لطالما تم إنتاج العديد من المسلسلات والأفلام الوثائقية عن الجريمة والغموض، وكان الهدف دائمًا تسليط الضوء على عقلية القاتل، وإلقاء نظرة داخلية نادرة وكاشفة تجعل المشاهد ينجذب من خلال تسلسل الأحداث الواقعية لتلك الجريمة وتتبع خيوطها بهدف إثبات الحقيقة.
ولا تزال أفلام الجريمة الحقيقية وعروض الأفلام الوثائقية شائعة إلى حد كبير، خاصة ما تنتجه وتروج له شبكتا Netflix وHBO.
وسلّطت بعض هذه المسلسلات الوثائقية الضوء بشكل كبير على الجانب الأسوأ من النتيجة المتوقعة أو غير المتوقعة لهوية القاتل، وهو تدخل المحيط بنتائج الجريمة والوصول إلى الحقيقة، وهذا ما يحدث في سلسلة بعنوان "Crime Scene: The Vanishing at the Cecil Hotel" التي تناولت قصة اختفاء الطالبة الكندية من أصول صينية إليسا لام، والتي أضافتها شبكة نتفليكس مؤخرًا على منصتها.
المسلسل المكون من أربع حلقات من إخراج وإنتاج جو بيرلينجر، ينطلق فيه بيرلينجر، لتفسير ما حدث للطالبة الجامعية والسائحة إليسا لام، التي أقامت في فندق سيسيل في وسط مدينة لوس أنجليس في يناير/كانون الثاني عام 2013. حين غادرت كندا متوجهة إلى لوس أنجليس، وحجزت في الفندق الذي عُرف بأنه "سيء السمعة" لمدة أربعة أيام، ولكنها لم تغادره إلا جثة هامدة.
كانت لام معتادة على الحديث بشكل يومي مع والديها، وعندما انقطعت عن التواصل معهما؛ تم الإبلاغ عن فقدانها، وبدأت شرطة لوس أنجليس بتتبع آثارها التي كشفت أنها شوهدت لآخر مرة في فندق "سيسيل" في آخر أيام شهر يناير/كانون الثاني 2013، وبحثت شرطة لوس أنجليس عنها في أنحاء الفندق بأكمله بما في ذلك سطح الفندق مستخدمة كلاب البحث ولكنها لم تعثر في حينها على أي أثر لها.
لغز الاختفاء
سرعان ما تحول أمر فقدانها في ذلك الوقت إلى ما يشبه الأسطورة، فقد شارك في البحث عنها الكثير من مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي، وحاول البعض تفسير ما حدث عبر نظريات ما وراء الطبيعة والأرواح الشريرة؛ خاصة أن سمعة الفندق وتركيز الإعلام في ذلك الحين على تاريخه أعطاهم مادة خصبة لفعل ذلك، فقد كان الفندق استضاف في السابق عدة شخصيات غريبة وغامضة على مر التاريخ، مثل القاتل المتسلسل "ريتشارد راميرز" الذي قتل أربع عشرة ضحية قبل القبض عليه، وكان على الدوام يعتبر "الشيطان" قدوته، وهناك القاتل النمساوي "جاك أنترويجر" الذي أقام كذلك في الفندق ذاته.
بعد عدة تحقيقات من قبل شرطة لوس أنجليس، قرّر المحققون بأن يعودوا إلى تسجيل الكاميرات، وهنا نشرت الشرطة مقطع فيديو كرسالة لطلب المساعدة في إيجاد الفتاة، وظهرت فيه إليسا لام داخل المصعد، وهي تدخل وتخرج منه عدة مرات وتتحدث وتشير بيديها بحركات غريبة، ثم تضغط الأزرار، وتختبئ وتغادره في نهاية المقطع، وكان نشرُ هذا الفيديو بمثابة دعوة لمتحمسي التدوين لإطلاق أغرب النظريات عما حدث في ذلك المقطع، مثل أنَّ الشيطان يلاحقها، أو قاتلًا خطِرًا كان يركض وراءها، واتّهموا الشرطة وإدارة الفندق بالتآمر لمسح أجزاء من المقطع.
حقق هذا الفيديو رواجًا على مواقع عدة مثل يوتيوب وريديت، وانتشر في أنحاء الإنترنت نظراً لغرابته، وحصد ملايين المشاهدات خلال أسبوع ونصف، ما ساهم في جذب اهتمام عالمي للقضية وخاصة أنه أثار نوبة من الجنون في مجتمع "المتحمسين الإلكترونيين" الذين يمارسون هواية حل الجرائم عن بعد، بل تحول الأمر إلى هوس، فقد اعتبروا اختفاء إليسا لغزًا بالنسبة لهم، ويجب أن يجدوا الحل، وتصاعد صوت التهم عاليًا لجميع الجهات الرسمية المحيطة بالقضية.
أدت تلك الموجة من الاتهامات ومساهمة مستخدمي وسائل التواصل في التحقيق وتوقع النتائج ومصير الفتاة إلى فوضى كبيرة ساهمت فيها عدة عوامل كعدم كفاءة أداء الشرطة، وماضي الفندق، وتعاون إدارته المحدود مع الإعلام، ما جعل هؤلاء المدونين والنشطاء يغادرون الفضاء الرقمي، ويتجهون إلى الفندق، يبثّون مباشرة، ويلتقطون الصور.
وبدأت المنشورات بالتساؤل حول سبب عدم إغلاق المصعد مع أنها كانت تقوم بالضغط على أزراره، ورجّحت بأن هناك شخص خارج المصعد كان يمنع إغلاقه، وأقنعوا المتابعين بذلك بأن هناك قدمًا غريبة تظهر، كما ربطت المنشورات والآراء المرئية والمسموعة بين ما يحدث، وبين منشور لها على منصة تمبلر كانت قد نشرته مسبقًا قبل سفرها لأميركا، قالت فيه بأنها تريد لقاء الغرباء.
هوس التحليل
بثّ عددٌ كبير من هؤلاء المتحمسين عبر قنواتهم من خلال منصات مختلفة تحليلاتهم وآراءهم حول مقطع الفيديو المنتشر وتحليل كل تفاصيله بزوايا مختلفة من وجهة نظرهم، واعتبروا أنهم جزء من فريق التحقيق؛ لأنَّ المقطع سبب لهم فزعًا ورعبًا، وقد بدؤوا تلك التحليلات من خلال الرجوع إلى حساب لام على منصة تمبلر، بهدف فهم شخصيتها وطريقة تفكيرها، والتي كانت تدون عليها منشوراتها لسنوات.
ومن خلال تتبعهم لمنشوراتها وجدوا أنها تعترف بأنها كانت تعاني من الاكتئاب، ومن مرض ثنائي القطب، وهو الاضطراب ثنائي القطب، الذي كان يُعرف في السابق باسم الاكتئاب الهوسي، عبارة عن حالة صحية نفسية تتسبب في تقلبات مزاجية مفرطة تتضمن الارتفاعات (الهوس أو الهوس الخفيف) والانخفاضات (الاكتئاب) العاطفية.
وهنا بدأت التحليلات تأخذ منحى آخر مثل أنها فتاة ضعيفة وفريسة سهلة لأي قاتل يسكن في الفندق، كما أنها هربت من عائلتها بعد أن أصابها مكروهًا وفق تحليلهم لمنشوراتها على "تمبلر".
العثور على الجثة
بعد مرور 19 يومًا من اختفاء إليسا لام أبلغ زوجان من السياح البريطانيين هما مايكل وسابينا باو من نزلاء فندق سيسيل إدارة الفندق بشكوى من مياه الصنابير بغرفتهما، إذ إن تدفق المياه مضطرب ومتقطع والمياه تنزل داكنة وملوثة، وبعد طلب الإدارة من عامل الصيانة تفقد خزانات المياه أعلى المبنى تم العثور على جثة لام، غارقة وعارية في واحد من خزانات المياه، وتم إبلاغ إدارة شرطة لوس أنجلوس ولم يعلن سبب الوفاة لحين الانتهاء من تشريح الجثة.
وهذا التأخير في إصدار تقرير التشريح، زاد من مساهمات النشطاء، وبدأ تحريض المجتمع وترهيبه بأن هناك جريمة قتل حدثت في الفندق، وأن الإدارة متورطة مع الشرطة، خاصة أن الشرطة في بحثها الأولي عن الفتاة لم تفتش الخزانات، كما لم تقدم تفسيرًا لمقطع الفيديو وتلاعبها به، إلا بعد مرور وقت على تكاثر الإشاعات.
عاد المحققون لتتبع كاميرات الفندق كي يحصلوا على أي دليل لخروجها أو دخولها إليه وبعد عمل استمر لساعات في مراقبة الكاميرات، وجدوا إليسا تدخل مع رجلين حاملين صندوقًا تم تسليمه إليها، وبعد الرجوع لغرفتها مرة أخرى وجدوا نفس الصندوق، إذ كانت اشترت مجموعة من الكتب من مكتبة قريبة "ذا لاست بوك ستور" فعاد المحققون للمربع الأول للحصول على أدلةٍ جديدة حول اختفائها.
هذه النتيجة لم تُرضِ مجتمع المتحمسين، فقد دخل عددٌ منهم إلى موقع المكتبة الإلكتروني ونسخوا الرمز البريدي لعنوان المراسلة، ثم وضعوه على خرائط غوغل، ليظهر لهم مركز البلدة التي فيها المقبرة التي اختارتها عائلتها لتدفن فيها إليسا لام، ما زاد من الأوهام حول مؤامرة كبرى أحاطت بالفتاة.
كما سادت رواية الانتحار عندئذ بسبب معاناتها النفسية، إلا أنَّ البعض لم يصدقوا الرواية لأنها لا تتناسب مع تحليلاتهم التي وصلوا إليها، فقد كان جُلّ تركيزهم على البحث عن قاتل مفترض، وطالبوا بنشر تقرير التشريح للجثة، ونشروا بأنَّ هناك قاتل محتمل يتم التستر عليه.
كما افترضوا أنَّ من قام بذلك أراد التشبه بفيلم "المياه الداكنة Dark water" إنتاج 2005 المقتبس عن فيلم رعب ياباني يحمل الاسم ذاته، أُنتج قبله بثلاث سنوات، وتتحدث قصته عن أم وابنتها الصغيرة ذهبتا لفندق وتعرضتا فيه لمواقف مخيفة في المصعد وكانت ترتدي الطفلة ذات لون المعطف الأحمر الذي كان ترتديه إليسا في آخر يوم لها، كما توجد مياه داكنة تتسرب من الصنابير، وانتهى بوقوع ابنتها الطفلة بخزان المياه على السطح، ناهيك عن أنها تدعى "سيسيليا"، وهو الاسم المؤنث لـ"سيسل"، اسم الفندق محل الواقعة.
الأرواح الشريرة
واستمر الفيلم يعرض هذه المطاردة الافتراضية بين مجتمع المتحمسين الإلكترونيين والقاتل الوهمي، وبدؤوا بالتحقق من الموظفين والنزلاء الذين أقاموا في الفندق في الفترة نفسها التي أقامت فيها الفتاة، وعند تحليل كل مقاطع الفيديو المنتشرة على "يوتيوب" حول فندق سيسيل، وجدوا بأن هناك موسيقيّ اسمه موربيد يعزف موسيقى "ميتال"، ومهووس بالعنف، وقرروا أن يتحروا عنه على منصات التواصل الخاصة به ومشاهدة ما ينشر خاصة بعد أيام من العثور على جثة إليسا لام، فوجدوا أن هناك مقطع فيديو منتشر على الإنترنت، ويبدو فيه التوقيت مريبًا، كما كان مغطى بالدماء وتظهر خلفه صورة " تيد باندي " وهو سفاح معروف.
وعند البحث من قبل المتحمسين عن أغانيه المنتشرة، وجدوا بأن هناك أغنية له يقول فيها "سأترك بقاياك الرقيقة تستريح في المحيط العميق البارد حيث لا يسمع صراخ او صوت أبدًا.. أفكر بالصين"، وهنا اتهموه مباشرة أنه خلف قتلها خاصة مع مظهره الخارجي الغريب، وبدأوا بكتابة التغريدات التي تعتبره القاتل الحقيقي، ومراسلته والهجوم عليه وشتمه وبعد ذلك فاجأ موربيد الجميع بنشره مقطع فيديو وهو يرتدي قناعًا ليقول أنه بريء من قتل إليسا لام، لكن ذلك ولم يكن كافيًا لإيقاف الهجوم عليه، ما دمر مشروعه الموسيقي، وجعله يخضع لعلاجٍ نفسي.
هذا ما قاله حين ظهر موربيد لأول مرة منذ 7 سنوات ليفنّد اتهامات مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي، الذين جعلوا حياته جحيمًا بعدما قرروا بأنه قاتل إليسا لام، فقد استيقظ من النوم ليجد نفسه قاتلًا مفترضًا على وسائل التواصل المحلية، حتى أن بعض نشرات الأخبار أشارت إليه بأنه القاتل الحقيقي، وسبّب له ذلك صدمةً كبيرة، فهو لم يعرف ولم يسمع بـ إليسا لام مطلقًا؛ فقد كان في تلك الفترة التي يوثقها بمقطع الفيديوفي فندق سيسيل بالفعل، ولكن قبل عام من وجود الفتاة، وأظهر الأختام التي تثبت ذلك على جواز سفره، إذ أنه كان في المكسيك عند موتها.
وهكذا فإن الشائعات الإلكترونية في قضية فندق سيسيل قضت على سمعة الفندق الذي بيع نهائيًا الآن، كما أن هذه الشائعات زيفت الحقائق، بل إن مطلقيها بمثابة قتلة جدد في المجتمع من خلال تسرعهم بإطلاق تحليلاتهم التي تتناسب مع أفكارهم وغريزتهم كي يبدو التضليل الحقيقةـ والزيف واقعًا.
النشطاء غيروا نظريتهم
ولم يمر وقت حتى استسلم بعض هؤلاء النشطاء، خاصة بعد مرور وقت، وتَكَشُف مزيد من الحقائق، فقد اقتنعوا بنتائج تقرير التشريح بأنَّ ما وقع مجرد حادثة مأساوية، فالفتاة سقطت عن طريق الخطأ في خزان المياه وهي تحاول الاختباء، إذ أنها تفعل ذلك طوال الوقت، تريد فقط أن تبتعد وتختبئ كما تقول شقيقتها، وذلك بسبب عدم تناولها أدويتها المناسبة للتقليل من أعراض اضطراب ثنائي القطب، ولذلك حاولت الاختباء في الخزان إلا أنها لم تستطع الصعود إلى فتحته من جديد.
ووفقًا لتشريح جثتها فهي لم تتناول سوى الأدوية الموصوفة لها، ما أدى إلى نوبة هلوسة وحالة من الذهان، وهذا ما يفسر تصرفاتها في المصعد قبل صعودها إلى السطح، إذ افترض المحققون أنَّ ذلك الفيديو كان في آخر يوم لها.
وفسرت الشرطة ما حدث بالمصعد بأنَّ الفتاة الصينية الكندية كانت تدوس على زر عدم إغلاق الباب، لذلك بقي مفتوحًا، كما اعترفت الشرطة بإبطاء المقطع، والأهم أنها قدمت اعتذارًا عن تصريحاتها للإعلام حين قالت إنَّ غطاء الخزان كان مقفلًا وقت العثور الجثة داخله، وهذا لن تستطيع فعله لو كانت الحادثة ذاتية، لتتراجع الشرطة وتؤكد بأنه كان مفتوحًا، وهذا ما ساهم بشكل أساسي بأن يغير النشطاء توجهاتهم عن حل اللغز، ولكن أثرًا ما تركته هذه التحليلات على قطاع واسع من الجمهور الذي كان يتابع الحادثة، كما أثر بدوره على مسار التحقيق.
من خلال متابعة كل هذه الأحداث، تظهر السلسلة الطريقة التي كان يتغير فيها الرأي العام حول القضية، وكيف كان مستخدمو وسائل التواصل الاجتماعي يُغيرون خطابهم وتحليلهم وفقًا للمستجدات التي تطرأ على الأرض، وهو ما يترك أثره على الجمهور الذي يتابع هؤلاء النشطاء. كانت هناك الكثير من المعلومات التي من شأنها أن تغير مسار الوصول إلى الحقيقة، أو إلى تغيير المسار بشكل كامل، وهو ما يعني أنَّ كثيرًا من القضايا كانت النهاية فيها لا تعبر بالضرورة عن حقيقة ما جرى.
المصادر: