلى الناس، أي ألّا تنصبَّ اهتماماتها على الحقائق المجردة، إنما على ما تعنيه الأشياء للناس في حياتهم اليومية؟ يُجادل كتاب "Embodied Research Methods"، أنه لا يُمكن لعلماء الاجتماع الاعتماد على الحقائق فقط، في سعيهم لفهم الحياة اليومية، بل عليهم تقديم تفسيرات دقيقة توضّح كيف يعيشُ الناس ويواجهون المشاكل.
ويُجادل عالم الاجتماع سي رايت ميلز أنه لا يُمكن للعلوم الاجتماعية أن تكون ذات مغزى للناس، إلا إذا تناولت المشاكل المجتمعية والمتاعب الشخصية، وارتباطهما. إضافةً إلى الاستفادة من الحقائق، يجب مواجهة الحقائق البديلة من خلال القصص والخبرات والمشاعر المشتركة للناس الحقيقيين، وكيفية تأثرهم بالقضايا العالمية الكبرى. فمثلاً، لا يمكننا قياس آثار التّغير المناخي وفهمها عن طريق فحص ارتفاع درجات الحرارة ومستويات البحر، بل يتطلبُ ذلك دراسة كيفية إدارة الناس لحياتهم بطرق متنوعة في سبيل التّكيف مع هذا العالم المتغير. سواء أجرى علماء الاجتماع مقابلات مع الأشخاص أو شاركوا في حلقات التدارس، فإنهم يكتشفون كيف تؤثر القضايا الكبرى التي تواجه العالم على الأفراد والمجتمعات. وهذا لا يعني أنّ البحوث الكمّية أقل علميةً، إنما تساعد البحوث الكيفية في جعل القضايا الكبرى عواقبها أكثر واقعية، مقارنةً بالأرقام.
العواطفُ تُضلِلنا لكنها ترياق أيضاً
بما أننا نعيشُ في عصر ما بعد الحقيقة، حيث تجدُ كل حقيقة أخرى بديلة لها تنفيها، يُصبح توفير المزيد من الحقائق ودحض ما هو زائف غير كافٍ للوصول إلى الحقيقة، ولذلك، يكمنُ الحلُّ في الناس أنفسهم، فالعواطف والتجارب التّي تُضلّلنا وتُمرّر المعلومات الزائفة لنا، يُمكن أن تكون في الآن نفسه ترياقًا. يُبيّن عالم الأعصاب أنطونيو داماسو، أنّ الشعور بالألم والمتعة يمكن أن يساعدا على اتخاذ قرارات معقولة وعقلانية، كونهما يجعلاننا نهتمُّ بعواقب أفعالنا. وبذلك، فإنّ العواطف والتجارب هما ترياق هام يجعلاننا نُشكّك في الادعاءات التي لا أساس لها، والاستنتاجات المتسرعة والأخبار الزائفة. فإذا بحثنا عن أوّل ما تقوم به الأخبار الزائفة، سنجد أنّها تلفتُ انتباهنا بما تنطوي عليه من إثارة. وما يقفُ حائطًا أمام ذلك، هو التفكير النقدي والشعور بالمسؤولية تجاه التجاوب مع ما هو مشكوك فيه، والعواطفُ هي من تقودُ هذا التفكيرُ إلى هذا الاتجاه. إنّ ادعاءاتنا تسوقُ تَعييننا لما هو زائف، وما هو حقيقي، والتّحدي الذي يكمنُ في عملية تشكيل الوعي ليس وجود جهة توفّر حقائق، بل إمكانية الوثوق في جهة تُحدّد ما هو زائف.
المصادر: