صور محدثة بواسطة الذكاء الاصطناعي لأشخاص تنسب إليهم أقوال وأفعال لم يقوموا بها أبداً، عبر تقنية شبكة الخصومة التوليدية، التي تجعل من هذا التزييف أمراً متاحاً على نطاق واسع وسهل الاستخدام نسبيّا. تعرف هذه الآلية "بالتزييف العميق"، الذي من شأنه التأثير على الاستقرار السياسي والاجتماعي والتلاعب بالرأي العام عبر هويات مضللة.
في 15 يوليو/تموز الجاري، بحثت وكالة رويترز عن هوية كاتب بريطاني يعرف باسم أوليفر تايلور، لكن محاولات الوصول إليه، ولمن كان وراءه، باءت بالفشل. يقدم أوليفر نفسه "كطالب بجامعة برمنجهام في إنجلترا في العشرينيات من عمره وله عينان بنيتان ولحية خفيفة وابتسامة جافة بعض الشيء".
وفق رويترز، تصفه لمحات عن شخصيته منشورة على الإنترنت بأنه نشأ في بيت يهودي تقليدي، عاشق للقهوة، مدمن للشأن السياسي ومهتمّ بقضايا مناهضة السامية والشؤون اليهودية. كما تكشف منشوراته أنه كاتب حر، لم تتجاوز عدد مقالات وتدويناته المنشورة على الإنترنت الست، ونشرت له مقالات باسمه في صحيفتي جيروزاليم بوست وتايمز أوف إسرائيل.
خلال البحث عنه وجدت رويترز أن جامعته لا تملك أي سجلات عنه، وليس له بصمة واضحة على الإنترنت سوى حساب على موقع كورا، القائم على أسئلة وأجوبة، كان نشطاً في استخدامه لمدة يومين خلال شهر مارس/آذار الفائت، ويبدو أن تيلور لم يكن له وجود على الإنترنت إلى أن بدأ يكتب مقالاته في أواخر ديسمبر/كانون الأول الماضي.
وتقول صحيفتان نشرتا كتابات له أنهما حاولتا دون جدوى التأكد من هويته. واستخدم خبراء في الصور الخداعية برامج متطورة أكدت أن الصورة المنشورة على صفحته تمثل تزييفاً متقناً مما يطلق عليه التزييف العميق.
ولا تعرف رويترز من يقف وراء تيلور. وكان الرد على مكالمات لرقم الهاتف البريطاني الذي قدمه للمحررين رسالة مسجلة عن خطأ في الاتصال. ولم يرد تيلور على رسائل أرسلت إلى عنوان المراسلة على بريد جيميل الإلكتروني.
وكشفت رويترز أن من نبهها على اكتشاف شخصية تيلور الوهمية، الأكاديمي مازن المصري، المقيم في لندن الذي أثار اهتماماً دولياً في أواخر عام 2018 عندما ساعد في رفع دعوى في"إسرائيل" على شركة المراقبة إن.إس.أو بالنيابة عن مكسيكيين قيل إنهم ضحايا لتكنولوجيا اختراق الهواتف التي ابتكرتها تلك الشركة.
يأتي ذلك بعد أن اتهم تيلور المصري وزوجته ريفكا برنارد، الناشطة في مجال الحقوق الفلسطينية بأنهما من الشخصيات المعروفة بالتعاطف مع الإرهاب وذلك في مقال نشرته صحيفة ألجماينر اليهودية الأمريكية. في الأثناء نفى المصري وزوجته صحة الادعاء متسائلين عن سبب توجيه طالب جامعي الاتهامات لهما بالذات.
وقال المصري للوكالة إنه بحث عن صورة تيلور الموجودة على الإنترنت، وبدا له شيء غريب فيها لكنه لم يستطع أن يحدد طبيعته. وقال ستة خبراء استطلعت رويترز آراءهم إن الصورة بها خصائص التزييف العميق.
شخصية تيلور أضحت مثالاً نادراً لظاهرة الجمع بين التزييف العميق والتضليل الإعلامي، الذي دق ناقوس الخطر في واشنطن وفي وادي السيلكون موطن صناعة التكنولوجيا في الولايات المتحدة. وفي العام الفائت حذر النائب آدم شيف رئيس لجنة الاستخبارات بمجلس النواب من أن مقاطع الفيديو التي يتم توليدها باستخدام الكمبيوتر قد تحُول ”زعيماً عالمياً إلى دمية لشخص يتكلم من بطنه“.
ووفقًا لتقرير صادر عن شركة DeepTrace Labs للأمن السيبراني في أكتوبر/تشرين الأول 2019، فإنّ ظاهرة التزييف العميق تنمو بسرعة عبر الإنترنت، إذ تضاعف عدد مقاطع الفيديو على مدار الأشهر السبعة التي سبقت تاريخ البحث إلى 15 ألف مقطع. وأثبتت أنّ الاتجاه الرئيسي لهذا التزييف يتمثل في بروز المواد الإباحية غير التوافقية، التي شكلت 96 ٪ من إجمالي مقاطع الفيديو على الإنترنت.
كما يؤثر التزييف العميق أيضاً على المجال السياسي، وفق التقرير، الذي كشف عن حالتين بارزتين في الغابون وماليزيا اللتين حظيتا بالحد الأدنى من التغطية الإعلامية الغربية. وهي تزييفات عميقة مرتبطة بتغطية حكومية مزعومة وحملة تشويه سياسي. كانت إحدى هاتين الحالتين تتعلق بمحاولة انقلاب عسكري، بينما استمرت الأخرى في تهديد سياسي بارز بالسجن.
يؤكد التقرير أنّ هذه الأمثلة مجتمعة هي أقوى المؤشرات على الكيفية التي تؤدي بها عمليات التزييف العميقة إلى زعزعة الاستقرار في العمليات السياسية. وقال إنه دون الاعتماد على الإجراءات المضادة، فإن سلامة الديمقراطيات حول العالم معرضة للخطر. وبدا قلق شركات التواصل الاجتماعي جليًّا مخافة إغراق مواقعها بالحسابات الوهمية لأنه يصعب اكتشافها تلقائيًّا، وفق ما ذكره موقع technologyreview وهو ما دفع فيسبوك لاستخدام الذكاء الاصطناعي للمساعدة في مكافحة التزييف والتجأ للتدريب على اكتشاف مقاطع الفيديو بإطلاق أكبر مجموعة بيانات تضم أكثر من 100 ألف مقطع.
من جانبه يقترح فيسبوك تحسين الكشف عن التزييف العميق باستخدام تقنيات تتجاوز تحليل الصورة أو الفيديو نفسه، إلى جانب تقييم سياقها أو مصدرها. كما أعلنت شركة فيسبوك اختتام مسابقة تحدي رصد التزييف العميق التي تهدف لمساعدة الباحثين على التعرف تلقائيا على اللقطات المزيفة.
وفي الأسبوع الماضي كشفت نشرة ذا ديلي بيست على الإنترنت عن شبكة من الصحفيين المزيفين باستخدام التزييف العميق تمثل جزءاً من مجموعة أكبر من الشخصيات الوهمية التي تعمل على نشر الدعاية على الإنترنت. وكانت "ديلي بيست" نشرت عام 2019 تقريرا تحدثت فيه عن آلية التزييف العميق وقالت إنّ عمليات التزييف ظهرت لأول مرة في أواخر عام 2017 على موقع Reddit، قام بها مستخدم مجهول يطلق على نفسه اسم "التزييف العميق"، وقام بوضع وجوه المشاهير على مواد إباحية.
وكالة رويترز نقلت عن دان براهمي الذي تتخصص شركته الناشئة سيابرا في دولة الاحتلال في رصد الصور المزيفة، إن الشخصيات الوهمية المركبة من خلال التزييف العميق خطرة لأنها يمكن أن تساهم في إنشاء "هوية لا يمكن رصدها على الإطلاق".
وقال براهمي إن المحققين الذين يسعون للوصول إلى أصل مثل هذه الصور كمن "يبحثون عن إبرة في كومة قش باستثناء أن الإبرة لا وجود لها".
وقالت جامعة برمنجهام في بيان إنها لم تستطع العثور على "أي سجل للشخص الذي يستخدم هذه التفاصيل". ويقول محررون بصحيفتي جيروزاليم بوست وألجماينر إنهم نشروا مقالات لتيلور بعد أن عرض عليهم مقالاته بالبريد الإلكتروني. وقالوا إنه لم يطلب مقابلاً مادياً وإنهم لم يبذلوا جهداً كبيراً للتحقق من هويته.
وقال دوفيد إيفون رئيس تحرير ألجماينر "لسنا وحدة استخبارات مضادة" لكنه أشار إلى أن الصحيفة طبقت ضمانات جديدة بعد تلك الواقعة. وبعد أن بدأت رويترز تستفسر عن تيلور سحبت صحيفتا ألجماينر وتايمز أوف إسرائيل مقالاته. وأرسل تيلور رسائل عبر البريد الإلكتروني للصحيفتين يحتج على رفع مقالاته لكن ميريام هيرشلاج محررة مقالات الرأي في صحيفة تايمز أوف إسرائيل قالت إنها صدته بعد أن فشل في إثبات هويته. وقال إيفون إنه لم يرد على رسائل تيلور.
وأبقت صحيفة جيروزاليم بوست وموقع أروتز شيفا على الإنترنت على مقالات تيلور رغم أن الموقع شطب الإشارة إلى المصري وزوجته باعتبارهما من المتعاطفين مع الإرهابيين.
ولم يحدث تفاعل يذكر مع مقالات أوليفر تيلور على وسائل التواصل الاجتماعي لكن هيرشلاج من صحيفة تايمز في إسرائيل قالت إنها لا تزال خطرة لا لأنها تشوه الخطاب العام فحسب بل لأنها يحتمل أن تجعل من هو في مثل موقعها أقل استعداداً للمجازفة بنشر مقالات لكتاب مغمورين، وفق رويترز.
مصادر مسبار